الصفعة المقدسة
أن تقوم مشادة كلامية في قريتنا فهذا أمر عادي ، ولو تحولت تلك المشادة إلى شجار بالأيدي والعصي بين شخصين أو أكثر، لدام الأمر ساعة أو ساعتين ثم انقضى. لكن الذي أبقى أثر تلك المشادة وما تلاها من أحداث، هو أن أحد طرفيها لم يكن شخصاً عادياً. فالشيخ ياسين كان من أعلى الناس شأناً في قريتنا، ليس عن مال ولا جاه، وإنما لأنه وبكل بساطة هو الإسلام في قريتنا. منذ تخرجه في الأزهر وهو يهب نفسه للقرية ، كافح مع موسريها ،ومع الحكومة والأوقاف لبناء مسجدٍ كبيرٍ بدلاً من الزاوية المهملة. كان يؤم الناس في الصلوات الخمس ، ويخطب فيهم في الجمع، ويقوم معهم ليالي رمضان وتهجده . يعقد القران و يغسل الأموات ويقرأ القرآن في المآتم . كل شيء. لم يتخيل أحدنا الوضع في قريتنا لو غادرها هذا الشيخ. ولم يعامله أحد إلا بكل تبجيل واحترام. حتى أبناء نوفل خصوم عائلة المرسي- عائلة الشيخ- حتى هؤلاء كانوا يتسابقون للسلام عليه ويتبركون به وبدعائه.
لذلك كان اليوم الثاني من شهر رمضان هو يوم العجب والدهشة. كانت صدمة ما حدث شديدة الوطأة على الجميع،ما عدا الشيخ نفسه ، رغم الصفعة التي نزلت على وجهه من يد سليمان نوفل، ذلك الفتى الذي لم يتعد العشرين يضرب شيخنا الجليل ذا الأربعين عاماً. في وضح النهار الرمضاني و وسط كل الناس وقف الاثنان يتحادثان ، وسليمان يحاول شد الحمار من يد الشيخ ياسين. من رأى المشهد في بدايته لم يهتم . لكن يد سليمان ارتفعت وفرقعت على وجه الشيخ ياسين . ارتفعت الرءوس من الحقول، توقف السائرون. أطلقت إحدى النساء صواتها. حتى البهائم بدا أنها توقفت عن الحركة. نظر الجميع إلى الشيخ منتظرين رده. قال بلال الذي كان أقرب الناس لهما أن الشيخ ياسين قال وهو يربت بيده على صدره ، وكأنه يحيي سليمان:
– الله يسامحك يا سليمان.
وأخذ حماره وانصرف من أمام سليمان الذي خفض رأسه في خجل. انطلق أذان الظهر وهرول الجميع إلى المسجد ، ولا حديث سوى عن شيخ القرية الذي ضُرب. والغريب أن أحداً لم يحاول لوم سليمان ، ومن سلم منهم على الشيخ ياسين بعد الصلاة لم يقل أكثر من "تقبل الله". كان أول من ذكر الحادث هو مصطفى شقيق الشيخ. سمع عما حدث في حقله فأخذ يعدو نحو المسجد، ولما وجد الشيخ انصرف والناس مازالوا يتحدثون، جرى في اتجاه منزل الشيخ، أدركه قبل أن يصل. كان الشيخ شارداً وانتفض عندما لمس أخوه ذراعه:
– صحيح ما يقال يا شيخ ياسين؟
رد الشيخ بهدوئه المعتاد:
– وماذا يُقال يا مصطفى؟
– أن سليمان نوفل....
بدا مصطفى مرتبكاً رغم غضبه فأكمل له الشيخ:
– صفعني على وجهي.
اتسعت حدقتا مصطفى وقال:
– يعني صحيح.
– نعم.
بدا مصطفى كأن بركاناً خامداً اشتعل داخله فجأة. قال لأخيه:
– ويمين الله لا يمر هذا اليوم حتى تكون رددت له الصفعة بعشرة.
قال الشيخ بدون أن يخرج عن هدوئه:
– صلِ على النبي يا مصطفى.
– عليه الصلاة والسلام. لكن وحياة الرسول . حرام عليّ بيتي إن لم ترد له الصفعة بعشرة اليوم.
هز الشيخ رأسه يميناً ويساراً وقال:
– اللهم اهده.
ثم أكمل سبيله غير عابئ بأخيه الثائر، فما لبث مصطفى أن انطلق يعدو ثانية ماراً بالشيخ. سبقه إلى بيوت العائلة فأبلغ من لم يعلم وأكد على من سمع وارتاب. وما أن وصل الشيخ إلى منزله حتى وجد مظاهرة من رجال العائلة تنتظره في المندرة.
– السلام عليكم.
لم يجد الشيخ من يرد السلام. فقط قال زوج أخته:
– اجلس يا شيخ ياسين.
جلس وقد أخذ يداعب حبات مسبحته. قال عمه وهو كبير العائلة:
– اسمعني يا شيخ ياسين. ما حدث اليوم يجب ألا يمر دون رد.
– يا عمي ما حدث أمر يخصني وحدي.
كاد أخوه أن يرد ولكن عمه أوقفه بإشارة من يده، ثم قال للشيخ:
– لا يخصك وحدك. أنت فخر عائلتنا في القرية. بل أنت فخر للقرية كلها. وعندما يضربك سليمان ، هذا الأهوج الذي مازال أبوه يعلقه على الفلكة، فهذه إهانة لنا كلنا، كل رجال العائلة . هذه الصفعة نزلت على وجه كل فرد فينا.
زفر الشيخ في ضيق، ثم استغفر وحوقل وسأل عمه:
– وما المطلوب مني الآن؟
قال أخوه غير عابئ بعمه:
– أن تُرد الصفعة بعشرة.
– افعلوا ما تريدون أنا لا شأن لي.
قفز أخوه من مكانه وقال وقد تجاهل محاولات الحاضرين لإسكاته:
– نضربه لك؟ وهل أنت مره؟
وقف كل الحاضرين يعنفون مصطفى. بينما ظل الشيخ جالساً. ربت على صدره وقال لمصطفى:
– الله يسامحك.
أجبر الحاضرون مصطفى على الاعتذار وتقبيل رأس الشيخ، ثم قال العم:
– يا ياسين يا ولدي. هذه الصفعة ستُرد. وأنت من سيردها. و إلا تكون قطيعة بيننا وبينك.
وجدهم ياسين واقفين حوله . ناظرين إليه منتظرين الإجابة. لم يجد سوى أن يقول:
– حاضر يا عمي.
– متى؟
– بعد الإفطار.بإذن الله.
– حسناً نتركك الآن لترتاح.
خرجوا من عنده وتركوه يستغفر ويسأل الله العون والهداية.
عاد الشيخ ياسين من صلاة المغرب إلى بيته ليكمل إفطاره. فوجئ بزوجته وقد جمعت ملابسها في بقجة . أول ما دخل المنزل قالت له:
– الأكل على الطبلية.
– وإلى أين أنتِ ذاهبة؟
– إلى أبي.
أحس الشيخ بالسبب ولكنه سأل:
– لم؟ هل أغضبتك؟
– سأذهب إلى أبي ولن أعود حتى تثبت أنك رجل، وترد الصفعة لسليمان نوفل.
كانت تلك أول مرة تتحدث فيها فهيمة زوجته معه بتلك الطريقة. لم يزد على أن رد:
– الله يسامحك. لو أن أي امرأة في القرية كلمت زوجها بهذه الطريقة لقتلها.
قاطعته قائلة:
– ولو أن أي رجل صفعه طفل على وجهه لقتله. خذ بثأرك ثم كن زوجي بعد ذلك.
فتحت باب الدار وخرجت . نظر الشيخ ياسين إلى الطعام ثم خرج قاصداً المسجد.
لم يكد الشيخ ياسين ينهي ركعة الوتر بعد صلاة القيام حتى التف حوله رجال عائلته. وبادره زوج أخته قائلاً:
– يعني المغرب مر وبعده العشاء ولم تفعل شيئاً.
لم يرد الشيخ وأخذ يسبح. قال أخوه:
– عائلة نوفل لم يأت منها أحد للصلاة. وسليمان اختفى.
قال الشيخ وسط تسبيحه:
– الحمد لله.
ارتفع صوت أخيه وهو يقول:
– الحمد لله؟ إن لم يكن سليمان سيكون غيره. سنذهب معك وتضرب أكبر رجل في عائلتهم.
أحاط به أخوه وزوج أخته. رفعاه من على الأرض وساروا به. لم يقاوم الشيخ وإن قال:
– حسبي الله ونعم الوكيل.
أخذوه وذهبوا إلى بيت الحاج إبراهيم ، رجل في الثمانين من عائلة نوفل، لا يعدونه من الكبراء إذ أنه لا يمتلك سوى قيراطين من الأرض . هوت طرقاتهم على باب بيته. فتح وأخذ ينظر إليهم ملياً في الظلام بدون أن يعرفهم . قال الشيخ ياسين:
– السلام عليكم يا عم إبراهيم.
– وعليكم السلام. الشيخ ياسين؟
– نعم يا عم الحاج.
– أهلاً وسهلاً زارنا النبي. تفضلوا.
جاء صوت مصطفى جافاً وهو يقول:
– لا أهلاً ولا سهلاً. هل تعلم ماذا فعل ابن أخيك بالشيخ ياسين؟
– لا والله يا بني. أنا لا أخرج من بيتي إلا قليلاً.
– سليمان ، هذا المخنث صفع الشيخ ياسين على وجهه.
فغر الرجل فاه من المفاجأة. وقال وهو يربت على كتف الشيخ ياسين:
– حقك عليّ يا شيخ ياسين. امسحها في ذقني أنا. إنه طفل صغير لا يدري ما يفعله.
نطق عم الشيخ قائلاً:
– لا والله لا تمر حتى يصفعك ياسين مثل الصفعة عشرة.
ظهرت المفاجأة على وجه الرجل لحظات، ثم طأطأ رأسه قائلاً:
– والله عندك حق يا حاج متولي. تفضل يا شيخ ياسين وخذ بثأرك.
ارتفع صوت الشيخ ياسين لأول مرة قائلاً:
– لا والله لا أمسك بسوء يا حاج إبراهيم.
قال مصطفى في صوت أشبه بالرعد:
– فلنأخذ نحن بثأرنا.
وهوى على وجه العجوز بصفعة أوقعته أرضاً، ثم اتجه إليه وركله في بطنه. تبعه الآخرون مكونين دائرة حول العجوز وكل يضربه بطريقته، وتولى عم الشيخ ياسين ومعه أحد أخواله بتكبيله وسحبه خارج الدار لمنعه من التدخل . انفضت الدائرة عن العجوز وهو بلا حراك. تحرر الشيخ ياسين من قيده واندفع إلى العجوز. جسه ثم قال:
– لقد مات. قتلتموه.
شمل الذهول الرجال . أخذوا يتبادلون النظرات في وجل ثم قال مصطفى:
– هيا بنا.
صرخ فيه ياسين:
– هيا؟ إلى أين؟ بعد أن تقتلوا الرجل تقول هيا؟
لم يكد ياسين يتم كلمته حتى سمع الجميع صوت قدم تحك في أرض الدار. ظهرت زوجة الحاج إبراهيم تمشي متثاقلة. في لحظة اختفى الجميع ، عدا الشيخ الذي ظل واقفاً لا يدري ماذا يفعل. رأت الزوجة زوجها ملقى ،ثم رفعت نظرها إلى الشيخ ياسين. ظلت لحظات صامتة ثم صرخت بأعلى صوتها:
– الشيخ ياسين قتل إبراهيم يا بلد.
وأخذت تكررها والشيخ ياسين يحاول أن يوقفها وهو يقول:
– لا.
لم تتوقف المرأة واتجهت إلى باب الدار وهي تتابع صراخها. وجد الشيخ نفسه مع القتيل وحده . اتجه إليه ورفعه من فوق الأرض. وضعه على سريره وذهب يأتي بالماء ولوازم الغسل.
فوجئ أهل القرية في الصباح أنهم لم يتناولوا السحور ولم يصلوا الفجر. خرجوا إلى عملهم تسيطر عليهم الدهشة. لم يؤذن الظهر فأدركوا أن هناك شيئاً خطأ. بحث الجميع عن الشيخ ياسين فلم يجدوه. خرجت عائلة نوفل لتدفن الحاج إبراهيم، فاعترضت عائلة المرسي الجنازة رافعين العصي. قال مصطفى وهو يلوح بعصاه:
– أين الشيخ ياسين يا أولاد نوفل؟
تبادل أولاد نوفل النظرات ثم قال عبد الرحمن شقيق سليمان نوفل:
– بعد أن قتل شيخكم الحاج إبراهيم قام بغسله ، ثم تركه على سريره وذهب.
تمتم الرجال بكلمات الدهشة وعدم التصديق، ثم قطع مصطفى كلامهم قائلاً:
– ذهب؟ هل تريدون أن نصدق أنكم تركتموه يذهب؟
قال عبد الرحمن:
– صدقني يا مصطفى لو وصلنا ووجدناه لقتلناه صفعاً وركلاً، ولكنه ذهب، ربما إلى المركز ليسلِّم نفسه.
تدخل شيخ من خارج الأسرتين قائلاً:
– يا جماعة اتركوا الجنازة تسير بسلام. إكرام الميت دفنه.
