الأربعاء ١٦ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم محمد يحيى ذهني

لحم مشوي

اليوم هو السبت، والليلة هي ليلة اللحم المشوي . احتفال أسبوعي في البلاد كلها، كل مدينة وكل قرية وكل حي . كل قصاب يعرض اللحم الذي وزعته عليه الحكومة صباح السبت . حسب قدرته وحسب قدرة أهل الحي الذي يسكنه. أكاد أذكر تلك الليلة التي قرر فيها أبي أن يغير نوع اللحم الذي نأكله. كان قد نال ترقية كما قال. اشترى لنا ملابس جديدة، وتعاقد على تجديد أثاث المنزل. وعندما حان يوم السبت قال:

 مللت لحم السجون، نريد تجربة اللحوم الراقية.

كانت تلك أول مرة أرى فيها أحياء الأغنياء. عمارات شاهقة الارتفاع و الطرق ناعمة كالمرآة، والرصيف الذي كنا نسير عليه مستوي بلا نقر ولا مرتفعات. دكان القصاب نفسه كان أقرب للحلم. مرايا وسيراميك ، والزبائن ليسوا من الكادحين أمثال أبي ولا من ذوي الجلاليب كمعظم أهل حينا. هم رجال كنجوم السينما ونساء كالبدر في تمامه. حتى اللحوم مختلفة. في حينا اللحم ازرق من الضرب. قطع صغيرة لا نعرف من أي كائن أتت. أما هنا فالجسد بالكامل معلق على خطاف، مسلوخ لكن الرأس متروك كما هو لتتعرف على الشكل. والرأس آخر ما يباع في الجسد. فرغم وجود لافتة تعريف بجانب الجسد، إلا أن الرأس يترك كضمان لأمانة التاجر. مثلاً ذلك اليوم أبي طار من الفرحة عندما رأى أن الذبيحة المعلقة أمامنا ما هي إلا رئيس تحرير سابق كان يكرهه، لمواقفه الموالية للحكومة . وقف ينظر إليه في شماتة وقال:

 كنت متأكداً من أنهم سيفعلونها معه. لكن لم أظن أنني سأذوق لحمه يوماً.

كانت تلك أول قطعة تقطع من لحمه . كان الإقبال يومها أشد على أجسام صغيرة معلقة. لا أحد منهم يحمل لافتة. قال البائع لأبي:

 أنت أول من يترك لحم الصغار اليوم ويطلب هذا العجوز. لحم الصغار أطيب بكثير.

فسأله أبي:

 ومن هم ؟

 هل تذكر حادث انهيار مبنى المدرسة الأهلية؟

 نعم.

قل الرجل بفخر:

 حصلنا على أجساد جميع أطفال المبنى الميئوس من نجاتهم. لذا فالمكان مزدحم جداً طوال اليوم. تعرف يا أستاذ رغم أن المكان لا يبيع سوى المثقفين إلا أنها كانت صفقة رائعة فلم نتركها .

أشار بيده لبعض الأجساد الأخرى وهو يتحدث عن المثقفين. تعرفنا فيهم على بعض الصحفيين ، صرح أبي وقتها أن معظمهم كان يفترض وجوده في المعتقل. وهناك بعض الأجساد الهزيلة التي لم تجد من يشتري منها. أحدهم أصبح فيما بعد شاعري المفضل.

في ذلك اليوم تناولنا اللحم الذي جلبه أبي للصحفي الكبير. ولم ننقطع بعدها عن أكل ذلك اللحم . وفي تجولي مع أبي كل يوم سبت، لاحظت أن بقية حوانيت اللحم تعرض أنواعاً أخرى من الشخصيات. كل مكان يجذب أهله. هناك من يعرض لحم الفنانين رغم ندرة الحصول عليه. هناك من يعرض لحم الغواني. و لهواة اللحوم السمينة وجدنا من ينادي على لحم الكبار. وهناك لحوم مستوردة لأهل أفريقيا. بعد النضرة التي ظهرت على وجوهنا بتأثير تلك الأنواع من اللحوم، وبانتشار الخبر،كنا نثير حسد أهل الحي الذين يأكلون لحم المساجين.. حتى قرر أبي مغادرة الحي والسكنى مع الكبار،بعد حصوله على ترقية أخرى. وانضممنا بعدها لمدارس الكبار و أنديتهم . ذقت هناك لحماً لا أنسى طعمه. قيل أن هناك ملجأ أطفال يغذيهم بأغذية مخصوصة لتغير طعم لحمهم. ولا توزع إلا للأندية الكبرى فقط والأفراح الخمس نجوم.

نزولي لشراء اللحم لأول مرة منذ سنين لم يكن لشوقي للشراء، ولا رغبة في التمشية. كنت أبحث عن شخص معين. ولكن لم أعلم أين أبحث.لقد كان من المثقفين، وكان من الكبار أيضاً.المكان تغير ولم يعد هناك مكان واحد لكل نوعية. لذا مكثت أبحث كثيراً حتى وجدته. مازالوا يعتبرونه مثقفاً. بل أن المكان كان للمثقفين المعارضين فقط . لم أكن لأندهش لو كنا نعيش في الحي القديم. لكن الآن كيف يكون معارضاً. كان أبي معلقاً من قدميه سليم الجسد. كان الإقبال على الحانوت ضعيفاً لعدم أهمية أصحاب اللحوم فيه. لذا قررت إكراماً له ولصاحب المكان الذي أخذ يعزيني عندما رأى الشبه، أن أشتريه كله. مع حصولي على حسم كبير لصلة القرابة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى