اللقاء الأخير
الزرقة متداخلة يكاد الأفق الممتد لا يشكل فصلا مشتركا بين الأثنين، السماء والبحر، والعينين معلقتين في نقطة ما تسكن خلف المدى وكأن هذا الشرود المتواصل يعيد إلى ذاكرتي بعد هذا العمر ترتيب الأشياء كلها، حتى ذلك الإحساس الذي غمر أرجاء نفسي في تلك اللحظة التي ألتقطت فيه هذه الصورة. لم يكن يوما عاديا، كان خروجا عن المألوف وحمى أفرزتها فورة الشباب، لم تكن اليدين تحتضنان سوى الرمل وعلى الشاطيء الممتد كان كل واحد منا يرى في نية الشمس وهي تنحدر بإتجاه الأفق، ملامح صيف يتعثر، ولم تكن عيناك في إحتضانهما ما تبقى من خيوط الشمس قبل الغروب سوى شاهد آخر على تسرب اللحظات من بين أيدينا، وأي إحتقان لا يخبيء في أعماقه نشوة اللقاء يورثني إحساسا يتعاظم في العدم.
- يعاودني الإنقباض، وكأنه الخوف من شيء لا بد منه.
– غير أننا نلتقي في مثل هذه المخاوف، وأعجب حين يحاصرنا هذا الغروب! فكيف تتسع بنا المسافة لتشمل مخاوفنا فقط ؟!
– لأنكَ لن تفهم الا ما تريد فهمه فقط.
– وما جدوى أن نفهم الأشياء بعد فوات الأوان؟؟
– لهذا يعاودني الإنقباض كلما شاهدت الغروب كأنه الخوف من ذلك اليوم الذي نخلف وراءه عمراً طويلاً ولا يكون على رغم إمتداده الواسع كافيا لتحقيق حلم واحد.
ولأنها حواجز مشروعة تلك التي تمثلها الأحلام حين تقف حائلا بين شخص وآخر، فقد كنت ألوذ بالصمت وبالنظر إلى ما قد يتبقى لي من هذا الحاضر.
ولا يكفيني اليوم كل ما تبقى، فكلها أشياء تشدني إلى الماضي، ورأسي يستعين بألف مخيلة بعد هذا العمر فالملامح في تآكل مستمر، ولا شك أن ما تبقى عتيق، حتى ذلك الإحساس بكل ما يحمل من قوة لم يعد يولد في ذهني سوى أسئلة تتردد كلما تخيلت أننا إلتقينا مرة أخرى.
– أما تزال الشرفة تحتفظ لنا حتى هذا اليوم بذكرى تعيد إلينا وهج تلك الأمسيات؟؟
– ثم ماذا لوجمعتنا مرة أخرى وقد تبدل كل شيء؟؟
– والأحلام التي بدت لي يوما أشبه بالمستحيل... ترى هل تحققت؟؟
– وإن تحققت... هل كانت تستحق كل هذا العناء ؟؟
ومثلما تسربت كل الشهور والسنوات التي جمعتنا، فقد تسربت آخر اللحظات وبأ العد التنازلي يثير في داخلي إحساسا ينذر بالغربة الأخرى، وأحتوتني الزجاجة من جديد، غصة في الحلق ولا تنفس إلا من خلال عنق ضيق موصول بهذه الدنيا التي تنذر بقدوم الوجه الآخر.
وفي اللحظة الأخيرة، وفي إنتظارنا الطويل لها إلتقت عيوننا وكأنها سد لم يحتجز إلا ما كنا بحاجة لأن نقوله... ومنذ زمن بعيد، ثم إنقضت مثل غيرها كأي لحظة عابرة وأفترقنا ولم تزل عباراتك حتى هذه اللحظة ترن في أذني مخلفة ورائها دهرا طويلا:
– حتى هذه اللحظة لم أَفهمكْ !!
– برغم كل تلك السنين ؟؟؟
– ليس طول المدة أو قصرها هو السبب.
– صحيح فأنا برغم كل السنين التي جمعتنا لم أفهمك الا في هذه اللحظة!!!
– ربما... ربما كان المهم هو الصعود في لحظة مشتركة حتى نصل إلى تواصل أبد...
وفي الصفحة المخصصة للذكرى كتبت كل ما يمكنني في ذلك الوقت، على أمل أن يظل حاضراً إلى جانب الذكريات في وحدتك:
صدقيني كثيرا ما ما نقف على حقائق عجزنا عن الوصول إليها حتى نفاجأ بها بعد فوات الأوان تورث فينا حسرة وخيبة تستقر في أعماقنا وفي لحظة ما ربما لن تأتي نخلف ورائنا عمراً يظل يمد حاضرنا بكل ما في الأيام من مرارة وقسوه لأظل أنا وبكل ما أملك من ذكرى وتيه أُعانق وجودك في الغياب لعلها اللحظة من بقايا غير مشتركة أحقق في صعودي إليها تواصلنا الأبدي.
في وجودي لم تكوني لشيء أبداً، حتى لنفسك، كنت غريبة عنها بقدر ما كنتُ أجمع بين نقيضين ولعي بك، وهروبي إلى كل شيء تفتقدين الوصول إليه، وفي فراغ الذات كان لابد منكِ، حتى في رتابة الأيام، كان وجهك الموصول... دائرة من وهم وحقيقة صعبة، وكنت أحيا بين نارين وإختيار أصعب، أما اليوم وفي غياب كل المبررات فإنني أقف وبكل وضوح على حقيقة إختيارك السهل... الرحيل.
