السبت ٦ حزيران (يونيو) ٢٠٢٠
بقلم نوزاد جعدان جعدان

يشعل العتم كي تبدو أسنانه

إلى أين تمضي بنا هذه الأوضاع؟.. وكيف لي أن أبصق ما في داخلي على الأرصفة التي تلوّنت بخطوات الأحذية السود...لم أكن أدري أن كل هذا سيحدث في هذه البلاد وأيضاً معي، لو أني عرفتُ ذلك لانتهبت وأنا أمضي في طريقي، كان وقتاً يمزج النقيضين الحزن والفرح معاً من شيئين يحدثان في آن واحد كظهور القمر في الشفق و نزول المطر في نيسان، عندما حدّقت بالبحر وهو يخلع قميصه كي تغسله السماء، أصبح ثوبه الأزرق الممزوج بالدواة ناصع البياض، أبيض جدا، حدّقت بتلك المغسلة العظيمة، ثم نشرته على حبل غسيل النجوم الذي ارتجف مراراً وغطى هذا الثوب العملاق وجهها وبدأ يهتز مراراً ويصدر صوتا مرعبا تماما كتلك الثياب التي تهتز على شرفة مظلمة، فكّرت حينها لماذا لا يطالب المطر بعملية كيّ طويلة لقميصه كي يفتح ذراعيه بشكل أوسع ، ويكون مطراً أنيقاً ومحترماً يروي كل تلك الحقول بأكتافه العريضة.
هذا المشهد جعلني منشغلاً عن كل تلك التفاصيل التي حولي، وأنا أمضي في طريقي مسرعا قبل أن ابتل بالمطر، فمنذ صغري وأنا أكره قطعان المظلات وبائعيها التي لا تناسب حارتنا الضيقة ولا أحب المطر الذي يذكرني بالجزمة الكبيرة التي ورثتها عن أخي الأكبر وأنا طالب في الصف الأول كي أقطع بها وحل حارتنا، ارتطم رأسي بعامود إنارة مكسور المصباح، شعرتُ برأسي ثقيلة جدا حتى سقطت على الأرض، خارت قواي وبصعوبة وقفت على قدمي، وقد تبللت من أخمصهما إلى أعلى رأسي والمياه تنز من ثيابي، قلّبت ناظري حول المكان بدا لي كأني أرى العالم عالمين، حين أغلق عيني اليسرى ألمح عامود الإنارة وحارتنا المتعبة بتفاصيلها ووحلها الذي لا ينشف وحين أهم بإغلاق عيني اليمنى لا أجد شيئا سوى التراب، فقط حفنة تراب كبيرة متجمعة وهياكل عظمية تمر بجواري.

كان المنظر مرعبا جداً كما تلك الكوابيس التي نراها ونحن نتأرجح بين اليقظة والغفوة، رجعتُ إلى البيت مسرعا وأنا أغلق عيني اليسرى وأمضي، فتحت زوجتي الباب لي و سألتني عمّا حدث لعيني ، و خالتني أني تعاركت مع أحدهم أو زج أمن المدينة بي في السجن كعادتي، ونلت ما أناله كما كل مرة، جاوبتها أني بخير، و جلستُ على الأريكة متكئاً على مسندها، اقتربت مني وأبعدتْ يدي عن عيني، ابتعدت عنها مذعورا لاسيما أني لمحت هيكلها العظمي وتلافيف دماغها، كان منظرا مرعبا هل هي نفسها زوجتي التي أحببتها، ومرة أخرى خرجت من البيت مسرعاً، و جلست على كتف الرصيف أغلقت عيني اليمنى ونظرت باليسرى إلى السماء كم هو قبيح منظر القمر لم أجد به سوى الرمال والظلام يحيط به، تمتمتُ مع نفسي من يشبّه بعد اليوم حبيبته بالقمر، وأنا الشاهد الوحيد على جثة القمر صاحب الكفن الأسود، في هذا المشهد اختفت كل عقائري.

بحثت عن طبيب قريب ربما يجد حلاً لهذا الكوان الذي يحيط بي، كنت أسير كمجنون بين الطرقات أبتعد عن المارة، المارة الذين لم ألمح ثيابهم الفخمة بل هياكلهم العظمية وقعر السواد في أعينهم، أين تلك القزحيات الجميلة والتنانير القصيرة والثياب الزاهية، عند الطبيب وجدت ضآلتي فهناك الكثير من الهياكل العظمية التي تجعلني أبدو شخصا طبيعياً، قال لي الطبيب أن لا شيء بي وعيني اليسار طبيعية.

في طريق عودتي، قررت زيارة إحدى المقابر والتي انتشرت كثيرا في الفترة الأخيرة بمدينتنا حتى أصبح عندنا فائض للموتى نستطيع تصديره إلى أي بلد، نعم أصبحت عندنا صناعة الموت، أخيرا احترفنا شيئا وقضينا على العجز الاقتصادي لدينا كل شيء فقط تعال وتفرج، لدينا لطلبة الطب في الخارج جثث طازجة .. و للمرضى في أوربا كلى سالكة نظيفة لا تحتاج إلى سباكين، و مثانات مطهرة، و عيون لا غبار عليها، و آذان لا تسمع إلا ما يروق لها .. و عيون لا تبصر إلا في الليل، و أقدام مفصلة تفصيل كل القياسات موجودة حتى للأقزام والعمالقة.

تجوّلت بين قبور تلك الجبانة وأغلقت عيني اليمنى وبدأت أجول باليسرى على شواهدها، وجدت الموتى كما هم بأشكالهم الحقيقية تماما كما تركونا بأثوابهم الجميلة وأسنانهم الحلوة، كنت أرى ما تحت الوحل، لم يفصلني التراب عن التراب، هناك حيث يبتسمون وروائح عطورهم تمتزج برائحة الطين، تفحّصت الأضرحة قبرا قبرا، نعم، منذ ذلك الوقت وأنا أقضي وقتي بينهم هناك وأحكي لهم عن عيني التي لا أرى فيها سواهم، وهم بكل هدوء يصغون إلى كل تفصيل دون أن يصيبهم ملل، هكذا تحت سماء عمياء لا أجد فيها شيئاً، أحدّث الموتى الحلوين المبتسمين بأسنانهم اللامعة وسط العتمة، وأعدهم أن أجمع مياه المطر المحترم بقادوس أنيق وأسقي قبورهم بها كل يوم للموتى العطشى، فقط حين يلبس المطر قميصه الأبيض وأستعيدُ أزرار قميصي التي فقدتها وأنا أركض بين هذه المقابر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى