في البحث عن طارق لحمادي
– هي الأيام....
منذ عشرين عاماً سكتت صيحاتنا هنا في هذا المكان، خطواتنا، أيادينا الصغيرة ودعتْ آخر رسم بالطبشور على ذاك الجدار، عناده في البقاء لم يزل يدل علينا، لكن هل حقاً كنّا ذات يوم هنا؟ منذ اللحظة الأولى تحرك شيء ما في داخلي، فأيقنت أني سأبدأ برسم لوحتى الأولى من هذا المكان، فالرسم مثل ولادة القصيدة قد تقوده الإنفعالة الاولى، كنتُ أجتاز إنعطافة الزقاق -والذي أحسسته ضيقا-ً نحو أطلال بيتنا الذي تهدم ولم يبق منه إلا ما يدل عليه، حين إستوقفتني تلك الشجرة العجوز، شجرة "الدردار"...فاجأتني بصمودها على الطرف المقابل، كان مجرد النظر إليها كفيلا بإشعال الذاكرة، "عبادي" رفيق الطفولة، وفناء بيته الذي يتكىء على جذعها، فروعها الممتدة كاخطبوط، وثمة شيء لا يعقل ظل شاهداً على ذكرى قديمة، يهتز في جوفها كلما هبت رياح المواسم تناهى إلى مسمعي ذلك الشدو الحزين والذي لم يبق منه سوى إحتكاك ذلك القفص المعدني بأغصانها، هل ظل معلقاً حتى يومنا هذا بأنتظار "حسون" لم يأتِ؟ أم بانتظار احد آخر عفا عن ذكره الزمن، ترى أين "عبادي" بعد هذه السنين؟ هل أخذته "وهران" بجريرة احلامه البسيطة ليدل عليه قفص منسي؟
– هي الأيام... كُنتَ تُحيل إليها إرهاصاتنا هنا، كنتَ تؤمن بالتغيير القادم عندما تعجز إرادتنا الضعيفة، ولمّا لم نبرأ مما علق، كنتَ تعيدُ تعريفها أمامنا بخرافة الزمن المدفون في قاع بعيدة تسكن النفس، نجترها في امسيات الزمن القادم، نحكيها قبل ان تندثر وحين تشتعل بمقدار الثواني والشهور... مضيتَ وحيداً، وبقينا...
بالأمس كان "عبادي" يجمع أوراقاً كثيرة، ينثرها في زوايا المكان، ويختار الشرود في لحظة إزدحام عابرة للورق المبعثر، حسبما أذكر، لم تكن سوى قصاصات بيضاء ممهورة بانفاس قديمة افلتت من لظى نياشين محتملة لم تزين صدر وقته المسلوب بعد، لكنها تشبه اللحن في مطلع النغم الشرقي حين تندلع الموسيقى قبل أن يستفيق الشتاء على اعتاب زقاقنا المنسي، قصاصات ورقية ترسم وجهاً ناحلاً ينأى عن مؤانسة النار واعواد الحطب المشتعلة، كنا نصطلي بوهج النار وهي تقضم عيدان الحطب المجفف، نمد أيدينا الصغيرة إليها ثم نسحبها سريعاً، لم نحظَ بأي من الكوانين، فقط نكتفي بعلب الصفيح المهملة، نستهلك أعواد الثقاب في إشعال حزمة بللها رشق مطر مبكر فاجأ الجميع، نستصرخ بعضنا بقليل من "الكاز" من يأتِ بالقليل؟ نفر إلى أسفل الردهة البارزة والوحيدة فوق أرض الزقاق، لتقينا شر البلل، وقبل أن تفوتنا الأمسية، يجلب " الكاز" ونصف دسته من اعواد الثقاب، يضرم النار بكلتا يديه، وحين نصطلي بدفئها... ينأى بعيدا، لا يعبأ بالدفء، يسند ظهره للجدار ثم يشرد في صمت عالم آخر... هي الأيام... يتخلص من حمل ثقيل حين يكررها، لكنها تعبرني كنغمة قديمة معتقة تصدر من جوف قيثارة أثرية، أتراخى على إيقاعها المتصل، هي الأيام... وتمضي بنا الأيام... كلها تلتقي هنا كخمر القوارير في الأقبية، أستدير لأنتزع الصمت من شرود عينيه، لكن إلى أين يا " عبادي" تحت هذا المطر؟
– إلى آب الفائت ! إلى برودة الهجر وزمهرير الوداع، واليأس، والسهد، ومرارة الذكرى...وو
لم تكن لتتيح له أن يتخيل أكثر، قال لي: كيف لـ"باريس" ان تمر عبر خيالي وأنا لم اغادر هذا الزقاق؟ حدثتني بلكنة فرنسية لذيذة، طوال شهر كامل، ورسمتْ بألوانها ذلك الحي بأكمله في "قرونوبل"، صورتهُ لي كأنني أراه، أضواءه العالية، طرقاته المرصوفة، إطلالاته المفتوحة على فضاءات رحبة، والركض في صباحات الربيع الخجولة... الظهيرة الصاخبة... ثم يغلبه الحنين فيصمت ويفتر، يتهدج حين يهمس: ومن دون مقدمات... صافحتني ورحلتْ... عادت مع اهلها برفقة آب...
إلتقيتهُ مراراً يذرع وحل الطرقات وحيدا، صامتاً، خلته يحدث نفسه ذات مرة، ذلك الشتاء لم يكن قاسيا بطقسه فحسب، بل بعسر إنقضاء لياليه التي طالت، والسأم، كنتُ لا اتوانى عن التذمر تحت وطأة غيابه أمام الجميع... في الحارة حيث كنا نرسم بالطبشور على جدران الدكاكين معاً، ثم نفرُّ بلا عقاب قبل ان يمحوها المطر، وفي الإستراحة القصيرة تحت أشجار "الدردار" والتي كانت تظلل فناء المدرسة، وفي غرفة الفصل الدراسي، ورغم هذا كله تمضي بنا الأيام... أدركتُ ذلك حين حدثني وقد إستعاد شيئاً من حضوره المفقود... وإبتسامته المألوفة: لم أعد أكترث لرحيلهم، لست معنياً بغياب أحد!! هل تصدق!؟
عدنا نتراكض مثلما كنّا في أمسنا القريب، نقصدُ " دكانة" الحي معاً ومفترق الطريق المزدحمة بطالبات المدارس المتوسطة، نتقاسمُ الوسيلة في التخلص من أعباءنا الصغيرة، نلقي بحقائب الدرس بعيداً، ثم نستقطب ما تبقى من جهد زائف بقطعة حلوى مكشوفة، في طريق العودة إلى بيوتنا، لم يمضِ وقت حتى غمرتني سعادة خفية لإستعادته بالمطلق، حين بادرني بالحديث وللمرة الاولى عن ذلك " الوكر" وبشغف كبير: متى نقتحم المكان؟ شملتني سعادة فعلية، لقد بات الإختراق وشيكاً لتلك المرحلة والتي أسماها صديقنا "منصور" ذات يوم " الأختبار الحقيقي لرجولة مبكرة".
الصباح التالي يغتسل بمظاهر إعتدال ربيعي مفاجىء مما أنعش المكان والكائنات على إختلافها، تحررت طيور الأكمة القريبة من حيِّنا بدورها، وحلقت في أجواء المكان مغردة، أطل " عبادي" من بين أغصان شجرة "الدردار" العجوز - والتي تجثم منذ قرن على مدخل بيته القديم- بدا مشتت الذهن وهو يقترب، كمن يعالج أمراً غيبياً، او ينظم بيتاً من شعر في قصيدة، أشار للقفص المعدني المعلق على فرع مرتفع للشجرة العجوز وهمس في شرود عميق: لم يرجع طائر الحسون بعدْ... وأظنه لن يرجع أبداً... لم أدرك حينها على وجه التحديد ما هي الغاية من وراء ذلك القفص وإبقاءه معلقاً هناك امام عينيه في كل لحظة ومنذ شهور عديدة، لكنني ايقنت وبكل وضوح أنه لم ينسَ "صوفيا" وأنه لا ينبغي لنفسه أن تنسى... أيضاً.
بعد حلول العطلة المدرسية بيوم واحد من ذلك الصيف البعيد، عزز "عبادي" مقتنياته الأدبية والموسيقية بشراء ثلاثة دواوين من الشعر الاندلسي دفعة واحدة، وشيء آخر كان بمثابة التحقيق لحلم بعيد وهو شراء طائر "الحسون" وحين لم تغطِ مدخراته كامل التكاليف، كان يقترض من "منصور" وهو رفيقنا الثالث واكثرنا يسراً، ولم يكتفِ بإقراضه المبلغ بل اهداه قفصاً معدنياً يليق بذلك الطائر الجميل، أما انا فكنت احلم بأقلام "الباستيل" ولوحات من الكرتون المقوى كبديل "للطباشير" والجدران السائبة، لكنني تمهلت، ولم أقدم على هذه التضحية.
إلتقينا "عبادي" ذلك المساء بعد طول إنتظار وهو ينحدر من مصطبة السمر المسائية لنساء الحي، متابطاً دواوينه الثلاثة، كان متعباً يخفي وراء عزيمته القوية قلقاً حقيقياً لم يقوَ على تجنبه حين قال: الأمر يحتاج لبذل المزيد، ربما تطلب الأمر لأكثر من صيف واحد... هذا النوع من القصائد يستعصي عليهن. رجاه "منصور" أن يترك عنه "البوقالة" ويدع النساء وشأنهن في هذه التسلية المتاحة، وان اللغة الدارجة والعامية هي الاصلح لهنَّ... لم يقتنع "عبادي" لكنه لم يعلق، عاد "منصور" ليطرح مغرياته المحرّمة، كان يتقن فن الغواية، وان الامر لا يتعدى إختباراً بسيطاً للرجولة المبكرة، وأكد لنا أن احداً لن يعلم من أبناء الحي باقتحامنا لذلك "الوكر"، تبرم "عبادي" ولم يعقب، كان يصادر بذلك رغبتي أنا الآخرفي المغامرة إلى جانب "منصور"... لكنه لم يعلم.
تفشى النبأ كعدوى، بعد أن تناولته الألسن بشيء من التحفظ في بادىء الأمر، ثم ما لبث أن صار حديثاً معلناً في مجالس الطرقات، تناقله اول المرتادين لصالون الحلاقة في ذلك الصباح، بحثنا أنا و"عبادي" عنه في بقالة والده للوقوف على حقيقة الخبر، فاصطدمنا بوجود والده على غيرعادته في مثل ذلك الوقت، كانت ملامح وجهه المنكسرة تؤكد الشائعة، بدا لنا وكأنه يتوارى عن رؤية الناس خجلا، ولما سألناه عن " منصور" أشاح عنّا وهو يردد: في جهنم... لن تقترب أية إمراة من هذه البقالة... في وجوده بعد اليوم.
بحثنا عنه في السوق المجاور، عند صديقه بائع الطيور، فلم نعثر له على أثر... كان "منصور" يؤكد تلك الشائعة باختفائه المفاجىء.
في تلك الأمسية كانت نساء المصطبة قد تداولن حكايته واجمعن على عدم الإستعانه به أو التحدث إليه، قالت إحداهن امام " عبادي" بشيء من الحزم: هذا "المنصور" ببساطة... لم يعد بريئاً... هذا أمر مخيف... إياك ان تعود لرفقته. أثنيتُ على " عبادي" تلك الليلة عدم تاييده فكرة الذهاب لذلك " الوكر" فلم يكترث، كان منزعجاً إلى حد الكآبة، واكتفى بتوجيه اللوم لأصحاب العقول على هذه المبالغة التي تحولت إلى فضيحة وان "منصور" لم يرتكب جريمة، ثم أعتذر عن مرافقتي إلى السوق للتجول في خرق جديد لبرنامجنا المسائي،
اخذتْ ساعات النهار بالإتساع والتمدد على نحو يمهد للضجر، نفذتْ أصابع الطبشور الملونة قبل أن تكتمل جدارية الصيف، البعض يومىء بحركات تدل على إعجابهم الشديد بمهارتي في الرسم امام والدي، بينما قلة منهم تثور وتهتز في إنزعاج مبهم لتلك الخربشات، وفي الحالتين كان والدي يصفعني بنظراتٍ قاسية، فأنسحب محبطاً، قررتُ اخيرا هجر تلك الجدر والإنكفاء بعيداً، أما "عبادي" فكان يستفيق بعد قيلولة العصر ليلتحم برائحة البخور وعبق الشاي الاخضر في هبوب يمهد لأمسية "البوقالة" في حضرة النساء والصبايا، لم أره بعدها يحمل تلك الدواوين نحو المصطبة فقط كان يستعين بكراسة اشعاره، صرت قليلاً ما ألتقيه، وكان يبدو عليه الرضا في كل مرة، فادرك مدى إستجابة النساء للشعر الفصيح، مررت ببيته قبيل الظهيرة، لمحته من بين أصيص الرياحين المرتفعة منكباً تحت شجرة "الدردار" يحدث طائر الحسون، دعاني للدخول بإشارة من يده، كانت ملامحه تشي بقلق شديد، حدثني بأنه إستنفذ كل الوسائل الممكنة لجعل ذلك الحسون يعود مغرداً كما كان في أيامه الاولى، لقد عجزتُ يا صديقي... لم تنجح أيا من تلك الوسائل...يبدو انني لست محظوظاً في شيء... قالها بمرارة فرثيتُ له.
غمرني شعور لا يوصف بالغبطة عندما أعلن والدي عن قرب سفرنا إلى "وهران" لقضاء فترة وجيزة هناك في بيت عمي، فانهمرت رمال السواحل البعيدة هنا بين جدران حارتنا الكئيبة وحلقت روحها في زحمة الزقاق المعفر بالتراب، تنفستُ إنفراجاً محتملاً بعد هذا الضجر فمنذ يومين -وبعد ان حل بعض الأقارب ضيوفاً على بيت عائلة "عبادي" - لم ألتقيه، واما "منصور" فقد إختفى تماماً، وبعد إلحاح شديد كان والده يعلن مرغماً بأنه سيقضي بقية الإجازة عند بيت اخته في "القصبة " بالعاصمة الجزائر،
في شهر تموز من ذلك الصيف كان ثمة سرغامض، تسلل خلسة إلى حارتنا، تجلى في تبدل ملحوظ لسلوكيات الصبية ومن بينهم انا، فقد تخلى الجميع عن ملابسهم الرثة مرة واحدة وبشكل مفاجىء، وأستبدلوها بالجديد المخبأ فوق اعالي رفوف الخزائن تلك المخصصة للمناسبات والاعياد، إكتظ صالون الحلاقة بنا، طواعية على غير عادتنا، ليس لتهذيب الشعر فحسب بل للتزين بأحدث قصة شعر شبابية، اثار هذا التبدل حفيظة الاهالي، مما حدا بهم للتساؤل في مجالسهم العامة وفي همسات النساء عبر نوافذ البيوت المتلاصقة بعدما أخذتهم الحيرة أمام عجزهم في التوصل لذلك السر، وحده "عبادي" لم يتبدل، فقط عيناه تخلتا عن تشاؤم فطريّ لتعكسا إرتياحاً داخلياً وإبتسامة صافية توحي بالرضا، ومثلما توقعت فقد حظيت لوحدي ودوناً عن جميع الصبية بالتعرف إلى ضيفته الأنيقة عندما قدمني لها بصفة الصديق، تعثرتُ في مكاني وانا احدثها للمرة الأولى، تضاءلتُ أمام أناقة طاغية أبرزتها جنبات حينا المتهالك كوشم مميز، لتبدو لنا ومنذ اللحظة الاولى كاجمل مخلوق ضمه إليه، في الأمسيات التي تلت ذلك التعارف، درج الصبية على إعتراضها بأزيائهم الجديدة وشعورهم اللامعة المضمخة بزيت الزيتون، فلم تكن تأبه، يشيعونها بنظرات متلهفة سرعان ما تنحسر عن خيبة امام هذا التجاهل، وحين يعبق الحي برائحة الشاي الاخضر وبخور الأواني لفخارية، كان "عبادي" يصحبها بمعية الشعر متابطاً كراسته نحو مصطبة السمر، بينما أعود وحيدا مسحوراً برفقة طيف نال مني الكثير، تحرر "عبادي" برفقتها من وحدة الروح على الرغم من صداقتنا العميقة، بينما تسرب شيء إلى نفسي مع الوقت راح يؤرقني حتى إختلط الأمر، فلم أميز مبعثهُ أهي غيرتي على ذلك الصديق...أم منه...، ذات صباح كان " عبادي" يشكو لها خيبته الكبيرة نحو صمت حسونه المفاجىء، فأشارت عليه بحل وحيد وهو تحريره من ذلك القفص، فأبتسم ولم يعلق، تواريتُ مرارا خلف أصيص الرياحين التي تحيط ببيت " عبادي" وشجرة الدردار العجوز أختلسُ النظر، أثناء ترددي في إقتحام المكان، وغالباً ما كنتُ أنسحب أمام شذاً محلق لعوالمٍ خفية ترسمها ملامح "عبادي" وهو يصغي لحديث عذب لا ينضب، لمحني "عبادي" ذات مرة، فرحب مبتهجاً، دعاني للدخول معلناً عن امر قد أعدّ له، كنتُ بدأتُ اعتاد النظر إلى إشراقته الجديدة حين عانقني في سعادة وهو يقول: احببت أن اقدم هديتي "لصوفيا" في حضورك... تهلل وجهها، بينما راودني قلق خفي، ناولها قفص الطائر الحسون عن طيب خاطر، متمنياً عليها قبوله، ندت عنها آهة جميلة أمام تلك المفاجئة، رافقها إرتباك يوحي بإعجاب وامتنان شديدين، ولما إستعادت رباطة جأشها، كانت تستأذن بحرية التصرف، فتحت باب القفص واطلقت ذلك الطائر، مالت على "عبادي" وهمست له في رقة متناهية: هناك على تلك الشجرة... سوف يستعيد صوته، لتستعيد بدورك متعة الإستماع... ولشيء آخر... أن تذكرني كل صباح.
لم افلح أمام اللوحة البيضاء، كلما حاولت توارت خلف ضباب كثيف حجبَ عني تلك الملامح، تعهدتُ بهدية مماثلة للذكرى، "بورتريه" يختزل السحر في وجه ملاك، غريزة الانانية على حساب صديقي في منحها قطعة مني ترافقها أينما ذهبتْ، أدركني الوقت، صوت المؤذن يصدح رخيماً معلنا عن قرب تنفس الصبح، غلبني النعاس وخيبة الأمل، وإنفاق مدخراتي اخيراً في شراء اقلام "الباستيل" ولوحات الرسم المصقولة، في الصباح كنتُ مرغماً أكاد اختنق وانا برفقة العائلة في الطريق إلى "وهران"، لجمتني المفاجئة، لم اتمكن من وداع أحد، حاصرني حضور "صوفيا" ليحول بيني وبين التمتع بتلك الإجازة، كنت اغيب في صخب الميادين، أهجر رمل السواحل إلى زرقة البحر على إمتداد أفق بعيد يشتت معنى البقاء هنا، ارسم صورة تستعصي على حضور المخيلة، تمر أيامنا الاولى، احصيها تنازليا، تحين ساعة العودة، وقبل هدر المزيد في تصور اللقاء المرتقب، يمدد والدي فترة البقاء لأسبوع جديد، لنمضيه بين "مداغ" و "سانتا كروز" ينقضي الاسبوع وتحتل وجوه كثيرة مساحة الحضور الذهني، فتيات كثيرات، تتشابه، تلتقي بأناقة مماثلة، بعضهنّ تفوق في حضوره على غياب "صوفيا" والذي غدا باهتاً بمرور الايام، تلاشى التواصل، وبات ما أراه مسيطرا على لحظة وجودي، كان الضباب في "سانتا كروز" ينقشع وبكل وضوح عن ملامح باردة "لصوفيا" إستحضرتها المخيلة بلا احاسيس، تلاشى ما تبقى من مشاعر حين مدد والدي إقامتنا حتى أواخر آب، فلم يبق سوى إشتياقي لصديق الطفولة "عبادي"، تمنيت لو طال بنا المكوث، حين حزمنا أمتعة السفر وانطلقنا في رحلة العودة، زقاق حينا بدى يشكو غياب دهر طويل، لمحتُ بيت "عبادي" مستكيناً، تظلله شجرة "الدردار" العجوز وعتمة الليل.
حركت نسائم الخريف المشبعة برحيق الأودية أمسياتنا الراكدة في أواخر الصيف، لكنها لم تحرك في "عبادي" سوى حنين مُرّ لماض لمْ تجف ذكراه بعد، علق في مرارة معتادة: هناك ما يستحق القول... لقد إستعاد الحسون صوته... يأتي كل صباح ليغرد فوق الشجرة... وعندما استيقظ... يختفي....
جيل جديد لنساء "البوقالة" على مصاطب السهر يردّدن أشعاراً حديثة ورثنها عن ذلك الزمن الجميل، وسوف يورثنها لأجيال ستأتي، ليس بينهن من تعرف الشاعر ولا أين عاش، أكاد اجزم... فقط يذهب الشاعروتبقى القصيدة، سألتهُ مستهجناً ذات مساء، عزيزي " عبادي" النساء يرددن أشعارك... يحفظنها عن ظهر قلب، أين الدواوين الثلاثة للشعر الأندلسي؟؟ تبسم في هدوء وهو يشير إلى كراسته الجلدية في حياء ويقول: حين إستعصى قديم الشعر على الحفظ، تغلبت هذه الكراسة على كل الدواوين،... وهل أتركهن لترديد قصائد العوام؟
لم أعد اذكر واقع التفاصيل في زحمة الشهور، على وجه التحديد، فحين تمتطي الأيام عجلة الوقت ثم تدور بنا، فإننا سوف ننسى، كل ما من شأنه أن يَعلقْ... تحفظه الدفاتر المكتوبة والسيرة الباقية، إما فوق نقش على جذع شجرة، أو خربشات لبقايا أثر باهت فوق جدران قديمة، ثم تنتظر ليعفو عنها الزمان بموتنا فلا يأتي على ذكرها أحد، لم يبق بعد عشرين عاماً سوى هذه الشجرة، على مدخل تداعى لبيت كان هنا، وقفص معلق لسبب ظل مجهولا، تهزه الريح في موسم الحكاية، وطائر جميل ربما... ربما إستعاد صوته ذات يوم ليغرد في صباح صيفي فوق تلك الشجرة.
[1]