الأحد ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢١
بقلم سناء أبو شرار

القانون والأدب

هدف القانون العدالة

هدف الأدب الحكمة

هل يمكن أن يلتقي الهدفان؟ ما هي الروابط التي تجمع بينهما؟ عالم القانون الجاف والصارم وعالم الأدب الرقيق والشعوري. ثم ما الذي يمكن أن يجمع ما بين رجل القانون والكاتب؟

وهل يمكن للقاضي أن يصل للعدالة دون الحكمة؟ وهل يمكن للكاتب أن يكتب دون أن ينشد العدالة الاجتماعية؟

العدالة والحكمة لا ينفصلان، وإن انفصلا فهذا يعني أن مُشرع القانون سوف يصدر العشرات من القوانين لكي يحقق تلك العدالة التي تفتقد للحكمة، لأن أصل العدالة وجذورها هي الحكمة المنشودة، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أن الحكمة ضالة المؤمن"

فهي ضالته لأنها سوف تبقى هدف يتم السعي إليه، والعلم الوحيد الذي لا يمكن أن نحصل عليه من الكتب فقط هو الحكمة لأنها ضالعة في كل شؤون الحياة وأهمها القانون. وحين يكتب الكاتب دون أن يكون هدفه إظهار العدالة فروايته تفتقد لأهم أسس حياة الإنسان، حين يكتب عن أوهامه وتخيلاته دون أن يكون على اتصال بمعاناة الناس حين لا يحصلون على العدالة فهو ليس كاتب ولكن حكواتي.

من المدهش الإدراك كم أن القانون مرتبط بالأدب، فمجرد قراءة قرار قضائي على مستوى عالٍ من الخبرة يمكننا أن نلتمس خلال سطوره أثار الأدب الذي يعبر عنه فكر القاضي سواء قصد ذلك أم لم يقصد، فالبلاغة وحسن صياغة الجمل وترابط الأفكار وتسلسها هي عناصر مطلوبة أيضاً في الأدب وفي القرارات القضائية، فالقاضي القارئ والمثقف يكتب قرارات تختلف عن القاضي المثقف قانونياً فقط.

الأدب والقانون يشتركان في الدقة وتتبع التفاصيل، فالرواية لا يمكن ان تنجح دون تلك التفاصيل الدقيقة وكأنها نسيج رقيق يمكن غزله بهدوء وروية إلى أن تظهر الصورة النهائية وكذلك القانون لابد من صياغته بدقة وهدوء وروية مع مراعاة جميع التفاصيل، ففي كلا المجالين لا مكان للسهو أو الارتجال.

وحين نجد رجل القانون وكاتب بنفس الوقت سوف نكتشف كاتب من نوع آخر، بمذاقٍ آخر كاتب يتجاوز حتى حدود نفسه، لأنه امتلك المعرفة القانونية وحاز على مساحة شعورية واسعة، ومثال على هؤلاء الكتاب النوابغ وهم رجال قانون أيضاً دوستويفسكي وتولستوي وكافكا، وكانت كتاباتهم من أقوى الكتابات الخالدة في حضارة الشعوب

وهناك مساحة يلتقي بها الأدب والقانون بشكل حتمي ومُبهر، إنها الدراما، فقاعة المحكمة خصوصاً في القضايا الجنائية هي مسلسل درامي مشوق يخطف الأبصار ويقطع الأنفاس خصوصاً بحضور محامي فذ وقاضٍ حاد الذكاء؛ يصبح هنا الأدب والقانون رفيقا درب على مسرح الحدث الإنساني، لأن قاعة المحكمة والرواية في عالم الدراما ليسا سوى شريكين كلا منهما يتبع أسلوب مختلف في عرض الدراما، الكاتب عبر أوراقه والقاضي والمحامي عبر جلسات المحاكمة وأقوال الشهود والخبراء وإعادة تمثيل الجريمة ثم المرافعات العبقرية والقرارات النهائية التي تصطبغ بالصبغة الأدبية بشكل قوي وواضح، وربما يكون القضاء الإنجليزي هو الأقرب إلى عالم الأدب لأنه يمنح القاضي سلطة أدبية وفكرية تحقيقاً للعدالة ولا يتقيد بحرفية النصوص القانونية بينما القانون الفرنسي يُلزم القاضي بتطبيق النصوص القانونية بجمودها وأحياناً بقسوتها، وهو ما تطبقه أغلب الدول العربية؛ ولهذا يتمتع القاضي البريطاني بفصاحة غير عادية لأنه تم منحه هذا الحيز الذاتي لأن يستعمل ثقافته ومشاعره وتقديره للأمور بشكل موسع وبثقة كاملة من قبل المُشرع.

ولكن هل القانون يتم تشريعه لأجل الأقوياء أم الفقراء؟ وهل الأدب يختص بالضعفاء أم الأقوياء لهم مكان فيه؟ في أغلب الروايات يكون للضعفاء الحظ الأوفر، وفي أغلب القوانين يكون الامتيازات للأقوياء وكأن القانون يتم تشريعه لأجلهم، وحين يشكي الفقراء لن يستمع لهم أحد بينما حين يتذمر الأغنياء سوف يستمع لهم كل الناس وأولهم رجل القانون، لذلك كان الأدب هو المحكمة العادلة للفقراء بينما المحاكم هي مضطهدة الضعفاء؛ ولذلك يكون الأدب أحياناً أعلى وأرفع درجة من القانون، ونرى هذا في رواية دوستويفسكي "ذكريات من بيت الموتي" والتي غيرت من واقع السجون في روسيا ولم يغير ذلك الواقع القانون ولا القضاة رغم وجود العشرات من رجال القانون الذين كانوا يدخلون تلك السجون ولم يغيروا بها شيئا، فأتت رواية أدبية متقنة وخالدة كي تغير ذلك الواقع بشكل جذري.

ويتباعد الأدب عن القانون بمساحة شاسعة فيما يتعلق بالحرية، فرجل القانون ليس حراً سواء في تفكيره أو في قرارته، هو تحت مقصلة الواجب والمسؤولية، أما الكاتب فيُحلق بجناحيه حراً طليقاً في عالم أبتدعه لنفسه ولا يستبدله لا بالقصور ولا بالقلاع، لأنه في عالمه الأدبي هو الملك والسيد، وهنا يحتاج رجل القانون إلى حرية الأديب كي يساعده في التعبير عما لا يستطيع قوله، يتحول قلم الكاتب إلى مترجم لمشاعر مخنوقة لدى رجل القانون ولأفكار حبيسة المسؤولية. ربما يتوجب على الحكومات أن تحرص على أن يكون لدى القضاة قدر معين من المعرفة بالأدب كي يكونوا أقرب لمعاناة الناس وكي تكون قرارتهم لها مرجعية قانونية وأدبية بذات الوقت، فهناك قضاة لجئوا إلى أدبيين لشرح حججهم وليكونوا أكثر بلاغة وإقناعاً.

عالمان مختلفان ولكنهما متشابكان، مهما تباعدا يلتقيان، وهل يوجد أروع من رجل قانون أديب ومثقف! وهل يوجد أروع من كاتب على معرفة بالقانون وعاشق له!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى