الجمعة ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد يحيى ذهني

مدينة النسيان

ودعني الرجل الضخم ذو الشارب الكث بودٍ على الباب، بعد أن أعطاني تفسير ما حدث.لكن ما أن أغلق بابه خلفي حتى نسيت.

نسيت السؤال والجواب. أعرف من أنا لكن أين وكيف؟ حاولت أن أتذكر لماذا أقف هنا، وفيم كنت أفكر، لكن بلا جدوى. أخذت أبحث عن هاتفي. فتحت حقيبتي لعلني أجده فيها. رأيت كتبي المعتادة، ومعها أوراق منزوعة ومكتوب عليها كلمات أراها للمرة الأولى:

ودعني الرجل الضخم ذو الشارب الكث بودٍ على الباب، بعد أن أعطاني تفسير ما حدث.لكن ما أن أغلق بابه خلفي حتى نسيت.

نسيت السؤال والجواب. أعرف من أنا لكن أين وكيف؟ حاولت أن أتذكر لماذا أقف هنا، وفيم كنت أفكر، لكن بلا جدوى. أخذت أبحث عن هاتفي. فتحت حقيبتي لعلني أجده فيها. رأيت كتبي المعتادة، ومعها أوراق منزوعة ومكتوب عليها كلمات أراها للمرة الأولى:

"إليك يا صديقي وقائدي أكتب، كتابي الأول والأخير. قبل أن ينفذ فيك الحكم، و ينفونك خارج مدينتنا. ستجد نفسك وحيداً كما أتيت. و ستنساها بمجرد أن تخطو خارجها. ستنسى كل شيء عنها.العشر سنوات التي قضيتها فيها دون أن تكبر يوماً، و ستنسى أصدقاءك وأعداءك، حبيبتك و كفاحك. ستعود تبحث عن حياتك القديمة التي نسيتها لمدة عشر سنوات. ربما كنت متزوجاً ولك أولاد، ستجدهم أكبر عشر سنوات الآن. وزوجتك ستصبح أكبر منك. ستندهش ويندهشون. ولن تذكر أين أمضيت العشر سنوات دون كبر. ستتذكر فقط اللحظة التي سبقت عثورك على مدينتنا، تلك التي لا يعثر عليها سوى المحظوظون. مدينتنا هي مدينة النسيان.

أكاد أعرف ماذا حدث لك عندما أصبحت داخل مدينتنا لأول مرة. طبعا لا أعرف كيف عثرت عليها ولا أين كنت قبلها، فكلنا ننسى ماضينا بالكامل حين نجد أنفسنا فيها. نجد أول ما نجد لوحاً كبيراً كتبه القدماء الذين أسسوا المدينة لسبب لم يعلمه أحد ممن سبقوك.

• مرحبا بك أيها الغريب المحظوظ. لا تجزع لأنك لا تعلم من أنت. لقد اختارك الحظ لتصبح مواطناً في مدينة النسيان. هنا حيث النعيم والخلود. جنة أرضية لا تجوع فيها ولا تعطش ولا تمرض. افعل ما تشاء إلا أن تؤذي أخاك . النفي خارج النعيم هي عقوبة من يؤذي مواطني مدينة النسيان، ويحاول تعكير نعيمهم.