وفعلاً مرت الجنازة بسلام، لكن السلام لم يعرف القرية بعدها لمدة طويلة. انتظر الناس أن يظهر الشيخ ياسين ولكن لم يحدث. مر يومهم بدون إقامة صلاة واحدة وحتى بدون أن يكملوا الصيام، أكل كل منهم وقتما شاء. وفي اليوم التالي تبرع رجل بالنداء للسحور ، و الأذان في المسجد وفي إمامة الناس. ومرت الأيام والشيخ لا يظهر ، وثبت لهم أنه لم يذهب إلى المركز. وانتشرت شائعة أن الشيخ قُتل كما قال عبد الرحمن صفعاً وركلاً حتى الموت، تماماً مثل الحاج إبراهيم. تبادل الناس الشائعة وصدقوها فأصبحت واقعاً. وباتت القرية تنتظر ما سيحدث. وفي صباح عثروا على قتيل من عائلة نوفل ،وجهه وجسده أزرق من كثرة ما نزل عليه من الصفع واللكم. جاءت الشرطة ولم يسفر التحقيق عن شيء ،وإن اتجهت الاتهامات إلى عائلة المرسي. وما لبث أن وجدوا مصطفى شقيق الشيخ وهو مشارف على الموت من أثر الصفع. وأخذ الجميع يترقب أن يأتي الدور عليه، وصار الرجال يسيرون في جماعات، ولكن هذا لم يمنع أن يجدوا عبد الرحمن نوفل قتيلاً بالصفع في فراشه وبجانب زوجته. آمن الناس وقتها أن ما يحدث ليس فعل رجل أو أكثر ، وإنما هي لعنة أصابت القرية . وفي يوم فوجئ الجميع بسليمان نوفل الذي كان اختفى بعد صفعه للشيخ، يقف في وسط القرية على إحدى تلال التبن، بجلباب مقطّع ولحية طويلة، وأخذ ينادي بأعلى صوته:
– يا أهل البلد. الشيخ ياسين حي. الشيخ لم يُقتل. وإنما ذهب إلى الله بإرادته.
تبادل الناس النظرات ظناً أن سليمان جن، ولكنه أكمل:
– رأى القرية ظالمة. لا تعرف التسامح ولا العقل، اتهموه بالقتل، طلب من الله أن يأخذه ليعيش عنده من الأولياء،ثم أنزل الله لعنته عليكم . الشيخ ياسين ولي. أكرموا وليكم يكرمكم الله ويرفع عنكم لعناته.
من يذهب إلى القرية اليوم يجد مسجد الشيخ ياسين، وبجواره ضريح الشيخ، والذي يستقر داخله جثمان الحاج إبراهيم ،آخر من لمسته يدا الشيخ المباركتان.لا أحد يستطيع أن يدخل هذا الضريح بدون أن يؤدي الطقوس: أن يصفع أحد خدام الضريح فيرد عليه الخادم بأن يربت على صدره ويقول:
– الله يسامحك.
وفي يومين من السنة هما الثاني والثالث من رمضان تجتمع القرية أمام الضريح،لا يصومون ولا يقيمون صلاة تأسياً بيوم أن صُفع الشيخ الصفعة المقدسة،ويقوم الناس بالغناء للشيخ ياسين وقد أخذ كل منهم يصفع الآخر أو يقول لمن يصفعه" الله يسامحك" ، ومنهم من يرسم على وجهه يداً حمراء علامة الصفع.
لم تقع تلك الأحداث أمامي وإن رويت لي من مصادر عدة. كنت غائباً عن القرية سنوات طويلة وعدت لأجد الضريح ،و لأجد الناس تحييني بالصفعات. ذهبت إلى الضريح ووجدت سليمان نوفل، وقد ارتدى العباءة الخضراء وأطال لحيته حتى لامست بطنه، وأصبح خادم الضريح الأول. كان في قلبي سؤال أبحث له عن إجابة.
– لماذا صفعت الشيخ ياسين يا سليمان؟
لم يرد سليمان. وقف منتظراً مني أن أؤدي الطقوس أولاً. صفعته على وجهه ، ربت على صدره وقال:
– الله يسامحك.
ثم قال لي:
– لا تسل عن أشياء إن تبد لك تسوءك. لقد كنت أداة في يد الله. صفعته بدون سبب. هكذا أراد الله أن يكرمني بهذا الشرف. وهكذا أراد الله للقرية، أن يظلموا الشيخ ياسين حتى يتركهم ، فيشعرون بالندم ويبحثون عن الله. وبذلك حلت البركات على القرية، وانتهت عصور المعصية ، وخرج الناس من الظلمات إلى النور.