العلاقة الجدلية بين الفطرة وبين الموروث
حين يألف القلم لغة العقل، وحين يألف العقل لغة الفكر، وحين ينطلق الفكر من مباني المنهج العقيدي، تجيء الترجمة مساراً وخارطة يهتدي بهما الباحث إلى مناهل وروافد يستقي منهما مقومات مداركه وعناوين شخصيته.
وقبل الدخول في قراءة مجموعة إبداعات روائية وقصصية، نود أن نقول إن العلاقة الجدلية بين الفطرة وبين الموروث والمكتسب تبقى في دائرة الكم الذي يرفد به كلاً منهما العقل البشري بما يؤهله للعطاء بعدما زوّد الخالق، هذا العقل، بأوعية هيأها بالقدرات الاستيعابية ليقوم العقل بعد ذلك بالفرز والتحليل، ثم الخلق والإنتاج. وهذه العلاقة الجدلية بين الموروث والمكتسب وأثرهما على الفطرة، تحتاج إلى بحث مستفيض لا يسمح المجال للحديث عنها هنا، وسوف نتحدث عنها مطولاً في كتابنا الذي نعكف الآن بالعمل عليه، إلاّ أننا رغبنا التأشير عليها هنا لِمَا لها من دور، وأثر، في العمل الروائي الذي بين أيدينا.
إذن، عند الروائية نجيبة السيد علي والروائي منصور جعفر آل سيف، العقيدة هي المنهل لأنها تعني الضابط الموضوعي والمنهجي للضمير الأخلاقي الذي من خلاله يتكرّس الأمن الاجتماعي، ولذا نجد في ما صدر لهما من أعمال، أن الحكمة الأخلاقية العقائدية هي المرجع والمحور الذي تبنى عليه كل مباني سردهما الروائي. وهذه الحكمة الأخلاقية مستمدة ومستندة إلى الموروث الثقافي الذي كوّن القناعات المشتركة بينهما، فجاءت أعمالهما المشتركة وكأنها تعبير عن صوت ورؤية وترجمة واحدة.
من هنا لم نجد أن الأعمال الموقعة بإسميهما، تخرج عن تكريس الموروث، سوى أنها حاولت إلباسه لغة العصر الحديث في محاولة لإظهار جماله الروحي والتركيز على هذه النقطة، وصولاً بها إلى تعليل فلسفة سر الوجود بأنه لا هدف منه سوى تغذية هذه الروح وإبقائها نقية صافية لأنها ستعود من حيث أتت بما حملت، أو بما قد يحمّلها هذا الجسد من ترجمات أدواته وآلاته وتجهيزاته المهيأة لفعل الشر كما هي مهيأة لفعل الخير، أكان هذا الفعل على ذات النفس (في العلاقة مع الله) أو في علاقتها مع الآخر في الحياة الاجتماعية. وعليه، لا يمكن الحفاظ على نقاء هذه الروح دون مقاومة كل المغريات الملتَقطة ببصرٍ قد لا يردعه ضمير مراقب، إذا لم يكن هذا الضمير ممسوكاً بالأخلاق المستمَدة من أصول عقيدة الانتماء.
وهذا ينطلق من قاعدتين تحكمان منهجية أي ناشط عقائدي في مجال تقديم قناعاته المبنية على فكر عقيدته، هاتان القاعدتان تقومان على منهج: التخويف والترهيب في واحدة، ومنهج الإقناع والإمتاع في الثانية. ويمكننا، هنا، أن نعتبر أن ما بين أيدينا من إبداعات لهذين الكاتبين، هو تطلع نحو نشاط إبداعي ـ دعائي ـ تُعتمد فيه لغة الإقناع لا الإقماع، وهذا أمر جميل وشيء حسن، لأنه يبقي الباب مفتوحاً أمام العقل للحوار البنّاء والنقاش الهادف، إنما لا يخرج عن كون المألوف في المبدأ، بل يجمّله في الحليّة والوصف دون التعرض إلى الأصول والجذور.
هذا ما خلصت إليه بعد قراءتي لِما بين يداي من إصدارات بتوقيع الكاتبين، وبخاصة رواية "عاشق في مكة" التي رغب مؤلفاها أن يخوضا فيها مغامرة التماهي بين المقدس في النص الفقهي، وبين النص الأدبي الروائي.
ففي هذه الرواية (وهي ليست الأخيرة الصادرة لهما، صدر بعدها في العام 2009 "عندما يحلم الراعي")، وجدت أنهما برعا في استخدام أدوات البناء الروائي في خدمة الموضوع العقائدي الذي استحضر نصاً فقهياً بما يتضمن من أحكام ومناسك تؤدّى في مشاعر خاصة، مما جعله مرناً في التجاوب مع الأهداف الفنية المطلوبة في السرد الروائي. وبرعا، أيضاً، في تقديم أنموذج عن ثقافة الفرائض العبادية الجَمْعية التي يتماهى فيها الفرد مع المجموعة دون أن تسقط خصوصية الأداء والتفاعل فيها ومعها، من الناحية النفسية، ولا نقصد هنا الدمج بين العيني والكفائي.
والرواية حاولت أن تثبت ثقافة بيئة لها مفاهيمها العقائدية وقناعاتها الدينية، وتمكنت أن تعكس هذا الضمير في ضبط أسلوبها الروائي إلى جانب مكتسبها الثقافي، فجاء التركيز على البعد النفسي في الانتماء العقائدي، لتقدمه بوجهه المشرق عن طريق الإقتناع والمبادرة الذاتية، وهذا غاية في الدقة وتظهير القوة والقناعة في فهم الشعائر العقائدية، وأن الفرائض والشعائر، بل وكل الانتماء العقيدي، لا يقف حائلاً دون الإنسان وإقدامه على الحياة.
ونرى في الرواية أنها أفسحت في المجال، حيث أمكن، للتعاطي مع الحياة بكل مباهج النفس ومصادفات واقع الحياة. فلم يُمنع بطل الرواية مثلاً من التواصل مع حبيبته أو حبيبته معه، في أثناء حجه ـ الفطرة البشرية الطبيعية في علاقة الذكر والأنثى ـ، أمكن التعبير عن هذا الحب عبر لغة ومصطلحات وتواصل، بغير اللغة والمألوف، برغم تظهير الانفعالات ذاتها (ص 144 ـ 166/169).
قد يكون هذا أسلوب جديد في الدعوة، ورغم ذلك، فهو حسن، لأنه يحقق قبولاً ترتاح إليه النفس في الطرح، ناهيك عن كونه يعتبر تطوراً مهماً لِمَا يعنيه من محاكاة للنص المقدس كما أسلفنا آنفاً. وهذه مغامرة تمكنا ـ منصور ونجيبة ـ من خوض غمارها بنجاح من وجهة نظرنا التي قد يخالفنا فيها آخرون.
ولعل هذا النجاح في التماهي والمغامرة، يعود إلى اتقانهما الاشتغال على الصورة بشكل دقيق ومتقن، أخذ القارىء ليعيش معهما أدق التفاصيل، ويعيش مع أبطال الرواية كل انفعالاتهم وتفاعلاتهم.
ففي موضوع الطروحات العقائدية المشابهة عند/وعلى المتلقي في مثل هذه الأعمال، لطالما اعتمد عنصر التخويف والترهيب والتهويل والتكبيل على المنابر وفي وسائط الاعلام الخاصة بهذا النوع، وإغلاق منافذ الحياة دون الفرائض، بينما حاولت "عاشق في مكة" تقديم أنموذج تعبيري عن السماحة التي تكتسبها الروح في ممارسة الفرائض الدينية لتنعكس إيجاباً في ممارستها والتعامل معها إلى حد البديهية.
فمثلاُ مهدت الرواية لطرح الموضوع الذي ترغب مناقشته وتقديمه للقارىء بما يجعله مادة الاستلهام التي ترغب لها أن تتكرس في نفس قارئها، فأخذت ذاكرته ـ من خلال الصورة المحفزة التي أبعدت ما عداها من مستوعب الذاكرة ـ ليخلو لها المكان، فتصبح هي المادة الوحيدة الساكنة في هذه الذاكرة. وهذه مدرسة نفسية في الخطاب كرستها السيدة زينب أخت الإمام الحسين فور استشهاد الإمام، حين تجمهر حولها الناس يتساءلون عمّا يجري وما جرى، فكانت الدمعة أقوى عامل لشد الأنظار وإصغاء الأسماع والأفئدة، حينها طرحت قضيتها وقد انخلعت إليها القلوب. إنها استراتيجية الخطاب الهادف، إنما بما يتوافق مع المتلقي وبما تفرضه طبيعة الوسيلة.
ووفق الموضوع ونوع الخطاب والغاية المرجوة، مهدت "عاشق في مكة" لموضوعها، بإفساح المجال له بالذاكرة من خلال اللعب على الذاكرة ذاتها، بجعلها مسرحاً له، فجعلتها، في البداية، تستحضر صورة خيالية، معلومة بالواقع، تتعلق بعلاقة الأنثى بالذكر، فبدأت الرواية بالتأشير والإيحاء للذاكرة الغريزية بما يستهويها كنفس (أمارة بالسوء) فاستحكمت بها وأبقتها بين سطورها بعدما أمسكتها بالحوار الذي دار بين ماجدة وعبد القادر وما سيكون في هذه الخلوة بينهما وما سينتج من ترجمة لهذا الحديث الغزلي. (الصفحات 5 ـ 10).
وبعد هذا التأشير الموفق في استقراء الطبيعة البشرية ونمطية العلاقة، اتجهت الرواية إلى تقديم موضوعها ببراعة فنية متقنة في الصورة والسرد وتقطيع المشاهد، وعلى هذا المنوال، كلما دعت الحاجة.. وصولاً حتى الصفحات الأخيرة من الرواية (ص300/301).
يبقى أنه رغم أن موضوع الرواية قد يحجب عنها خطاب الحداثة وفقاً لموضوعها، فهي تستعمل تقنيات الحداثة ببراعة، وهذه جدلية أخرى في مناقشة أي عمل روائي، إلاّ أنه يمكن أن يكتب عن هذه الرواية الكثير، لكن المجال هنا لا يسمح للاستفاضة أكثر ولطرحه جميعاً.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى بعض الإشكالات التي تتعلق بالموروثات من التقاليد والتركيز عليها، التي وإن كان الدين لا يمنعها، إلا أنه أيضاً، لا يمنع تجاوزها، مثل التركيز على الدونية في علاقة الأنثى بالذكر، كتأكيد عبد القادر لماجدة: "سريرك! بل هو سريري.. أنت وسريرك لي.."؟ وهذا موروث بيئي يكرس زعامة الذكر، ولا علاقة للقِوامة به. مع الإشارة، إيجاباً، إلى أن توقيع العمل باسم رجل وامرأة، تأكيد عملي على أن الفكر يتجاوز في تساميه هذه الدونية، ليعترف بأن وحدة الفكر تعود للإنسان عموماً وليس لنوع منه، لكنهما على ما أرى أصرّا على الالتزام بالعرف الاجتماعي القائم، والاستسلام لأنانية الذكورية في التعامل مع الجنس الآخر.
ومنعاً للاطالة والملالة، سنتوقف هنا، ونقصر قراءتنا على "عاشق في مكة"، وسيكون لنا قراءات أخرى لما صدر بتوقيع الكاتبين: دموع مسلحة، تحت الجذوع، عندما يحلم الراعي، عابرة سبيل، لقاء مع الماضي.
ــــــــــــــــــــــــــ
* صدرت الرواية في طبعتها الثانية عن دار الكفاح للنشر والتوزيع بالدمام، فى 296 صفحة من المقاس المتوسط. وكانت صدرت في طبعتها الأولى عن دار الصفوة في بيروت بلوحة غلاف غير التي اعتمدت في الثانية.