الموشح الديني في الأندلس
تعد الموشحات فناً غنائياً مستحدثاً من فنون الشعر العربي، نشأ وترعرع في بلاد الأندلس، وتعد الموشحات واحدة من المحاولات التي قام بها الشعراء لتجديد البناء الموسيقي للشعر العربي وتطويره المتمثل في وحدة الوزن والقافية عن طريق توزيع التفعيلات، وتنويع القوافي، يقول ابن سناء الملك: (والموشحات يعمل فيها ما يعمل في أنواع الشعر من الغزل والمدح والرثاء والهجوّ والمجون والزهد، وما كان منها في الزهد يُقال له المكفر، والرسم في المكفر خاصة أن لا يُعمَل إلا على وزن موشح معروف، وقوافي أقفاله، ويختم بخرجة ذلك الموشح، ليدل على أنه مكفره، ومستقيل ربه عن شاعره ومستغفره)(3:51)، ذلك أن الموشحات قد ارتبطت في أطوارها الأولى بالغناء والموسيقى، لهذا لا يستبعد أن تكون هناك موشحات هي الأخرى قد نظمت في الزهد، لارتباط نشأة الزهد بالإنشاد الجماعي حيث كانت أناشيد الزهد تتردد جماعياً في المساجد(34:13)، أو يتغنى بها في حلقات الذكر والسماع.
ومن حق القارئ أن يتساءل ما العلاقة التي ترتبط بين الموشحات والموضوعات الدينية في الشعر؟ ألا تعد نشأة الموشحات نشأة ترتبط أساساً بالغناء واللهو الطرب، والموضوعات الدينية تميل إلى الجدية والمحافظة والوقار؟، إلى جانب أن معالجة الشعراء لمثل هذه الموضوعات هي في حد ذاتها أمر صعب وشاق، وهكذا فالصلة إذن بينهما ضعيفة وبعيدة.
بيد أن القراءة المتأنية المتأملة لهذه العلاقة، تقود إلى أن هذا التباعد بين أطراف العلاقة هو أمر ظاهري، غير مكتمل الجوانب، إذ إن ثمة أموراً ًتجعل من العلاقة بينهما علاقة تقارب وتشابه إلى حد ما، ذلك أن نشأة الموشحات ـ من وجهة نظر بعض الدارسين في هذا الميدان ـ ترتبط بالجانب المتدين في المجتمع الأندلسي؛ لأن بعض الشعراء الذين أسهموا في نشأة هذا الفن وقالوا ـ وهم في شبابهم ـ أشعاراً في اللهو والمجون والعبث، تابوا في أخريات حياتهم، ونقضوا ما قالوه في المجون بقصائد في التوبة والندم والاستغفار، ومن هؤلاء الشعراء في الأندلس ابن عبد ربه، فالمعروف عن ابن عبد ربه أنه قد نظم قصائد زهدية دارت حول معاني الزهد والتوبة سميت" بالممحصات" التي نقض فيها ما قاله في أيام الصبا والشباب بقصائد في المواعظ والزهد، والتزم فيها الوزن والقافية وحركة الروي ومن أمثلتها قوله(6:1 / 165، 166):
يا عاجزاً ليس يعفو حين يقتدرُولا يقضي له من عيشه وطرُعاين بقلبك إنَّ العين غافلةٌعن الحقيقة، واعلم أنها سقرُأنت المقول له. ماقلت مبتدئا" هلا أدّركتَ لبين أنتَ مبتكرُ
فقد عارض في البيت الأخير قطعة قالها أيام الصبا واللهو تبدأ بقوله:
هلاّ ابتكرت لبين أنت مبتكرهيهات يأبى عليك الله والقدرُ
وبالرجوع إلى حديث ابن سناء الملك عن الموشح المكفر في الزهد، يتبين التشابه القريب من حيث البناء والمضمون الشعري بين الممحصات والموشح المكفر، وهذا يرجح أن يكون الشاعر ابن عبد ربه قد نظم إلى جانب القصائد الممحصات بعضا من الموشحات المكفرات التي ربما نهج في بنائها نهجاً يكاد يكون قريباً من روح الموشح وإن لم يحمل كل قسماته، أو أن تكون قصائده الممحصات مقدمة وإرهاصاً لوجود الموشح المكفر الذي عرف ـ بعد ذلك ـ عند وشاحي الزهد والتصوف.
وثمة جانب آخر يقوي العلاقة بين كلٍ من الموشح وموضوعات الشعر الديني والذي يتمثل في أن الشعراء في كلا الاتجاهين يعولان على العنصر الموسيقي في التعبير عن تجاربهما الشعرية ورؤاهما الإنسانية، ذلك أن الإنشاد والغناء يعدان عنصرين جوهريين في البناء الفني لهذا النمط من الشعر.
ومهما يكن من أمر، فقد ازدهرت الموشحات الدينية في الأندلس، وتنوعت أغراضها مابين: زهد وتصوف ومديح نبوي،(فلأهل الأندلس نتاج غزير حافل في مضمار المدائح النبوية وشعر الزهد والتصوف والحنين إلى الديار المقدسة) (9: 171 -172)، وبالرجوع إلى الإحصائية التي أوردها صاحب ديوان الموشحات الأندلسية يتضح أن هناك (58) موشحة في الموضوعات الدينية من أصل (135) موشحة في الأغراض الأخرى، وهذا يدل على"أن الموشحات الدينية واكبت ازدهار الشعر الديني الذي بلغ ذروة نضوجه وازدهاره في تلك الفترة"(11: 526). إلى جانب ما استدرك من موشحات دينية لابن الصباغ الجذامى التي وصل عددها إلى (24) موشحة(8:17 وما بعدها).
وقد برز في نظم الموشحات الدينية ثلاثة من الوشاحين هم: ابن الصباغ الجذامي في الزهد والمدائح النبوية والتصوف، وابن عربي، والششتري في موشحات التصوف.
وسيقتصر البحث في دراسة الموشح الديني على موشح الزهد الديني؛ لأنه أكثر الموشحات الدينية توافراً في الإنتاج الشعري، فضلاً عن أن كثيراً من موشحات التصوف والمديح النبوي تشتمل على مضامين زهدية مبثوثة في ثناياها تلك الموشحات لا سيما موشحات ابن الصباغ الجذامي، وهو أبوعبد الله محمد بن أحمد الصباغ، من شعراء الموحدين، اشتهر بموشحاته في الزهد والمديح النبوي والتصوف توفى نحو سنة 670هـ (14: 2/230 وما بعدها)، وقد أورد له المقري في كتابه (أزهار الرياض) عدداً ًمن الموشحات التي تدور كلها حول الزهد والمدائح النبوية، وأكد أنه لم يذكر منها إلا الغرر، على أنها كلها غرر"(14: 2/230 وما بعدها).
وسيتناول البحث جانبين من جوانب موشح الديني الزهدي، وهما: المضامين الزهدية في موشح الزهد، والجوانب الفنية في موشح الزهد.
أ ـ المضامين الزهدية في موشح الزهد:
لعل من أهم المعاني والأفكار التي تناولتها موشحة الزهد صورة الشيب والهرم، والتحسر على الشباب والترحم على أيامه، ومناجاة الله والتضرع إليه، وتصوير الشوق والحنين إلى زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة بخاصة قبر الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ـ والتشفع به، وذكر مفازع الجحيم وأهوال الحشر، وكادت صورة الدنيا والنفور منها، وصورة القبر والموت تختفي من موشحات الزهد، ولعل السر في ذلك يرجع إلى قلة ما توافر من موشحات زهدية في الفترة التي يتناولها البحث.
ومما يجد ذكره هنا مضامين الزهد لا تشغل – في العادة - الموشحةَ كلها، وإنما تأتى تلك المضامين ممتزجة بمعاني المدائح النبوية والتصوف، باستثناء نماذج قليلة بنيت أساساً على معاني الزهد، إذ (كثيراً ما نجد الوشاح يمزج بين الزهد والتصوف والمدح النبوي، فتأتى الموشحة مزيجاً من هذه الموضوعات الثلاثة) (11: 546).
تشكل صورة الشيب والكبروالبكاء على الشباب عنصراً أساسياً من عناصر الموشحة الزهدية، إذ إنَّ إحساس الإنسان بالشيخوخة وتوقعه ذهاب منته، ودنو أجله هو من أكثر العوامل إثارة للشجن والحزن في النفس الإنسانية،وقد أدرك الشاعر ابن الصباغ الجذامي هذا الشعور الحزين بالشيخوخة، ويبدو أنه مال إلى الزهد والتوبة والتكفير عن الذنوب وهو في سن عالية، فقد صحا من صبوته بعد أن ولّى عصر الشباب، فإذا الشيب يصرح في رأسه، وإذا عُوده قد ذوى وذبل، بعد أن كان لدنا يانعا، وأيقن أن يومه قريب، وأن لاشيء يدوم في هذه الحياة، فلم يبق أمامه إلا أن يودَّعَ عهد الشباب بالدموع والأحزان، يقول(14: 2/232):
أَزهارُ شيب المــفارقتفتحت عنها الكمـامفابك الزّمان المفارقوَحَاك في النَّوح الحمامعُوّضت بالصُّبح الأَصيلوقد عرا البدرَ انكسـافألمَّ بالغُصن الذُّبــــــــولوكان لدنا ذا انعطـــافريحُ الصّبا منها يميـــــــلكأن سقى صرف السُّلافحتَّى رَمى القلب رَاشـــــقوفُوّقت نحوي السّهـاموَلسَانُ الحال ناطـــقيُخبـــرُني أَن لا دَوَام
يعرض الوشّاح في هذا الجزء من الموشحة تجاربه الذاتية في حياته العريضة بألوانها المتباينة، فيضع أمام المتلقي صورتين متقابلتين: صورة شبابه وصباه، وصورة استسلامه لقدره المحتوم بعد هرمه، ولعلّه يريد بذلك تفسير اقتناعه بحاله في هرمه بَعدَ ما أصاب في شبابه من ترف ونعيم.
والشاعر لا يعبر عن عواطفه وكوامنه النفسية باللفظ والفكرة، بل بالصورة والنغم،فقد أمدته طبيعة الأندلس: نباتها وأشجارها بمشاهد النضارة والحيوية، وبمناظر الذبول والفناء، وأسهم الإيقاع النفسي المنبعث من موسيقى الألفاظ والعبارات بخاصة القوافي المقيدة المردوفة غالباً بحرف اللين الألف ـ في تغذية الشعور بالحزن والأسى والتأسف على الشباب وأيامه.
وابن الصباغ دائم الحسرة والأسف على أيام الشباب يتمنى عودتها، إنه يعيش ماضيه بعد أن تجهم له حاضره، فهو لا ينفك يذكر ـ وهو في شيبه ـ عنفوان صباه، ثم ينصاع إلى واقعه المرير فيصور ضعفه، وشوقه وحنينه إلى الديار المقدسة؛ ليكفر عن أوزاره(14: 2/232):
ولى الشباب وانقــضىفدمع عيني في انهمالوفي الحشى جمر الغضالفقد هاتيــــك الليالياعهد أيام الرضــــــــــاهل رجعة تدني الوصالتحيا بها نفس وامـــــقمضنى الفؤاد مستهامنحو العذيب وبارقيحدو به حادي الغرام
تنساب من هذا البيت من الموشحة أنغام حزينة شجية، فالشاعر لا يأسى على شبابه بقدر ما يأسى على ما ضاع من عمره سدًى، وهو في غفلة عن حقيقة الحياة المرَّة.
مال الشاعر في التعبير عن أحاسيسه الحزينة إلى استعمال لغة بسيطة لينة، وتراكيب ميسرة سهلة تتلاءم وبساطة تجربته الشعورية، وعمد إلى تغذية نسيجه اللغوي بألفاظ تراثية طالما ترددت على ألسنة شعراء الغزل، والتي يشير ذكرها في نفس الإنسان العربي ذكريات الشوق والحنين ومشاعر الألم والحزن مثل:" جمر الغضا، الفؤاد المستهام، الوامق، العذيب، بارق، حادي الغرام".
حاول الوشّاح أن يوفر لموشحته إيقاعا موسيقياً عذبا يجسد تجربته الشعورية، فاستغل القيم الصوتية المتولدة من تآلف الألفاظ والأصوات وتكرار بعضها تكراراً موسيقياً مثل حرف اللين الألف الذي أسهم في إفراغ الشحنات المكبوتة في أعماق نفس الشاعر نظير قوله:"ولّى الشباب وانقضى، في الحشا جمر الغضا، ياعهد أيام الصبا"، وعبر مجزوء بحر الرجز بتفعيلاته ونغماته البسيطة عن بساطة تجربة الوشاح ووضوحها.
قرن الشاعر بين ذبول الشباب والإحساس بوطأة الشيخوخة، ورغبته في التوبة والندم، فيلوم نفسه على تماديها في العبث واللهاث وراء سراب الأماني الخادع، ويحضها على الأوبة إلى محراب الله. فقد أطل الشيب، وحان الرحيل(8: 128):
بالرأس صبح الشيب لاح * نبه جنانـــــكمالي أراك في مــــــــراح * تفني زمانـــكحتى متى هذا الجمـــــاح * أمسك عنانـــكبدرك مال للأفـــــــــــــول * وأنت وانـــــيارجع فقد حان الرحيــــل * كم ذا التوانــيبادر فقد ولى الشبـــــاب * إلى المتـــــــابعمرك أودى للذهـــــــاب * هل من إيــــابما في فنائك ارتيـــــــاب * كم ذا التصــاب
فاض هذا الجزء من الموشحة بصدق العاطفة وحرارة الوجدان، فقد نقل الشاعر ما يدورفي نفسه من صراع داخلي بين رغبته في التوبة وبين العودة إلى استرسال نفسه مع الصبوات، وتوسل في التعبير عن أفكاره وأحاسيسه بانتخاب الألفاظ الرشيقة الموحية، والأساليب الإنشائية التي تشي بجو التوبة والندم مثل: مالي أراك في مراح؟ حتى متى هذا المراح، ارجع فقد حان الرحيل. هل من إياب؟ وأسهم الإيقاع الموسيقي المنبعث من الوزن والقوافي ذات المدات الصوتية في التعبير عن أحاسيس الشاعر الحزينة تعبيراً صادقاً.
يتوجه الوشاح إلى الإنسان الغافل ويحثه على الإسراع في التوبة، فقد توافرت لديه بواعثها من تقدم في السن، ودنو الأجل، وتربص الموت. ويحضه على ذرف الدموع ندماً على ما اجترح من ذنوب في عهد الصبا والشباب(8: 150، 152):
نفسا إن أردت تنـــفعتــــب إلى مولاك وارجعجمـــعت فـــيك العيـــوبكــثرت مـــنك الذنــــوبقــد دعــا بــك المشيــبوأراك ليـــس تسمـــــعتب إلى مولاك وارجعانت في النعماء ترفـــلوالمنايا ليس تغفــــــــلبك هذا ليس يجمــــــلفي دوام العمــر تطمـعتب إلى مولاك وارجعيا غفُولاً يا جهــــــولاَللنجا اتــــــخذ سبيـــلاَواسكب الدمع الهمولافــــهمول الدمـع ينفــعتب إلى مولاك وارجع
ناجي الشاعر نفسه ويحثها على التوبة والندم، فقد آن زمان هجر الذنوب والمعاصي، والإياب إلى محراب الله، وأداء مناسك الحج،وزيارة الديار المقدسة(8: 130، 131):
يا نفس كم ذا التصاب* فيا له من مصاب*ولّى زمان الشبابآن أوان الإيــــــــــاب*لوذي بتيك القباب*حثي إليها الركابفبا لصفا والحطيم * وبالمقام الكريـــــموفـي محل الوجيه *تحظـــى بما تشتهيه
وفي موشحة أخرى يحث الوشاح نفسه على التوبة وهجر المعاصي، والتأمل في هذه الحياة، فقد ذبل الشباب، وآن زمان الإياب، وليس من سبيل إلى تكفير الذنوب سوى زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام(8: 162):
يا نفس توبي واقصري*واستبصريفمذ بان ريعان الشبابوآن أيانُ الإيـــابفأرحل الى تلك القبابفيا له من منظر* ومخبرِ
ومن المعاني الزهدية التي تغنى بها ابن الصباغ في موشحاته الالتفات إلى الماضي لاستلهام العظة والعبرة، ووضع القارئ أمام حقيقة:"أن كل شيءٍ إلى زوال" فخراب الديار بعد عمرانها دليل على حتم الموت والفناء، وهذا حافز للمرء على الزهد والتقى، لعله يرعوي عن غيه، وينال الثواب والأجر، يقول ابن الصباغ في مطلع إحدى موشحاته(14: 2 /233):
رسوم ظاهر البلى * بكل رسم طاسم *عنوانوربعهم ما أشكلا * منها لكل حازم* تبيانقف بالديار واعتبر * إن كنت من أهـل العبروانظر لها وازدجر* فإن فيهـــــا الأجــــــركم معلم قد دثر * فلم يبـــن منـــــه أثـــر
حاول الشاعر أن يفيد من الوقفة الطللية في بناء موشحته، بيد أن وقفته جاءت سريعة سطحية ؛ لأنها لم تكن مقصودة لذتها، وإنما جاءت لتؤدي وظيفة خلق الجو الشعري المشحون بالعواطف الإنسانية، فمشاهد الخراب والدمار التي حلت بالمدن والقرى الأندلسية ربما أوحت إليه بهذه الوقفة، فكأنه يبكى في هذا الجزء من موشحته أفول نجم الأندلس، فيربط بذلك مأساته الخاصة بمأساة وطنه، حيث اندثار المدن، وخلاؤها من الأهل والأحباب بسبب سقوطها في حجر حملة الصليب الأسبان.
إن القارئ يحس بنبرة حزن كئيب، ونغمة اعتبار واتعاظ، تنبعث من عاطفة دينية صادقة، اتخذ في التعبير عنها أسلوب المباشرة الذي اقتضته طبيعة الفكرة التي يروم إيصالها إلى المتلقين قصد التأثير فيهم، فاستخدام الصيغ الإنشائية المبنية على الأمر:" قف، اعتبر، انظر، ازدجر"إلى جانب ما لتكرار صوت الراء المرتعشة، وتآلفه مع بقية الأصوات من قيمة صوتية عالية، إذ ولد جرساً موسيقياً أسهم في رسم المعنى وتفهمه، وغرس الشعور بالخوف والرهبة من المصير المحتوم الذي ينتظر الإنسان.
وتظل فكرة"الاعتبار" بمن مضى من الأهل والأحباب تسيطر على ذهن الوشاح، فالموت متربص بالجميع، فآثارهم ناطقة بأن كل شيء إلى زوال وفناء، وأن لكل حى نهاية(8: 132):
أين البيض والآراموجيرتنا الكرامنأت بهم الأيامفأحزان قلبي العانيلم ألف لهم معانيبحقـــهم يــا دارأحبائي أين ساروافنادتني الآثـــــارتوالي البلى أقوانيوما قد ترى عنوانيأفناهم مرور الدهرإن كنت مجيد الفكرفانظر مآل الأمر
سلك ابن الصباغ في موشحاته سبيل الزهاد في بيان مجاهداتهم الروحية والبدنية، والاستغراق في التأمل الروحي، فهو يناجي ربه في جوف الليل، حيث تصفو الأرواح، وتتحقق استجابة التضرعات، ملتمساً من الله العفو والمغفرة، مقتبساً من نور محبته قبس رشد وهداية لتتحقق له السعادة الأبدية يقول مجرداً من نفسه شخصاً يخاطبه(14: 2/237):
قم وناج الله في داجي الغلس * تنتشي الأرواحوالتمس للعفو فيه ملتمــــس * وانتبه قد فاحعرف أزهار الرضا ثم اقتبس* نور رشد لاحوانتشق يا صاح أرواح السـحر * يا لها مشموم!عرفه إن هب في إثر الزهـر* ينعش المزكوم.
اتسم هذا البيت من الموشحة بالرقة والعذوبة، فقد أدرك الوشاح ما للفظة من قيمة تعبيرية وجمالية، فاختار من الألفاظ أكثرها رقة وعذوبة، وراح يؤلف بين الأصوات بطريقة تثير في نفوس المتلقين طائفة من الأحاسيس والمعاني، فتنفعل بانفعاله، وتشاركه عواطفه. فقد عمد إلى تلوين الإيقاع مابين صعود النغمة وهبوطها وسرعتها وبطئها، ليعبر عن مجاهداته النفسية والروحية للوصول إلى رحاب الله.
من يصغ إلى الموشحة يجد أن صوت السين هو الصوت الغالب مما أضفي عليه هذه النغمة المهموسة المحسوسة، كما أن هناك توافقاً وانسجاماً بين قوافي البيت من حيث تسكين أواخرها، وبعدها عن التنافر:" الغلس، ملتمس، اقتبس، السحر، الزهر، الأرواح، فاح، مشموم، مزكرم".
أدي استخدامه الصيغ الإنشائية من أمر، ونداء، وتعجب وظيفة تعبيرية، فهي تحرك العبارة، وتتحول بها من رتابة السرد المباشر إلى نوع من الصيغ التي تتنفس فيها الانفعالات النفسية:"قم، ناج، انتبه، انتشق، ياصاح، يالها مشموم!".
ويظل الاعتراف بالذنب وطلب العفو والبكاء والخوف من عذاب الله، والإشفاق من مفازع يوم القيامة، والطمع في النجاة من النار، والفوز برضا الله ـ من أبرز الأفكار والمعاني التي عالجها الزهاد في موشحاتهم، يقول ابن الصباغ مناجياً مولاه(14: 2/237):
يا رحيم الخلق رحماك فقد* جئت مغنىً رحيبليس للعبد على النار جلد * وهو عبد مريبعبد سوء لحماك قد قصد * يشتكي الذنوبمن له يوم ترامى بالشرر* زافرات الجحيمفيهاب الخلق من خير البشر* عافني يا رحيم
إن هذه التسبيحة خير ما يتعزى به المأزوم، وهي زاده لعفو الله الذي يتلاشى أمامه كل ذنب مهما عظم، إنها نجوى صادقة، وأنغام روحانية صافيه تنساب من أعماق نفس مكلوم، وتصدر عن عاطفة تفيض بالصدق والثقة بالله، مغلفة بأحاسيس الخوف والإشفاق والاسترحام"يا رحيم الخلق رحماك، عافني يا رحيم". كما أن تكرار صوت الراء المرتعشة في غير كلمة يؤلف جرساً موسيقياً قوياً يوحى بأحاسيس القلق والخوف والإشفاق والرهبة"ترامى بالشرر، زفرات الجحيم".
تختلط روح الزهد عند ابن عربي بنفحات التصوف، فهو يتضرع إلى الله ويتوسل إليه، لعله يفيض عليه من رحمته الواسعة،فليس أمامه من سبيل سوى رجاء كرمه،والأمل في مغفرته(4:89):
يا لطيفــاً بعبــــــدهوكريمــاً برفـــــدهووفيــاً بعهـــــدهأعط عبـداً زريـــّــاَإنه ما جاء شيئاً فرياً
فالزاهد يجد في الدعاء والمناجاة لذة ومتعة وسمواً؛ الأمر الذي يجعله يكثر من ذلك، ويستغرق فيه حتى يذهل عن نفسه وعما حوله.
ليس ثمة شك في أن الجانب الديني يزداد عند الإنسان في أوقات الشدائد، فيلجأ عندها إلى ترديد تضرعات وابتهالات وأدعية يطلب فيها الرحمة من الله، ويتخذ من أساليب النداء وسيلة للبوح والإفضاء بما يجيش في نفسه من عواطف دينية وأحاسيس مكبوتة، لعل الله يتقبل دعاءه، ويفرج كربه.
والحقيقة أن الدعاء والمناجاة هما محور الصلة بين الزاهد وبين الله، فالزاهد يلهج بالدعاء والحمد لله تعالى على نعمه وآلائه، ويجنح إلى تمجيده وتنزيهه، ويذكر قدرته في الخلق، وكرمه ووفائه بعهده، ويعلن له الخضوع والاستسلام والطاعة، فالله هو المولى، والزاهد هو العبد الذليل، يقول الششتري في هذا المعنى(7: 331):
أنت رب الكون وحدكوالكرم والجود عندكما تشا إفعل بعبدكأنا عبد، وأنت مولىسيدي أهلاً وسهلاً
صيغ هذا الدعاء في لغة بسيطة سهلة، وتراكيب واضحة تكاد تغدو في بساطتها أقرب إلى منثور الكلام، وهذه السمة الأسلوبية تميزت بها موشحات الششتري التي غالبا ما كانت تعرض"في قوالب من الألحان الشعبية المحددة في صيغها وفي إيقاعاتها"(5،223).
فهذه الابتهالات الروحية التي يرددها الزاهد بصدق وإخلاص نموذج من نماذج العاطفة الصادقة، والمشاعر المرهفة، تنبعث من نفوس صفت فعبرت عما يعتمل في وجدانها، وهي ثمرة من ثمرات العبادة والصلة الوثيقة بين العبد وخالقه.
وحين يرى الزاهد مفازع الجحيم،وأهوال يوم الحشر تسيطر على نفسه أحاسيس الخوف والإشفاق من ناحية، وتهيمن على مشاعره معاني الطمع والرجاء في عفو الله ومغفرته من ناحية أخرى، فهو بين مقامين مقام الخوف، ومقام الرجاء، وليس أمامه من بد سوى التعلق بجناب الله الكريم، فهو السبيل إلى النجاة والفوز، يقول ابن الصباغ(14: 2/237):
أنا مابين مقامين مقيم* أورثاني شجافي فؤادي من دموعي كلوم* قلما ترتجىواعتلاقي بجناب الكريم* مشعر بالنجاها أنا في الحالتين في خطر* والفؤاد سليمسلك التوحيد فيه بالنظر* سبل نهج قويم
يعبر الوشاح في هذا البيت من الموشحة عن عاطفة دينية صادقة، وعن صفاء عقيدة، وإيمان عميق بركائز الدين الحكيم، وهو متفائل برحمة الله، لم ييأس، ولم يقنط من عفوه ومغفرته.
ولم يجرِ الشاعر في موشحته على نسق واحد من التعبير، وإنما لون أداءه الموسيقي وفق مقتضيات المعنى والحالة الشعورية، فقد عمد إلى إحداث تنويع إيقاعي في الوزن والقافية، ليعبر عن اضطراب حالته النفسية، ويوحي بحالة القلق التي يعانيها.
وغالبا ما يربط الوشاح ابن الصباغ الجذامي بين تشوقه وحنينه إلى زيارة الأماكن المقدسة حيث قبر الرسول الكريم، وبين عجزه عن تحقيق تلك الرغبة بفعل ما اجترحه من آثام، وبسبب شيخوخته وما يصاحبها من إحساس بالضعف والوهن(14: 2/243):
إن عاقني ذنبي * عن ذلك المغنى * فليس لي حـولكيف بالقرب * للهائم المضنى * وبيننا سبــلتذيب بالكرب * جسماً ذوى حزنا * وشفه الخبــلإليكم وجـــه * وجهاً غدا حائر * والدمع في الخـدينهل كالسـحب * وزفرة الخاطر * تلهب بالوقـد
والموشحة كلها على هذا النمط من رشاقة اللفظ، وخفة الوزن وعذوبة القوافي الملائمة للغناء، فتزيد السامع نشوة على نشوة المعنى، ولعل هذا أثر من آثار الإنشاد والغناء، فالوشاح يعتمد على الأذن أكثر من اعتماده على العين في أدائه الإبداعي. كما حاول الوشاح أن يستغل القيم الصوتية للكلمات والجمل للإيحاء بأحاسيس التشوق ولواعج الحنين إلى الديار المقدسة، فتكرار صوت النون، وتآلفه مع حروف اللين الأخرى، يوحي برنة حزن شفيف" إن عاقني ذنبي عن ذلك المغنى، للهائم المضنى، وبيننا سبل، جسماً ذوى حزنا".
والحقيقة أن العلاقة بين موشحات الزهد وموشحات المديح النبوي علاقة وثيقة ومتداخلة، فالزاهد يتخذ من شوقه الجارف وحنينه الدافق إلى زيارة المعاهد المقدسة، وقبر الرسول الكريم، وسيلة للتكفير عن ذنوبه التي اجترحها في صباه، فكما يلوذ الزاهد بجناب الله يوم يشتد الهول والفزع، فإنه يتشفع بالرسول الكريم كذلك، لعله يغسل ما علق بروحه من أوزار وآثام. يقول الششترى متوسلاً بالنبي الكريم (7:121، 122):
بالهاشمي المختار* الهادي الرسولأرجو قضا الأوتار* ونيل القبــــولوالعفو عن الأوزار* في اليوم المهولففي هــــذه الأمداح* نشر المسك فاح
فحين يذهب الدارسون إلى القول بأن الموشحات ترتبط في نشأتها بالغناء، فإن قولهم يعنى التحدث عن سيرورة فن التوشيح، فبين الغناء والسيرورة صلة وثيقة، لذا كان على الششترى حتى يكفل لموشحته الانتشار والذيوع والدوران على ألسنة المنشدين في حلقات الذكر والسماع أن يؤثر الألفاظ السهلة الرقيقة، والإيقاعات الموسيقية العذبة التي تنبعث من بساطة الوزن ومن تأليف الجمل والعبارات على نسق خاص.
ردد ابن الصباغ الجذامي المعنى ذاته في تشفعه بالرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إحدى موشحاته، فيقول(14: 2/246):
أيا رب بالمختار* والصحب الكـرامقرب قرب نائي الدار* من ذاك المـــقامواغفر قول ذي إصرار* غنى في هيـــاممن يروني دار العـطار* بذرى المنــارهثيابي وما تحوي الـدار* نعطيه البشـــاره
إن ميل الوشاح إلى البساطة في التعبير، والسهولة في التركيب للاقتراب من لغة الناس قد أفضى إلى هبوط مستواها الفني، فهي إلى النثر بصياغته التقريرية أقرب، وأسهمت خرجته التي اقتبسها من إحدى الأغاني الشعبية الشائعة في جعل هذا الشعر أقل من مستوى الكلام العادي.
ومن المعاني الزهدية التي تحدث عنها الوشاح صورة الحياة الدنيا وما يصحبها من خداع وسراب، فالوشاح يجرد من نفسه شخصا يخاطبه بضمير المخاطب قصد زجره ووعظه، ويتمثله في سورة إنسان يلهث وراء سراب الدنيا الخادع تتجاذبه أهواء الدنيا وصروفها المتقلبة، فلا يستقر له حال، وهو يحثه على التوبة، ويحذره من الانسياق وراء رغباته الشخصية، يقول الششتري في إحدى موشحاته(7: 163):
كم براك الزمان* والأينكم سباك الدنو* والبينانتبه كي تقر بك* العينكم تخبطت في دجى عمرفيه زيد سما على عمر
والدنيا في نظر الوشاح غدارة غرور، سريعة الزوال، ليس لفتنتها دوام، فعلى الغافل اللاهي أن يقلع عن ارتكاب المعاصي، ويتوب إلى الله، ويقنع من متاعها باليسر الذي يقيم الأود(8، 150):
زخرف الدنيا غروروغداً عنه المسيــرليس ينفع السرورمن غدا فيها مرفعُتبْ إلى مولاك وارجعليس للدنيا دواملا ولا فيها مقامغرّ أهليها غمامعن قريب يتقشعتب إلى مولاك وارجعقدم الإحسان فيهاولتكن عنها نزيهافي غد تكن وجيهاباليسير منها فاقنعتب إلى مولاك وارجع
وعلى أي حال، فقد قدم الوشاحون مضامينهم الزهدية في قوالب فنية بسيطة ليس فيها عمق فلسفي، أو نظريات معقدة، وإنما استقوا معانيهم من وحي تجاربهم الذاتية التي عاشوها، ومن مصادر إسلامية متنوعة، ومن واقع بيئتهم الأندلسية.
وعلى الرغم من تناول الوشاح معاني الزهد المألوفة والمتداولة، فإنه تمكن من تطويع هذه المعاني والأفكار، وصبها في القوالب الفنية للموشحة، فجاءت لصيقة بالإنشاد والسماع والترنيم، وهو هدف سعى إليه الوشاح جاهداً عن طريق استثمار ما تحتويه الألفاظ والعبارات من قيم صوتية، وتوظيفها في البناء الموسيقي للموشحة.
كما أن الوشاح كان يمتلك رصيداً من العاطفة الدينية النابضة بالصدق التي أضفت على زهدياته مسحة من الجمال، وجعلت المتلقي يشعر بحرارة العاطفة وصدق الانفعال وشدة التقوى مع البعد عن التكلف والافتعال.
أما الوشاح الأندلسي ابن زمرك (ت 795هـ)، فنظم موشحة زهدية من الطراز الرفيع ختمها بمدح الرسول الكريم، وتناول فيها المعاني المألوفة التي ترددت في موشحات الزهد في الأندلس، تحدث فيها عن التحسر على أيام الشباب، بعد أن حل المشيب وأقبل، وتمنى عودة تلك الأيام، وأشار إلى ضعف الإنسان واغتراره بسراب الدنيا الزائل، وهو يعلم أن العيش نوم، والردى يقظة، وأن لا ملجأ للإنسان سوى الله يقول في مطلعها(14: 2/205):
لو ترجع الأيـــــام بعد الذهابلم تقدح الأشواق ذكرى حبيبوكل من نام بليــــل الشبــــابيوقظه الدهر بصبح المشيبيا راكب العجز ألا نهضـــــةقد ضيق الدهر عليك المجاللا تحسب أن الصبا روضــةتنام فيها تحت فيء الظلالفالعيش نوم والردى يقظـــةوالمرء ما بينهما كالخيالوالعمر قد مـــر كمر السحابوالملتقى بالله عما قريبوأنت مخدوع بلمع السرابتحسبه ماءً ولا تستريب
ب ـ الجوانب الفنية في موشح الزهد:
بعد أن تناول أهم المضامين التي شكلت صورة الزهد في الموشحات الأندلسية في عصر الموحدين، فإنه بات من الضروري إلقاء الضوء على بعض السمات الفنية والجمالية في موشحات الزهد، للوقوف على أبرز مظاهر التطور والتجديد في الموشحة، من حيث بناؤها الفني، وما طرأ على أوزانها وقوافيها من تطور، وما اتصفت به لغتها من سمات وملامح، وما اتسمت به الصورة الشعرية من خصائص ومميزات.
أً- البناء الفني للموشح:
الموشح قالب من قوالب الشعر العربي، له بناء فني متميز، يختلف عن بناء القصيدة التقليدية الذي يقوم على وحدة البيت والوزن والقافية، فبناء الموشح يبدأ بمطلع إذا كان تاماً، أو بالدور إذا كان أقرع، ثم تأتي الأبيات ـ البيت في الموشحة يختلف عنه في القصيدة ـ التي تتألف من الدور زائد القفل، ثم تتوالى الأبيات حتى يصل البناء إلى الخرجة أو المركز في ختام الموشح الذي يتكون في الغالب من خمسة أبيات.
ومن المعلوم أن بناء الموشح قد بدأ بسيط التركيب، قليل التعقيد، ثم تطور في بنائه على أيدي أجيال من الوشاحين حتى وصل إلى مرحلة من النضج والاكتمال، وقد أشار ابن بسام إلى هذا التطور بقوله:"إن صناعة التوشيح التي نهج أهل الأندلس طريقها، ووضعوا حقيقتها كانت غير مرقومة البرود، ولا منظومة العقود، فأقام عبادة منآدها، وقوم ميلها وسنادها"(1:1 /1 /469).
تتعدد أنماط الموشح الزهدي وتتنوع، بيد أنها في الغالب تأتي في صورة بسيطة، بعيدة عن التعقيد، تشبه في بنائها القصيدة التقليدية أو ما يسميه ابن سناء الملك"الموشح الشعري" 3:99). مع الميل إلى تنويع القوافي في كل من الأقفال والأدوار، ففي موشحة يمزج فيها ابن الصباغ بين الزهد والمديح النبوي يقول(14: 2/235):
ألف المضنى الشحوبــا * وارتضى الأحزان دينافوق صفح الوجنتيــــن * أهمل الدمع الهتونـــــــايقطع الأيام حزنــــــــا * وبكـــــــاءً وعويـــــــلافارحموا صبا معنــــى * قلبــــه يذكى غليـــــــلاملهب الأحشاء مضنى * بالنوى أضحــى عليــلا
ومن أشكال البناء التقليدي للموشحة بناؤها البسيط القائم على الشطر الواحد، مع استثمار مشطورات البحور(14: 2/205):
مذ قد براه انتــزاحوقص منه الجنــاحله إليك ارتيــــــاحبالغرب أضـــحى * مقيدوالضعف والشيب* يشهد
وقد يرد البيت في موشحة الزهد مؤلفاً من فقرتين مثل بناء البيت في القصيدة التقليدية، بيد أن الوشاح يذيله بفقرة تخرجه عن الشكل التقليدي(14، 2/238):
نأت ني الأوطان * عن حضرة الإحسان * ولا معين
فمن لذي أحزان * لطيبة قد كـــــــــان * له حنيــن
ومن سمات البناء الفني للموشح الزهدي قيامه في الغالب على الترابط والتلاحم والانسجام بين أجزاء الموشحة وعناصرها، فكل بيت يشكل وحدة متكاملة معنى ومبني، ومن أجل تحقيق هذه السمة فإن الوشاح يعمد إلى ما يسمى في مصطلح العروض"التضمين"وهو"أن تعلق قافية البيت على ما بعدها فلا تكاد تستقل بنفسها" (12:2 / 34)، وقد عده بعض العرضيين عيباً من عيوب القافية (2، 1 / 172، 173)، في حين أن استخدامه في الموشحة يسهم في وحدة بنائها وتماسكها، يقول ابن الصباغ متشوقاً إلى المعاهد الحجازية (المقري، 1939، 2/235):
هل لي بتلك الطلولمن زورةٍ ومقـــيليا قبر خير رســـولمتى يراك فيسعـــدصب ببعدك مكمـــد
وخلاصة القول في بناء الموشح الزهدي عند ابن الصباغ بخاصة أنه كان بسيطاً، يماثل بناء بعض القصائد التقليدية، أو ما يسمى"الموشح الشعري"، وكان في بنائه بعيداً عن التعقيد وكثرة التجزئات في الأقفال والأدوار كما عرف لدى وشاحى الأغراض الشعرية الأخرى.
ب- موسيقى الموشح
ظلت محاولات الوشاحين لتجديد أوزان موشحاتهم محصورة في إطار العروض العربي، فهم لم يبتكروا أوزاناً جديدة، أو يستبدلوا نظاماً موسيقياً بآخر،وكل ما هنالك أنهم استغلوا الإمكانات النغمية المتاحة في الأوزان القديمة المهملة، والزحافات والعلل، وآثروا الإيقاعات الخفيفة التي تناسب فن الغناء،لإحداث التنويع والتلوين في الأوزان، ولإثراء الجانب الموسيقي في العروض العربي، ليواكب التطور الهائل في الموسيقى والغناء في بلادهم.
وموشحات الزهد يغلب عليها طابع البناء الموسيقي التقليدي، فهناك الموشحات التي تبنى على وزن واحد، وتأتي فيها الأبيات على صورة البيت الشعرى المقسم إلى شطرين متساويين، ومثال هذا النمط من الموشح قول ابن الصباغ(14، 2 / 230):
نحو هاتيك الربــــوعفاجهدوا كد الحمولوإلى قبر الشفيــــــعاعملوا سير الرحيلإن تكن خلي مطيعـىيممن خير رســـــولكن لي يا رب معينـــاوصل الصب الحزيناقبل أن يحين حيْنـــىوأرى الموت يقينا
فهذا النمط من الموشح الذي يتقيد ببحور الشعر العربي اصطلح النقاد على تسميته بـ (الموشح الشعري)،(3: 99)، وقد اختار الشاعر لموشحته مجزوء بحر الرمل، وهو بحر كثير المقاطع يصلح للترنم بالأشواق والأشجان. كما عمد إلى تنويع قوافي الأقفال والأدوار ليخرج بها عن نظام المخمسات.
وقد حرص الوشاح في محاولته التجديد في أوزان موشحة الزهد على توفير لون من التنويع في الإيقاع عن طريق عدم التزامه بالصورة الموسيقية التقليدية للبيت القائمة على قسمين متساويين، واستعاض عنها بصورة تغيرت فيها النسب الموسيقية. فالفقرتان في الأقفال والأدوار لا تتفقان في عدد التفعيلات. فالفقرة الأولى تقوم على ثلاث تفعيلات، والفقرة الثانية تقوم على تفعيلين يقول ابن الصباغ(14: 2 / 237):
مرغ الخد ونـادِ بالنحـــيبواهمل الأجفانقف بمغناهم وقوف مستريبحالف الأشجان
إن اختلاف توزيع الوحدات الموسيقية في أجزاء السمط الواحد إنما يقصد منه التعبير عن تنوع انفعالات الشاعر وأحاسيسه بما يتناسب والمعنى الذي يريد إيصاله إلى المتلقي بغية إشراكه في الأثر الأدبي.
استغل الوشاح ـ في إطار بحثه عن التجديد في الأوزان ـ ما أتاحته الموشحة من حرية وتنويع موسيقى،بأن سمح لنفسه أن يحذف من القفل فقرة، إذا كان من سمطين، ويأتي به أعرج تنويعاً للإيقاع" (8: 75)، يقول ابن الصباغ في مطلع إحدى موشحاته(14: 2 / 421):
لهفي على عمر مضىوالشيب في الفود بداوما قضيت الغرضـــا
عمد الوشاح في موشحته الزهدية إلى اصطناع الأوزان القصيرة أو الخفيفة أو المجزوءة مثل: الرمل والمقتضب والسريع والرجز، فكانت الموشحة الشعرية بأوزانها الخفيفة ولغتها السهلة هي الغالبة على أشعاره، وذلك للتعبير عن مشاعر الشاعر وعواطفه، ولتسهيل مهمة المنشد في الإعادة والتكرار وفي الترنيم والتطريب، لما تمتاز به تلك الأوزان من رقة النغم، وجمال الإيقاع.
وعلى الجملة، فإن وشاح الزهد على الرغم من اتجاهه إلى تجديد أوزان موشحاته وتطويرها، فإنه لم يذهب بعيداً في التجديد بحيث يصل إلى درجة الإسراف والمبالغة شأن وشاحى الأغراض الشعرية الأخرى. بل حاول أن يحافظ على توفير وحدة فنية موسيقية لموشحته. فكان البيت من موشحة الزهد بمثابة مقطوعة موسيقية متنوعة الأنغام متكاملة اللحن والإيقاع.
وفي إطار محاولة أصحاب الموشحة التجديد في النظام الموسيقي للقصيدة العربية المتمثل في القافية الموحدة فقد مالوا إلى التلوين في أدائهم الموسيقي باصطناع نظام آخر للتقفية يقوم على تنويع القافية وتعددها ؛ لإثراء الجانب الموسيقي بها وإغنائه،ولتكون أكثر ملائمة للغناء، وأكثر طواعية للتلحين والترنيم والإنشاء.
أفتن وشاح الزهد في تنويع قوافيه وتلوينها، وتأنق في انتقاء القوافي التي توفر النغم الموسيقي، وتنسجم مع البحر الشعري الذي اختاره لموشحته، كما عمد إلى المراوحة بين القوافي المطلقة والمقيدة في الأقفال والأدوار، وآثر القوافي السهلة اللينة مثل الراء والميم والنون والباء والدال. مبتعداً قدر الإمكان عن القوافي الصعبة مما أضفي على الموشحة انسياباً موسيقياً، وعذوبة في الإيقاع،وسلاسة في النغم ترتاح له الأذن.
لم يكن التلوين في الأداء الموسيقي مقصوراً على الإطار الخارجي للموشحة المتمثل في الوزن والقافية وإنما تعداه إلى التنويع في الإيقاع الداخلي، إذ إن ثمة موسيقى داخلية تنبعث من جرس الألفاظ،ومن تأليف الجمل والعبارات على نسق خاص، وتتجسد في"التوافق الرائع بين التكوينات الصوتية للجمل، وإيقاع الكلمات، وحروف الوقفات وامتدادات الجمل وعلاقاتها، وتكرار أو تغاير الكلمات والأصوات فيها،وبين الحالة الشعورية التي يعبر الكاتب عنها"(عبد الله:13)، يقول ابن الصباغ: (14: 2 / 232):
ولى الشباب وانقضـــــىفدمع عيني في انهمــالوفي الحشا، جمر الغضالفـــقد هاتيـــك الليــــــاليا عهد أيام الرضــــــــاهل رجعة ترني الوصال
تفنن الشاعر في موسيقاه الداخلية تفنناً أضفي على إيقاعه نغمات محببة، فقد استغل القيم الصوتية لبعض المفردات لتوفير إيقاع خاص، إذ ردد حرف الألف (مقصورة وقائمة) في مواضيع مختلفة مثل(ولى، انقضى، الحشا، الغضا، الرضا، الشباب، انهمال، الليال، الوصال) وجاءت هذه الألف في نهاية بعض المفردات، مما وفر قسطاً واضحاً من الموسيقى السلسة، كما يلحظ القارئ تجاوب أصداء حرف النون على نحوٍ واضحٍ، الأمرالذي أكسبه ترنيماً ترتاح له الأذن، يضاف إلى ذلك الترادف الحاصل بين لفظ"ولى وانقضى" والسجع الداخلي بين (في الحشا، جمر الغضا)، كما أن انتقاء الشاعر لفظً الحشا"يوحي في موضعه بمشاعر الألم والحزن التي عمت كل أقطار نفسه.
وعلى هذا النحو مضي وشاحو الزهد في تجديد أوزان موشحاتهم الزهدية وتطويرها، وفي تنويع قوافيهم وتلوينها، وتوفير وسائل إثراء النغم الداخلي للموشحة،وقد حرصوا على أن يظل تجديدهم هذا في إطار البناء الموسيقي للعروض العربي دون اللجوء إلى الخروج عنه أو إبداله بنظام موسيقي آخر.
ج ـ اللغة والأسلوب:
من المعروف أن الموشحة ارتبطت في أطوارها الأولى ارتباطا وثيقا بالغناء والإنشاد،والغناء ـ بطبيعة الحال ـ أحوج ما يكون إلى لغة رقيقة سهلة توافق الأنغام والتلحين، والزهد بصفته فناً يرتكز إلى الإنشاد والسماع ويخاطب عامة الناس يتطلب لغة بسيطة واضحة، وتراكيب ميسرة قريبة من أفهام الناس.
أدرك وشاح الزهديات هذه الحقيقة فجنح إلى انتقاء الألفاظ السهلة الرقيقة المألوفة التي لا يجهد نفسه اختيار مادتها، مع تجنب غرابة الكلمة، وغلظة الحرف، وثقل التركيب، فجاء أسلوبه رشيقاً فيه متعة للأذان، وراحة للنفس.
فابن الصباغ الجذامي حين يناجي ربه ويتضرع إليه، فإنه يميل إلى إيثار اللغة البسيطة السهلة التي تقترب في نسجها اللغوي من لغة الحديث اليومي، مع تعويله على انتخاب الألفاظ والتراكيب ذات الإيقاع الموسيقي الواضح يقول(14: 2 / 246):
لم تزل بي في أموريسيدي مولـى لطيفاأنت مولاى نصيريفاجبر العبد الضعيفامن عذيري أو مجيريإن أطلت بى الوقوفـايا ليومـــــــي العصيبوسجل الصحف يتلىوقلوب الخلق ترجفولنار الخوف تصلى
فالألفاظ والتراكيب في هذه الموشحة تمتاز بسهولة ظاهرة،حيث استخدم الشاعر فيها كلمات بسيطة جميلة الجرس قريبة المعنى، وألف من هذه الكلمات جملاً سلسة، وتراكيب لينة تخلو من التعقيد والوعورة. وحاول أن يلائم ملائمة دقيقة بين أسلوب الموشحة والمشاعر التي يريد التعبير عنها،وإثارتها في نفس القارئ، فأسلوب التضرع والمناجاة تناسبه الأساليب الإنشائية من نداء، واستفهام وتعجب وتوسل من مثل:"يا ليومي العصيب"" أنت مولاي نصيري"،" اجبر العبد الضعيفا".
من يتأمل بناء الجملة في هذه الموشحة فسوف يتبين له أن الشاعر يأخذ غالباً بالأصل في ترتيب الجمل، وأن جملة بسيطة غير مركبة،وأنها تكاد تخلو من المتممات النحوية، وهذا النمط من الجمل أكثر ملاءمة لفن الإنشاد والذكر لخفته على الألسنة، وحسن وقعه على الأسمـاع.
ومع هذه البساطة والسهولة ـ التي كانت مطلباً من مطالب الوشاحين فقد عنى الوشاح أشد العناية بانتقاء الألفاظ الرشيقة والأساليب البسيطة ذات القدرة على الإيحاء والتصوير، يقول ابن الصباغ(14: 2 / 246):
يا بدر أيام الشــــــــــــبابهل للأفوال من طلوع؟أضحى فؤادي ذا المــذابحليف أشجان نزوعونار حزني في التهــــابتذكى بأحناء الضلوعفإن هفا البرق خافــــــقذكرت عهدي بالخياموإن تأوه عاشــــــــــــقساجلت في دمعي الغمام
فالألفاظ والتراكيب اللغوية:"البدر، أيام الشباب، الأفول، الفؤاد المذاب، أشجان نزوع، نار الحزن، التهاب، هفا، تذكى، نار الحزن، الخيام، الغمام..." يسيطر عليها الطابع العاطفي الحزين الذي يشي بنفسية حزينة ملتاعة، وقد وظفها الشاعر توظيفاً مناسباً لاستثارة ألوان من المشاعر في نفوس المتلقين، وللتعبير عن إحساسه الأسيان بضياع أيام الشباب وبالشوق والحنين إلى ذكريات الماضي، وجاء الأسلوب الاستفهامي" هل للأفول من طلـــوع" ـ والمراد منه النفي ـ مترعاً بمعنى الحسرة واليأس لاستحالة عودة أيام الشباب،كما تتضح في هذا النص قدرة الشاعر على الانتقاء الدقيق للكلمات الموحية التي تشع أكثر من معنى مثل كلمة" الأفول" التي تشي في موضعها بالذبول والضياع واليأس والحزن.
دأب وشاح الزهد على استرفاد معجمه الشعري من طبيعة الأندلس: نباتها وألوانهـــا، إذ سيطرت عليه ألفاظ وتراكيب من مثل: غصن الشباب، أزهار، الحمام، الأصيل، الصبح، الصباح، الزهر، ريح الصبا، الغصن الذابل، الدجى، الغلس".
وترددت أيضاً الألفاظ والتراكيب المستوحاة من الجو الديني لحياة الوهاد من مثل:" الشيب الضعف، الذنوب، الأوزار، الدموع، المناجاة، العفو، الرحمة، المولى، سجل الصحف، اليوم العصيب، الموت، نور الرشد".
ومن السمات الأسلوبية لموشحة الزهد أن لغته اكتست رداءً دينياً وطابعاً تراثياً أصيلاً، فحين يعبر الوشاح عن شوقه وحنينه إلى الأماكن المقدسة حيث بيت الله الحرام،وقبر الرســـــول ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يجنح إلى انتقاء ألفاظه وتراكيبه من الأجواء الإسلامية، إذ ترددت في موشحاتهم الزهدية كثير من أسماء الديار الحجازية التي تعبق بأريج النبوة وعطر الإيمان من مثل: طيبة، يثرب، العقيق، الصفا، اللوى، ذى سلم، الخيف، الخطيم.
إن مجرد استدعاء أسماء تلك الأماكن يبعث في نفس المتلقي إيحاءات مثيرة للشجون ويضفي عليه ظلالاً محببة إلى النفس بما تحمل من دلالات ثرة، وما تشيعه من أصداء تحمل المتلقي على استحضار الماضي والتأثر به.
كما عمد الوشاح إلى تضمين نسيجه اللغوي كثيراً من الألفاظ والتراكيب ذاب الطابع البدوي، للإفادة مما تحمله من دلالات غنية مثل: الديار، الطلول، المغاني، الربوع، حداء العيس، المطايا النجب، سائق الظعن، جمر الغضا، دوح البان، حداء العيس، حداة القطار، الفلا، وغيرها. إن تردد مثل هذه المفردات يدل على تعلق الشاعر الأندلسي بحياة الجزيرة العربية منبع التراث الشعري الذي يمتح منه الأندلسيون.
د - الصورة الشعرية:
من يتأمل موشحة الزهد في مجال الصورة الشعرية يتبين له أنها غنية بالصور التي يتوسل بها الشاعر للتعبير عن تجربته الشعورية ونقل أفكاره ومعانيه بوضوح وبيان.
الواقع أن الطبيعة كانت تمثل لدى شاعر الزهد منبعاً ثراً لاستخراج الصور ومصدراً هاماً من مصادر الاستلهام والإيحاء،ويبدو ذلك بصورة لافته في موشحات ابن الصباغ الجذامي وغيره الذي كان يستقى مواد صوره من عناصر الطبيعة، ويجتلب لتلك الصور الألفاظ الملائمة لها. فحين يتذكر الشاعر شبابه الذابل ويتحسر على ماضيه،ويذكر حاضره لا يجد غير الصورة وسيلة تعبيرية لنقل إحساسه وتجربته الشعورية، يقول ابن الصباغ (14: 2/232):
أزهار شيب المفارق* تفتحت عنــهـــا الكمامفابك الزمان المفارق* وحاك فــي النــوح الحمامعوضت بالصبح الأصيل* وقد عرا البـــدر انكسافريح الصبا منها يميل *كأن سقى صـرف السلاف
ففي هذا الجزء من الموشحة لوحة جميلة، مكتملة،متماسكة الصياغة منسجمة العناصر تضم في إطاره صورا ًجزئية، اتكأ عليها الشاعر في تصوير إحساسه بضياع أيام الشباب، وحلول عهد المشيب وما يصحبه من خوف وحزن، وقد استغل الوشاح في رسم صوره الجزئية أدوات رسم الصورة من تشبيه واستعارة وكناية، التي تآلفت وتآزرت، لاستكمال جوانب اللوحة الفنية الكبيرة.
فالصور الشعرية: أزهار الشيب، بكاء الزمن المفارق، محاكاة الحمام في نوحه، عوضت بالصبح الأصيل، عر البدر انكساف، الغصن يسقى صرف السلاف ـ صور جزئية لعب الخيال دوراً بارزاً في إنتاجها، فجاءت متتابعة متلاحقة، وقد ارتبطت بالحالة النفسية للشاعر.
أسهم ترابط الصور الجزئية وانصهارها مع بقية عناصر النسيج الشعرى من تجربة صادقة، ولغة، وموسيقى، في بناء اللوحة الفنية وتماسكها. فالشبيه البليغ"أزهار شيب المفارق"يوحى بلون الشيب الأبيض الذي ينبئ بضياع الشباب ودنو الأجل، أما الاستعارة المكنية"ابك الزمان المفارق"ففيها تجسيد للزمن يوحى بالأسى والحزن لضياع تلك الأيام وفراقها، أما الصورة التشبيهية في قوله"وحاك في النوح الحمام" فإنها توحي بامتزاج أحاسيس الوشاح بالطبيعة، وكأن نوحه نوح الحمام"،، وكلاهما حزين متحسر، فتتحقق بذلك المشاركة الوجدانية، أما الصورة الكنائية"عوضت بالصبح الأصيل" ففيها يتسامى الخيال ويشف، فكأن الصبح غدا رمزاً للشباب، والأصيل رمزاً للشيب والهرم، أما قوله:"عرا البدر انكساف"فهي صورة غنية بالإيحاء، إذ أسهمت في تعميق الإحساس بالذبول والشحوب والحزن الواري، واستخدام ابن الصباغ حواسه في بناء صوره، فجاءت صوره معتمدة على البصر والحركة واللون والصوت، مما جعلها تنبض بالحياة والحيوية.
والصورة الشعرية في الموشحة مبنية أساساً على التقابل والتضاد بين صورتين: صورة الشباب وصورة الشيب، وهذه المفارقة التصويرية زادت من حدة الشعور بالحسرة والأسف على ضياع الشباب.
استلهم ابن الصباغ طائفة أخرى من صوره من الأجواء الدينية التي وفرتها له الحياة الروحية الزهدية، فكثير من صوره ذات أصل إسلامي، فالثقافة الإسلامية كانت متأصلة في وجدان الأندلسيين بعامة يقول ابن الصباغ(14: 2/241):
رمت فؤادي النوىوغصن عمري قد ذوىوالشوق قلبى قد كوىواها على فقدي القوىقضى النوى ما قد قضىهل يستطيــــــــع الجلداقلب على جمر الغضا
سيطر الطابع العاطفي في هذا البيت من الموشحة على ألفاظ الوشاح وصوره، فقد جسم المعنويات وحولها إلى صور حية نابضة بالحياة، فالاستعارات"رم النوى الفؤاد، يكوى الشوق القلب، قضى النوى"جسمت المعنى، ونأت به عن التقريرية والمباشرة، كما أكسبت الصورة التشبيهية"غصن عمري ذوى"التعبير مسحة جمالية إذ شبهت المعنوي بالمحسوس، وأسهمت الصورة الكنائية" قلبي على جمر الغضا" في الإيحاء بمشاعر الأسى الألم والضياع، وقد تعاونت الألفاظ الرقيقة، والتراكيب البسيطة،والإيقاع الموسيقي المنبعث من تكرار الكلمات مثل:" فقدي القوى، قضى النوى ما قضى" في تعميق أبعاد الصورة، وجعلها قادرة على التأثير في وجدان المتلقي.
اعتمد ابن الصباغ في تشكيل صوره على عناصر مستمدة من القرآن الكريم، مثال ذلك قوله: (14: 2/230):
هذي عرس المتــــــابفي قباب الوصل تجلىحسنوا فيــــــها الظنوناوادخلوهــا آمنـــــينــــا
فهو يتناص مع قوله تعالى:" ادخلوها بسلام آمنين".
وقول ابن عربي مناجياً ربه(4:89):أعط عبـــداً زرياإنه ما جاء شيئاً فريـــــــا
فإنه يتناص في الفقرة الأخيرة مع قوله تعالى:"قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا".
من يمعن النظر في الصور الشعرية التي استخدمها وشاح الزهد في التعبير عن تجربته الشعورية يجدها صوراً تقليدية، ليس فيها جدة ولا طرافة، ترددت لدى شعراء الزهد، بيد أن الوشاح أضاف إليها من تجاربه الذاتية ما جعلها صوراً حية تستمد جمالها من بساطتها، وسهولة صياغتها، ورشاقة ألفاظها.
اتسمت صور وشاحي الزهد كذلك بالبساطة والوضوح، فهي سهلة التناول قريبة المأخذ، لا تجنح إلى العمق، ولعل السر في ذلك أن الموشحة تقال أصلاً للغناء والإنشاد، والغناء لا يناسبه إلا هذا النوع من الصور القريبة الدانية.
خلاصة القول في موشحات الزهد أنها اتسمت بحظ وافر من الصدق العاطفي، وحرارة الوجدان، وبرزت فيها قدرة الوشاح على تطويع بناء الموشحة لتستوعب مضامينه الفكرية، وتجاربه الذاتية، ولم ينشغل الوشاح بعملية البناء والزينة اللفظية على حساب المعاني وتحليقات الخيال، بل إنه ابتعد بالموشح عن التكلف والصنعة والتعقيد، وآثر السهولة والبساطة والوضوح لتكون موشحته أطوع للإنشاد والسماع، وأقدر على التأثير في نفوس المتلقين.
[1]