(2)
عادت الأشياء من حولي لتنضم إلى دورة الزمن، كأن شيئا لم يكن، كل الأماكن التي جمعت بين أولى البدايات وآخر النهايات كان لها صمت المقابر، حتى الصباحات لها إشراقة أخرى، والوقت بلا معنى وبين كل ما تبقى أظل أنا خارج الدائرة، منبوذ من الوقت، وإنتظاري بلا قلق.
كل شيئ ممكن أن يُحتمل، أما أَن يظل كل ما يتسرب من داخلي يعيدني لأبقى في مرحلة الحياد، فهذا لا يحتمل، وأيضا هذه الشرفة الاخرى... لولا أنها المرة الأولى... لقلت أنها هي!!! ولكن سرعان ما تعبرني اللحظة لتنشر حولي سرها القادم مع أول الليل حين تغرق كل المعالم من حولي، وليس بيني وبينها غير واجهة مستديرة وفصول تراكمت مع الوقت.
عندها فقط تتحد كل التفاصيل المختلفة لأعود من جديد في كل ما يتسرب من داخلي إلى حيز الوهم ليخط قلمي على صفحة أخرى لك في الغياب:
أعرف مسبقا هذه الاحواض التي تنتشر أسفل الشرفة والتي تملأ الحديقة، وأعرف أيضا سر هذه الشجيرات التي غرست حديثا، وأنها حين تنوي أن تعانق هذه الشرفة التي تجمعنا الآن لن تقدر حتى يكون كل واحد منا قد غادرها إلى مكان آخر... وإلى الأبد.
وحين سألتني: لم كل هذا؟
كان شيئا مستغربا لديكِ.
لكنني عندما أعاود النظر في كل ما هو أخضر يملأ أرجاء ليلتنا في هذه الأمسية، ثم أحاور أُحاور عينيكِ، وحين أحاول يفاجئني وهج آخر غير هذا الليل تماما، وغير هذا الذي يلفنا معا... ثم تقولين وكأن كل شيء لنا، وليس لبوابة الوقت... لم كل هذا ؟!
عندها فقط كنت أعلم أن كل شيء سيغادر في صمت لايليق بنا، وأن هذه الواجهه الزجاجيه عبثا تحاول أن تحول بين سواد الليل وإخضرار أيدينا.
وفي آخر الليل هكذا دائما وبعد أن يقذفني الوهم من دائرة الذكرى، أعود وكأنما الفاصل بين كل ما هو مختلف وبين كل ما هو حقيقة ووهم... خيط رفيع يمتد إلى أعماقي، وحين ينسل من داخلي... تختلط الأمور من جديد لأظل مدفوعا بذكرى تلك المرحلة، ومراوحا... أتخبط في الحياد.
(3)
بقيت طوال عشرين عاما أتوقع هذه الصدفة، لم يكن لليأس قبل اليوم هذه الطريق التي بدت تفضي إلى حافة العمر. وكنت أقول في نفسي، لا بد أن هذا التوغل في شعاب الحياة وما لا أفهمه من تشابك في عمق التمادي لكل واحد منا... لا بد أن يفضي في نهاية المطاف إلى تقاطع يشكل هذه الصدفة. أما اليوم وعلى ضوء اليدين وقد غزتها العروق... أخرجت ُ كل ما تبقى، فأين كل هذا الوهن مما تعبأ به الذاكرة؟
ولم الدهشة في بساطة لا بد ان تفرضها العشرون عاما، حين يتملكني الوجه مرةً أخرى، في هذه الصدفة ؟
حتما لم تكن التجاعيد وقد طمست مختلف ملامح الوجه، ولا هذا الشحوب، ولكن أن تمتد يد الزمان لتسلب من عينيكِ بريق التحدي ووهج الكبرياء لتكون الملامح في كل ما تبقى لديكِ شاهدة على الهزيمة والهزيمة فقط !!.
حتى صوتك عندما يخاطبني للمرة الأولى بعد هذا العمر، أحسست وكأنه يأتيني من أعماق يائسة... مستسلمة!!
– شيء واحد لم يتغير، ما زال يلازمكْ حتى بعد هذه السنين.
– ما هو؟؟
– هذا القلق المتواصل!!
– وأنتِ... إلى أين وصلتِ؟؟
وكأنه الإعتراف لا يحمل أي معنى للخجل، وبثقة تعكس نضجا غرسته السنين أجابت:
– ما زلت أبحث عن أطراف الحلم.
– والعمر ؟؟؟
– ثمن باهظ للبحث عن سراب، لكنه يستحق المحاولة.
– واليوم ؟؟؟
– لم نزل نملك أشياء كثيرة... صدقني.
– في الماضي كنا نملك كل شيء.
– إلا شيئا واحدا... أتدري ما هو؟ إنه الزمن بكل ما يحمل من معاني التجربة، كان لابد من التجربة.
– والغد؟؟؟
– ربما لم يبق في العمر بقية، وغدا أعود... لا أدري لم تغلبني الحسرة...؟
– أنا الآخر تغلبني الحسرة... فقد أيقنت أن كل شيء يغادرني إلى غير رجعه.
ثم ودعتني ورحلت مرة أخرى.... تماما مثلما فعلتْ منذ عشرين عاما.