حكيت لي بعد ذلك أنك لم تصدق عينيك و أنت ترى مدينة النسيان. دعني أحكي لك عنها لأنك في منفاك قد نسيتها. مدينتنا حقاً كانت الجنة.فوق ما قيل في اللوح، لا شيء محرم هنا. النساء لمن يريد والشراب في بئر لا ينضب لمن يريد. الطعام والماء و حدائق الزهور وأشجار الفاكهة هي أشياء لا حد لها.لن تتخيل شيء في الطعام أو الشراب إلا وجدته أمامك في لمح البصر. الأرض سكن للجميع، و الجلوس على شاطئ البحيرة تحت السماء الصافية أبداً هو المتعة.لا أحد منا ملزم بأن يرتدي أي ملابس أو يحرم نفسه من شيء تشتهيه نفسه. ولا امرأة ملزمة برجل واحد ولا ستر لمفاتنها. لا أطفال في مدينتنا ولا عائلات. لا حكام ولا سجون ولا عذاب. هذه الأشياء الموجودة حيث أنت الآن و حولك الشقاء. طبعاً أنت مندهش كيف عرفت أنا الأطفال والعائلات والجوع والعطش والسجون. عندك حق، فالمفروض أنني نسيتهم مع ذاكرتي الأخرى. لكنك لا تعرف أنك حين دخلت المدينة لم تكن مثل أي قادم. ربما لو كنت مثل أي قادم لعشت مثله. لكنك كنت تحمل شيئاً، حقيبة مليئة بالأوراق. هذه الأوراق لم تفقد ذاكرتها مثلنا. ظلت محتفظة بما فيها. ووجدت فيها من كل شيء ذكراً. بها علمت الحياة الأخرى التي تركتها. علمت كيف يحيا الناس. قرأت عن المجتمعات والتقاليد والأديان. عن دورة الحياة. ثم نظرت حولك فوجدت جنتنا جحيماً. لم تغرك النسوة العاريات ولا الطعام ولا الخمور. حرمت كل شيء على نفسك. حتى الطعام زهدت فيه لأنه بلا عمل. ولم تكتف بهذا، بدأت تسعى لجعلنا مثلك.

كنت أنا أول من قابلك أمام اللوح. رحبت بك وتركتك. لا احد مشغول بأحد هنا. ولكن تلك المقابلة كانت كفيلة لتختارني، لأكون أول التابعين. أخبرتني أننا نحيا بلا أخلاق ولا أعراف، نحيا دون أكبر نعمة، الفكر. ثم شرحت لي ماذا تعني تلك الكلمات. قرأت علي من كتبك. كنت ساحراً في الحديث. لم أسأمك، لم أستجب لنداء شهواتي. وقلت أنا معك. رشحت لك ثلاثة رجال وامرأة، تلك التي أصبحت فيما بعد حبيبتك. حدثتهم فآمنوا بك. أمرتهم فأطاعوك. وطلبت منا ألا نكشف أنفسنا للناس كلية إلا بعد أن نزيد عدداً، فقد كنا جميعاً لا نعلم من سنواجه. وبدأنا في التزام ألا نتعرى، وأن نقلل من مضاجعة النساء. كما لم تعد المرأة تظهر عارية، لم تعد تثير الرجال بكثرة، ومن طلبوها تعللت بأي حجة لتبتعد. اصطفيتها لنفسك. واصطفينا نحن من النساء أربع آمنّ بأفكارك.

صرنا جماعة صغيرة تلتزم بالأخلاق.نتأمل في حياتنا ونغذي عقولنا بما معك من أوراق. لم نكن أسعد كثيراً من حياتنا السابقة، ولكن سعادتنا الحق كانت في كلامك، وفي سعينا لنزيد من عددنا. حتى أتى يوم واختفى أحد الرجال الثلاثة من أتباعك الأول. بحثنا عنه في المدينة كلها بلا جدوى.ولأول مرة عرفنا معنى الفقد، والدموع. تلك هي أول مرة يختفي فيها أحد الرجال. ولكن ردك كان:

• ربما هي أول مرة يلاحظ فيها اختفاء رجل. أنتم تعيشون أفراداً لا أحد يعرف أحد.
ثم سألتني:

• منذ متى وأنت هنا؟

لم أعرف رداً فقلت:

• أنا لم أفكر يوماً في الحساب.

أطرقت قليلاً ثم سألتني:

• قلت لي انك تحب النظر إلى البدر أليس كذلك؟

أجبت مستغرباً السؤال:
• نعم.

• كم مرة تقريباً شاهدته؟

• كثير.

• عشر مرات؟ عشرين؟ مئة؟

• أكثر.

• إذن فأنت هنا لمدة لم تقل عن عشر سنوات. و أتيت وجدت الكثيرين قبلك.

• نعم ولكن ماذا تعني؟

• أنه لعشرات السنين والوافدون لا ينقطعون. بينما المدينة لا تمتلئ.

نظرنا إلى بعضنا في دهشة فاستطردت:

• أي أن آخرين يختفون بنفس المقدار.

• نعم ولكن أين وكيف؟

• هذا ما سأعرفه.

بعد أشهر ظللت تظهر فيها وتختفي جئت بالخبر اليقين:

• امرأة تظهر فجأة ولا أحد يميز أنها غريبة. تستدرج أحدهم إلى مكان قصي، وهناك تنشق الأرض وتبلعه. أو رجل غريب يستدرج فتاة حتى تبلعها الأرض.

كان الأمر بالنسبة لنا غير مفهوم فقال:

• أنتم هنا طعام أو حيوانات تجارب.

• لمن؟

• من أسس هذه المدينة؟

لم يكن لدينا جواب. لم نفهم كل شيء. ولكن اطمأننا لقيادتك لنا. الموضوع كما أخبرتنا لم يعد مجرد فكر وحياة فضيلة، الموضوع أن ننجو بأنفسنا ونحارب من لا نعلم، من أنسانا ماضينا وأمات أرواحنا، ويهدد مستقبلنا.

وهكذا بدأنا العمل. قلت لنا:

• حان وقت العمل. لم يعد الأمر أن نتأمل وندعو البقية ليقلدونا. يجب أن يتحول الجميع مثلنا.

ولأول مرة نخاطب الناس أن يعملوا عقولهم، أن يفرقوا أنفسهم عن الحيوان. لكن للأسف لم يعرف أحد ما هو الحيوان. لم يجد معظمهم سببا لهجر كل ما أمامه من متع والاقتصاد في رغباته، بل والعمل من أجل الطعام. قوبلنا بالسخرية. لكنك لم تيأس. كنت أشدنا تأثيراً فركزت على النساء. وكلما أطاعتك امرأة أطاعك رجل و اصطفاها.وكذلك غضب رجل من عشاقها. نعم عرفوا الوفاء والحب كما عرفوا الغضب. وظهرت السخرية والعداء، ولعب الخمر برؤوس بعضهم،فتخيلوا أنفسهم يرتكبون الأذى لك ولنا. وصرت لا تسير في مكان إلا و تجد من يضايقك أو يدفعك.

ابتسمت أنت من تحرشهم وقلت:

• أصبحوا جماعة ضدنا.

قلت متسائلاً:

• نعم ماذا سنفعل؟ يشربون ويهذون بالأذى.

ابتسمت وقلت:

• قريبا سينقلبون إلى صفنا.

ولكن زاد على الأمر اختفاء شخص من جماعتنا كل فترة. و رغم ثقتك في أنهم لا يستدرجون خلف شهواتهم، إلا أنك أنذرتنا:

• احرصوا على عدم السير وحيدين. الأمر أصبح حرباً غير معلنة.

كم أوجعهم عفة معظم النساء على يديك، ولكن ردم بئر الخمر كان ضربتك الكبرى. لكنها لم تعن لك شيئاً أمام اختفاء أحد أقرب أصدقائك لك. و في وسط حزنك فوجئت بثورتهم على خمرهم. أحاطوا بمنازلنا، تلك التي بنيناها بإرشادك لتفصلنا. أخبرتهم أنك ما فعلت ذلك إلا ليصحو، وأن كل ما تريد هو خيرهم. لكن لم يصدقك أحد. وبدأ التحرش يزيد. وأنت لم تكف عن الكلام وشرح الموضوع كما رأيته. وعندما دفعك أحدهم هم أتباعك ليزودوا عنك. ولأول مرة يسيل الدم في مدينتنا. حينئذ توقفتم كلكم. ليس بسبب الدم. بل لمن ظهرا أمامكم. صديقك الذي دمعت عيناك عليه، و كان معه رجل لم يره أحد من قبل،طويل ضخم، ذو شارب كث و عينين لا مفر من نظرتيهما. قال:

• أنا خالق المدينة.

صرخت أنت:

• أنت ساحرها.

لم يهتم بك وقال:

• أنا خالقها وراعيكم. فتحت لكم بابها لأبعدكم عن الشقاء. واشترطت عليكم أنه من أذى أخاه فمصيره النفي. وها أنتم تؤذون بعضكم.

واستطرد:

• والسبب هذا.

وأشار إليك. تعالت صيحات مقاتليك تدعو لطردك.كنت أعرف أنك تريد مواجهتهم بالحقائق. أنه يخطفهم ليأكلهم أو يعذبهم. لكنه لم يترك لك فرصة:

• أما عن الذين تبلعهم الأرض. آخرهم كان هذا.

أشار إلي فقلت:

• لقد اختارني خالقي كما اختار من قبلي، لأكون في درجة أخرى من الجنة. نأكل هناك طعاماً لم نعرفه قط. نرى نساء لم نقابل أجمل منهن.أطيب ما أكلته. وأجمل ما شربته. وأفضل من ضاجعتهن في النعيم الآخر.

كانت هذه هي نهايتك. ولكنك قلت وأنت تنظر إلي في غل:

• يسمنونهم للذبح.

ابتسم الخالق وقال:

• أنت أحمق. تظن نفسك عارفاً. ألا تدرك أني أعلم بما تقرأ وما تقوله لهم منذ أول يوم؟ أنا أعلم كل شيء وأنت لا تعلم شيئاً.

لكنك لم تزد إلا عناداً وقلت:

• أنت تأكلهم.
قال:

• لو كنت خلقت المدينة وفعلت كل هذا بقدراتي. هل تظنني عاجزاً عن توفير ما آكله؟

سكت،و لم يدع لك أحد الفرصة لتعيد الكلام. نصف أتباعك خلعوا ملابسهم. وانطلق الجميع يهلل ويطالب بطردك. قال الخالق:

• لأنه مارق سأذهب به حيث ذهب السابقين، لكي يرى ويفهم قبل أن ينسى كل شيء.الآن سيبيت في قفص، ينام فيه وحده حتى تطلع الشمس. من أراد الانضمام إليه في رحلته للعالم الآخر، من أراد أن يعرف ثم يطرد معه فليدخل معه إلى القفص. ومن أراد العيش معنا كما كنا فليبق بعيداً. غداً لن ترونه، وإلى الأبد.

و ها أنت وحدك. لم ينضم إليك أحد. حتى من على إيمانهم بك. حتى حبيبتك. الكل أنكرك. ربما فضلوا حياتهم القديمة عن المجهول الذي ستذهب إليه.ربما تأكدوا أنك مخطئ بشأنه، كيف لا وأشدهم إيمانا بك وقف ليكذبك. أنا شخصياً لدي سبب لما فعلته. أكتبه لك وأنا أختم كتابي إليك. سأضع هذا الكتاب في حقيبة الأوراق التي ستذهب معك، لكي تعرف ما فعلته يوماً لنا. فلا يكون بدون فائدة. واعلم أيضاً سببي.

السبب هو ما قرأته في أوراقك من حكايات عن تاريخ العالم. حروب وقتل وذبح.ظلم وظلام وشر بلا رادع. ما الفارق بين ما يحدث في الخارج وبين ما يحدث لنا؟ على الأقل نحن في النعيم حتى تبلعنا الأرض.نؤكل بعد أن نتمتع بكل شيء. نموت شباباً دون عجز ولا مرض. كانت الأفكار تساورني على هذا المنوال، وعندما قررت أن خروجنا من مدينتنا هو اللعنة بعينها، وجدته أمامي. يعرف كل ما أفكر فيه. عرض علي أن أنهي ما أسماه بتدمير عالمه. مقابل ألا يؤذيك. فقط سيعيدك إلى عالمك. تلك التعاسة التي تعود إليها ولا نريدها. أعلم أنك ستفكر بعد أن تقرأ كتابي أن تبحث في الكتب عن ذلك الساحر الذي بنى مدينة منسية. وستبحث كيف تفك السحر لكي تحررنا، تقضي على مدينتنا وتخرجنا لجحيمك. أتوسل إليك لا تفعل. لأنك لو فعلت لن يبقى منهم أحد إلا لعنك ولعن نفسه.

لذا اسمع مني أنا.. صديقك الذي خانك لينقذك. اذهب في سلام واترك عالمنا المنسي."

رويداً الأمور تنجلي. أعرف الآن لماذا أتيت إلى هنا.كنت على موعد مع صديق.ويبدو أنني ضللت طريقي.

نظرت في هاتفي فوجدتني تأخرت عشر دقائق. هذا الخطاب العجيب في يدي، المكتوب بقلمي الحبر.وهذا البيت المجهول خلفي.لا تفسير لهما عندي، غير أنني أكثرت من الشراب اليوم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى