الكلب الذي رأى كل شيء
لم تعد عنده رغبة بالبناح، لم ينبح منذ زمن، توقف عنده الزمن أو أوقفه الزمن عن النباح، لقد فَقد تلك القدرة الهائلة التي تملكها الكلاب لتعبر عن كينونتها أو لتنبهنا من أطياف الموتى التي تراها في ليالي القرى المحترقة كما كانت تتداولها قصص الجدّات القديمة.
كان وضعه جيداً يعني " ميسورة " تماماً ككل كلاب قريتنا، أميناً ينبح عند أقدام كل غريب يقترب من بيوتنا ويعض كل لص عدا لصوص الحب وما أكثرهم عندنا، فخماً يفهم لغة الحجارة وإن أخطأ أحدنا الطريق يكون الدليل، الكلب الذي كان يحفظ أسرارنا و يستلقي في ملل الظهيرة تحت حائط واطئ يحرك ذيله كلما هش الذباب وجهه.
لم نعرف ما الذي حصل لهذا الكلب الأنيق و تضاربت الأقاويل في الصحف الشفهية و التي ترأست تحريرها " أم أحمد " العجوز الطاعنة في السن والتي تجلس أمام عتبة البيت تحصي بعصاها الراحلين وتشنق أعراض الناس على حبال البامية التي تعلقها في زواية الغرفة وحين تمل تتحدث عن أولادها العصاة وتجفف عاطفتها تماما كالتين المجفف الذي تنشره على بقجتها في فناء بيتها تحت عريشة العنب .
تقول أم أحمد : لم يعد كما كان منذ أن دب الخلاف في قريتنا، و هجم عليها ثلة من الغرباء بأحذية سود طويلة، كان يشاهد الرصاص والدماء الرخيصة عند الإنسان، نساء تغتصبن بعنف و عمليات فض بكارة للعذراوات أمام الملأ، أيادٍ تُقطع، رؤوس مفصولة عن أجسادها ، مقصلات منتشرة في كل أنحاء القرية بدلا من صينيات دبس البندورة والفلفل هكذا أضحت الدماء تتوزع أمام المنازل، عمليات حرق لأناس أحياء قام بها الغرباء لكل من يدين بغير دينهم، احترقت المحاصيل و بُترت الأشجار من جذوعها، امتلأ أنفه برائحة البارود ولم يعد يشتهي العظام، يُخطئ كثيراً بالطرقات بل فقد أيضاً حاسة الشم التي كانت تميزه، حتى أصبح يأكل العشب كلما جاع وابتعد نهائياً عن اللحوم، لم تعد تغريه أفخاذ الدجاج التي كان يحبها.
وفي رواية أخرى، قالت لنا أن حالته ازدادت سوءاً منذ أن حدثت مجزرة البئر عندما اقتحمت قوات الحكومة قريتنا بحجة البحث عن مؤيدي الغرباء، رأى أظافر تُخلع وأوصال الشباب تُقطّع أمام أمهاتهم عدا عن حفلات التعذيب على الهواء الطلق من هراوات على الأجساء و حرق للأعضاء ، نساء وأطفال يساقون عراة إلى التلة التي تشرف على القرية وتبعد ما يقارب الميلين عن القرية والتي كنا نتجه إليها بجرارات تعج بالفلاحين لم يكن هناك أجرة ندفع ثمنها ولا من مُطالب لها، فقط يتوقف سائقوها بمجرد رؤيتك في قارعة الطريق، تلك التلة التي كنا نقضي عليها جل وقتنا أثناء جولاتنا مع الرعاة للمضي بالقطيع إلى المراعي مع صوت خرير السواقي وأفواه الماعز وهي تتلمظ الثمار، حيث تتوفر المراعي و أشجار السنديان و البلوط، قرب تلك التلة يقع البئر الأثري لقريتنا ويُحكى أنه قديم جدا، كنا نقص ونؤلف عنه حكايات الجن والأشباح، نقصها في الليل حول نار هادئة ونحن نلتحف ببطانيات سميكة مطرزّة عليها نمور أليفة في مراعي قريتنا التي لا تنتهي، هناك قامت قوات الحكومة برمي سبعين شخصاً إلى البئر الواحد تلو الآخر، الزوجة أمام زوجها وأولادها، الأطفال أمام أمهاتهم، الحبيبة أمام ناظري حبيبها، كيف استطعت أيها الوطن الأنيق ترتيب كل هذه الأمور بهذا السوء ؟!..كلٌ منهم دخل إلى البئر حتى أصبح متروساً وهنا بدأت حفلة التعذيب الأصعب حين تدب غريزة التشبث بالحياة بالجميع، صرخات استنجادات وكل منهم يحاول الصعود والخروج من البئر، ظلّوا ليومين يصرخون ما من منقذ لهم، وكان الناجي الوحيد شيخو الذي خرج من البئر وهو يتكأ على جئة أمه وأطفاله للصعود والخروج من البئر، والذي بدوره أصبح مجنوناً من بعد تلك الحادثة، لم يكن يصدر منه سوى عدة عبارات " رصاص .. ابني .. بريء ..حمص ..فول .. بئر .. مليان.. مي ما في .. ما في مي " لينضم إلى ما تبقى من مجانين قريتنا، أي حزن تحمله يا قميص قريتنا لماذا فككتِ أزراركِ عند أول غريب ابتسم لكِ،
وهكذا ازدادت حالة الكلب وتضاعف مرضه وأضحى كلما يشاهد آدمياً يأكل قطعة من جسده، بدأ يعشق دماءه، لم يبق منه شيء سوى ربلتين عاريتين من اللحم، عظامه عارية لا تكسوها شيء، حتى ذيله التهمه مرة عندما شاهد شيخو يغني عارياً وسط ساحة القرية التي كانت تشهد كل أعراسنا، فقد صوته نهائيا لم يعد ينبح حتى وهو يأكل لحمه، لا يئن ولا يشعر بشيء، الكلب الذي رأى كل شيء ولم ينبح، الكلب الذي رأى كل شيء ولم ين....بح ...بح ...بح .............