فعلُ ندامةٍ أم...؟
منذ مرة* كنت قرأت عجالة في مقالة كتبتها أحلام مستغانمي، وكانت المناسبة التي تتضمنها العجالة، تلك، شهر رمضان. وقد ضمّنتُ، يومها، تعليقي بعبارات الخشوع في محرابها الأدبي والإيماني، إلى جانب كلام آخر يتعلق بمن يستغل حالة الفقر الفكري والمادي، في عالمنا العربي على امتداده، وأرسلت التعليق يومها مع الصديق الدكتور جورج راسي، ولكن لم أعلم إذا أوصله أم لا.؟
وها أنا أقرأ اليوم رسالة من عزيز على قلبي أدلفها بريدي، وهي عبارة عن عجالة في مقالة، أيضاً، لأحلام مستغانمي، وتتحدث فيها عن أول زيارة لها إلى بيروت. ومما تضمنته هذه المقالة، بصرف النظر عن الخلفية التي ركنت في ذاكرة الكاتبة لتوجه مقالتها باتجاه معين، وموقفها الشخصي الكامن خلف هذا التوجيه، إلاّ أنني أتوافق معها تماماً في تساؤلها حول إذا ما تعرض لبنان أو غزة أو أي دولة عربية لغزو أو حرب جديدة، ما هو السبيل إلى استنهاض همّة الشباب العربي، وقدمت مثالاً استوحته من نداء («ستالين» وهو ينادي، من خلال المذياع، الشعب الروسي للمقاومة، والنازيون على أبواب موسكو، صائحاً: «دافعوا عن وطن بوشكينوتولستوي»). فتساءلت بمن نلهب قلوب الجماهير لتلبية نداء النجدة.؟
حقاً أنا أغبط الكاتبة العربية الفذة أحلام مستغانمي، على روحها الوطنية وعصبيتها القوية لعنوان فخرها واعتزازها، بلدها الجزائر، (رغم أني لا أؤمن بالجغرافية القطرية بل بالبيئة)، والتي يضاهيها فخرها واعتزازها زملائها من أبناء مصر، وكذلك أبناء لبنان، فلسطين، العراق، المغرب، تونس، ليبيا، سوريا، السعودية، الإمارات..... هلم جرّا.
ملاحظتان لفتتاني في الموضوع، رغم أنها ضمّنت مقالتها أكثر من وجه قد يأخذ رضى أكثر من توجه متلقي، أي إنه يصلح للجميع، ويبقى هدفها الأساس من كتابته (!!). سيلاحظ القارىء تركيزها عليه في الأقسام الأخيرة من الموضوع.
الملاحظة الأولى: أتساءل معها من سيكون عنواناً تحفيزياً للرأي العام: أهُم الإسلاميون، وقد باتوا إسلامات، مذهبية وعصبية وجغرافية. بل أكثر.. متخاصمون مختلفون لمجرد الإختلاف بغرض تسجيل موقف سياسي.. أم يوجّه النداء إلى القوميين (وهذا إيماني) وقد باتو مجموعات وجزر موزعة لا رابط بينها بحكم غياب القيادة الفعلية الواعية والمخلصة، ناهيك عن فقدان برنامجها السياسي العملي في وجه إيقاظ العرقيات والعودة إلى ترميم الحضارات(!؟!) تحت عنوان حقوق الأقليات الذي وجد الغرب والاستعمار الجديد منفذاً له منه.. حتى الجزائر لم تسلم منه.
الملاحظة الثانية: لا أعتقد أننا كنا سنقرأ هذا المضمون (والتحديد والتركيز) بقلم أحلام، لولا حادثة كرة القدم «المشؤومة» بين «مصر» و «الجزائر».. التي لم يخجل قادتها من التهديد بالحرب والوعيد بالانتقام.. هذه الأكذوبة التي أضاعت أشهراً من الديبلوماسية العربية التي انشغلت في التحضير لهذه «المباريات»، في مقابل نشاط الديبلوماسية الإسرائيلية التي أكملت إجهازها على باقي فلسطين وزرع المستوطنات في ما تبقى من القدس. (لنا مقال حول تلك المباريات على الرابط التالي):
وما دامت الأديبة شاءت أن تجعل مقالها موجهاً إلى الرأي العام ناقلة إليه هواجسها وتساؤلاتها واستنكاراتها التي نشاركها إياها ونقف إلى جانبها فيها دون توانٍ أو تساؤل، دعونا نتوجه معها إلى الرأي العام ونتساءل عن مدى تأثير التوجيه الإعلامي في الرأي العام الجَمْعي، ومن خلال ما عُرفت به الأديبة الرصينة، لعلنا نتذكر بداية التحولات في مضامين القصة والرواية العربية من الخطوط التي سار عليها الرعيل الأول في المشرق العربي، ممّن اعتُبِروا قدوة يحتذى بهم عند كثير من روائيي وقصاصي المغرب العربي، فسنجد بأن الروائية أحلام كانت من قائدات الفتح الإغوائي في الرواية العربية، رغم إلباس هذا الإغواء جلباب الأدب الحديث، أو الحداثة في لغة وخطاب الأدب، ونتذكر يومها أن كتابات أحلام اكتسحت مواكب القراء لما تضمنته من مشاهد أغرت هذا الشارع الذي تشكو منه اليوم وتعتبره مجرد آذان طويلة أو قصيرة لا فرق، لكنها تحكم عليه بالسّمّيع غير النّبيه.
وهي تعلم تماماً أن ما كان يجذب القارىء، حينها، ليس المضمون الأدبي أو التوصيف المنشور على مدى الصفحات لواقع الثورة الجزائرية وأبطالها وسيَر شهدائها والفاعلين غير المنظورين في تلك الثورة، بل الجاذب هو المشهدية الإغوائية المحركة للغرائز عند القراء العاديين، والتثمين لهذا الفتح العظيم في السرد الروائي عند "المتثقفين".
قد لا يكفي أن نحزن، ونبلل وجنتينا بفعل ندامة، من خلال ما حمله شعار جواز سفرنا وجغرافية ولادتنا حين نستلهم ثقافتنا وإخلاقياتنا وانتمائنا القومي، فولادة من ذكرتهُنّ أحلام، على سبيل الاستنكار كسبيل استنهاض لشباب الأمة، علّهُنّ يُجدِيَنّ في تلبية النداء، هنّ ممن دأب جيل الحداثة بعيداً عن الاطار القومي، برغم تظهيره أبشع صور القهر الاستعماري، على تمهيد الطريق لولادتهن، هنّ صنيعة الانفتاح المغلوط الذي حول المرأة العربية من مثال الحكمة في صنع الرجال وحدّة الفراسة، ومنها المراة الجزائرية بالذات، إلى وسادة فراش، وأحال جسدها إلى رموز يواري عبره أوجاع الأمة، وأبى أن يَعْبُرها من السرير ومنطوياته.
حين نساهم بصنع هذه الأمثلة وننادي بنهضة الفكر وإخراجه من دائرة العتمة إلى نور الحداثة بذرائع مختلفة، حينها علينا أن نوجه اللوم إلى أنفسنا قبل أن نتلوا فعل الندامة ونلعن الزمن الخطأ. كما من غير المنطقي أن نخاطب أمة، بلساننا وضميرنا ينشد معزوفة الحدود الجغرافية. فالمشرق العربي والمغرب العربي هما امتداد لبعضهما ولا يعقل أن يندم ابن مشرق عربي على وجوده في مغرب عربي.!
قد يشار إلينا أننا لم نستدرك تماماً ما ذهبت إليه الأديبة، وبأن الأسماء والمسميات هي مجرد الشكل، وبأن المضمون كان خطاباً لضمير الأمة، فنقول بلى، فهمنا كل هذا، وكذلك فهمنا لماذا تقدم ما تقدم، من المقال، لِيَليه ما تلاه.!
نحن نفهم الحداثة تطويراً لا تغييراً، نفهم الانفتاح على الآخر كسباً معرفياً لا انسياقاً تذويبياً. نفهم الثقافة تنويراً للمدارك لا تدويراً للزوايا.. أن تنير تراثنا الثقافي وتترجمه إلى سلوك وممارسات، لا تحويله إلى سلوكيات وممارسات وليدة ثقافات أخرى.
مداد فخرنا ووطن عزّنا وعنوان فكرنا عبد القادر الجزائري ومحمد عبده وأمثالهم ممن عملوا بجهد لأجل تنوير مواطنيهم ومجتمعاتهم، لا تغيير مفاهيمهم.
أصابت جداً أحلام حين أظهرت ما أظهرت وانتقدت ما أنتقدت، ولذلك هي مدعوة لقراءة الأسباب كما لامست النتائج. ولا نراها أنصفت المقارنة بين بطلة شَهِدَ لها التاريخ بما صنعت، بأن جعلت اسمها يقترن باسم من اتخذته مرادفا.!؟
(*) منذ «مرة» وليس «مدة» بالراء لا بالدال، هكذا سخرية من نفسي ورغبة بأن أجعل من نفسي فهلوياً يخترع تركيب كلمات في غير موضعها لعل هذا الأسلوب يجعلني في قائمة «المثقفين».