بلادي
أخذت أبحث وسط الوجوه عن شخصٍ مثلي، عن ملامح مثل ملامحي. لكنني لم أجد. لم أيأس فهم ألوف، ربما غابت الوجوه التي أبحث عنها وسطهم. وربما النجوم المتلألئة تخفي الوجوه المظلمة مثل وجهي. فهناك بعض نجوم السينما، وبعض نجوم الصحافة، والسياسة، والأعمال، والرياضة.بل لمحت عدداً من الشيوخ والدعاة. كلهم أتوا في الميعاد المتفق عليه تماماً. بينما نحن أتينا قبلها بساعة وظللنا جالسين محاطين بعساكر الأمن. و قبل الموعد بقليل أصدر الضباط الأوامر بالتفتيش عن أي ممنوعات. أسفر البحث عن لا شيء سوى الأعلام الغير ممنوعة. لا أعلام للحرق ولا أدوات تخريب. هكذا تأكدوا أن الجو سلمي. بعدها مباشرة ظهرت النجوم تباعاً. ووقف أحد نجوم البلاد، وشمسها المستقبلية، وقف وبيده مكبر صوت، أعلى درج مؤدي لأحد المباني الوزارية. عن يمينه داعية شهير بلباس ديني، وبجانبه ممثل الكنيسة، وعن يساره رجل أعمال شهير وأحد كبار الحزب.
– مساء الخير، طبعاً أنا سعيد بكم وبتواجدكم هنا لمساندة شعوب شقيقة وعزيزة علينا كلنا.والتنديد بالعدوان وضرب المدنيين والأبرياء. وأحب أقول لكم أن كلنا معكم هنا، وكلنا نشعر بالألم مثلكم، وكلنا نريد رفع الظلم والحياة في سلام. و أنا سعيد وفخور برموز الأمة التي اجتمعت اليوم للتنديد بالعدوان. السادة الفنانون والإعلاميون، و الشيوخ والقساوسة ورجال الأحزاب المعارضة. لم يتأخر أحد عن دعوة الحزب بالتضامن. طبعاً لن أذكركم بأن هذه مظاهرة سلمية. والهتافات ستكون هتافات تشد من أزر الشعوب المكروبة، وتندد بالعدوان. لا نريد أي هتافات خارجة، فقط هتاف عادي ورفع أعلام الدول العربية، للتأكيد على وحدتنا. وعلى فكرة هناك دول شقيقة ستقوم بنفس المظاهرة في نفس التوقيت. العالم كله يرانا الآن، نريد صورة رائعة للوطن. خط سير المظاهرة معروف. على بركة الله نبدأ.
تحرك هو ومن معه، ورجال يحملون الكاميرات يرافقونه. تبعهم بعض الأشخاص ذوي النظارات السوداء،ثم النجوم تباعاً. كل هذا ونحن محاطين بالعسكر حتى ينتظم ركب القيادة. ثم تم السماح لبعض الأفراد للخروج، وفورا تم رفع بعضهم على الأكتاف. وظهرت لافتات كبيرة فجأة وسارت أمامنا. وعندما بدأ الهتاف تركونا نتحرك، وإن ظل الحصار من الجانبين.
– لا لضرب المدنيين لا لقتل الآمنين
– لا لسفك الدماء لا لقتل الأبرياء.
– لا لتدمير البيوت لا لتدمير المدارس. أين حرمة المساجد وأين حرمة الكنائس.
وهكذا سرنا، والهتاف يقال ويردد بحماس شديد. تأكدت أنني لن أجد وجهاً مثل وجهي. أخذت أتأمل الأعلام حولي. والهتافات تصم أذني. تلك أول مظاهرة أخرج فيها. عندما كان أصدقائي يطلبون مني الخروج معهم كنت أرفض. هذه المرة لم أتحمل، و لم أجد صديقاً لكي أخرج معه في مظاهرة، فأنا لا أعرف كيف ومتى تقوم المظاهرة. قرأت الإعلان في الجرائد فأتيت.
وصلنا لميدان آخر. المظاهرة تكاد تنتهي، وأنا لا أشعر بأي شيء. توقعت أن أفرِغ غضبي فإذا به يزداد. كدت أن أبكي، ولكن الغضب كان أقوى.وجدتني أعتصر شيئاً بين يدي، إذا به أحد الأعلام التي قاموا بتوزيعها علينا.لم أنتبه له في يدي إلا الآن. نظرت إليه، وكأنني أراه لأول مرة، رغم أنه علم بلادي. أخذنا نلف حول حديقة صغيرة محيطة لتمثال ضخم لأحد عظماء الماضي. كانت الحديقة حولها سور به فتحة صغيرة، لا أدري من صنع تلك الفتحة، أهو الزمن أم الناس ؟ لم أشعر بنفسي إلا و أنا في الحديقة. ارتقيت قاعدة التمثال بسهولة، لم يكن أحد ينتبه لما أفعله. الهتافات تضعف والجمع بدأ يتوقف لينهي المظاهرة.
عندما أصبحت في مكان عال يطل على الميدان رفعت العلم عالياً. رآني صاحب مكبر الصوت الذي كان توقف ليقول كلمة أخيرة. عندما نظر إليّ ابتسم، فوجدت جميع العيون والعدسات موجهة إليّ. عاد الهتاف قوياً، متخذاً من تلك اللحظة الوطنية حجة قوية. لكن عندما قمت بإخراج علبة سجائري، وبسرعة شديدة رغم ارتعاش يدي، أخرجت منها القداحة الصغيرة، وأشعلت النار. حينئذ صمت الهتاف، واتسعت العيون، وأضاء وجهي بنار علم بلادي المحترق.