محمود درويش.. كلماتٌ حياةً ولغةً موتٌ..!؟
بين كلماتُ الحياةِ ولغةُ الموتِ، ثمّة وجدان يقف عند لحظة الاستقبال وعند لحظة الوداع.
هذه الكلمات تردّد صداها أمس حين أغمض محمود درويش عينيه للمرة الأخيرة ليترك الكلمات تصير لغة في وجدان من عرفوه ومن قرأوه ومن سمعوه.. ومن تغنوا بشعره ليعبروا عن تعلقهم بالقضية عبر كلماته.
شاءت المشيئة أن تُوقف سيل الحروف من فم القضية، أو شاءت المشيئة أن تغمض هذه العيون ويتوقف ذالك القلب "الفلسطيني" بين يدي جراح من "العراق" رافق آخر نفثة تنفّس لفظتها شفاه محمود درويش في سريره في المستشفى الذي سكنه في هيوستن بولاية تكساس "الأميركية" منذ خمسة أيام.
طبيب عراقي يقف عند آخر لحظات شاعر فلسطيني، شاءت المشيئة أن تجعل من هذه اللحظة عنواناً وجدانياً عن القضيتين، أكثر بلاغة من قصيدة مرصوفة بكلمات موزونة أو منثورة، لتقول: شئت هذا لتبقى القضية حيّة مهما تشعبت مآسيها وحيث انتشر قهرها بفعل ظلم ذوي القربى أو دموية المحتل وممارسته إرهابه.
في هذه اللحظة قد تستحضر ذاكرتنا الكثير من شعرك يا محمود، لكن لن تستطيع أن تستحضر بعد شعورك.
وبرغم كل ما قيل عنك وما سيقال سلباً أو إيجاباً، ستبقى اسماً مرادفاً للقضية التي أخذتها إلى العالمية وأخذتك إلى الوجدان.
فقلبك الذي اختبر الموت في العام 1984 والعام 1998 ليكون الموعد 8/8/2008 هو الموعد الأخير حين ذهبت في غيبوبة بعد العملية الجراحية التي أخضعت لها على عجل، فيما كانت النية مجرد إجراء فحوصات ليس إلاّ.
الموت حتمية لا بد منها، لكن يبقى ضمير العلاقة مع الوجوه التي عرفناها وآنسنا وجودها واستطبنا معشرها وترافقنا الدروب وحكايات الأيام بصحبتها، يثير أشجان الحزن على الفراق في النفوس.
ليس من السهل اليسير على النفس البشرية ان تبعد كل هذا من وجدانها قبولاً بحتمية المصير الذي لا يُعرف أوانه ولا يدرك زمانه ولا مكانه، ولكن العزاء في الصورة التي تبقى ماثلة والدور الذي تمثل في أيام حياة هذه الشخصية.
قد نكون ممن أخذوا موقفاً من المواقف الأخيرة للشاعر الكبير، والتي رأينا فيها أنحرافاً عما كانت عليه مسيرته، لكن يستحيل نكران ما قدمه في سبيل قضيته وقدسيتها. وليس من الغريب أن يستذكر المرء دور شخص مثل محمود درويش ومسيرته ليقرأ فيها الكثير من العناوين، فكيف وأن هذه الشخصية تحولت بفعل انتمائها إلى قضية شغلت العالم منذ أكثر من ستين سنة وما زالت.
هذه القضية أخذت من محمود درويش كل تفاصيل حياته وساعات أيامه، حتى فراشه الذي ظل باردا دون شريك، لم تغب عنه القضية، فحين كان يمكث فيه بفعل مرض أو إرهاق، حيثما كان في بقعة من بقاع العالم، كانت كل أحاديثه تدور حول هذه القضية وما يرتبط فيها وما يرجوه لها، كأي مواطن عربي نقل معاناته من خلال قصائده.
وكأي نجمة حجب ضوؤها بُعد المسافات عن العيون، في سماء هذا الكون، أسدل الستار عن نجم كبير من نجوم القضية الفلسطينية، ليغيب عن العيون بصورته، وعن الأسماع بصوته، وعن الكلمات بدواوينه وقصائده، ليتحول إلى لغة سوف يتعلمها الكثيرين من عشاق الكلمة ومتذوّقي الثقافة في متون القصائد وأبيات الشّعر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ توضيب نجاة