الثلاثاء ٢١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

بنية الفقد في ديوان سفن الرحيل

تعد الشاعرة سلافة حجاوي من الأصوات الشعرية الأصيلة في فلسطين، إّذ بدأت رحلتها مع الشعر منذ سنوات بعيدة، قدمت نفسها للحياة الأدبية بمجموعتها الشعرية الأولى"أغنيات فلسطينية" التي صدرت عام 1977م، كشفت فيها عن طاقة شعرية متميزة، أما مجموعتها الشعرية الثانية، فصدرت سنة 1997 م وكانت تحمل عنوان" سفن الرحيل"، وهي تعد امتداداً طبيعياً للمجموعة الأولى، مع تسجيل تطور ملحوظ في الرؤى والأدوات الفنية(4/1 / 150).

تكشف القراءة المتمعنة لمجموعتي الشاعرة أن تجربتها الشعرية تفتحت على القضية الفلسطينية، وما اتصل بها من نضال وما اكتنفها من ثورات وجهاد، وقد حملت هموم شعبها ومأساته في فقد وطنه وضياعه على يد الصهاينة المغتصبين، فكانت مسكونة على نحو لا فكاك منه بقضيتها، بيد أن انطلاق المقاومة الفلسطينية كان الباعث الحقيقي الذي فجر في أعماقها الطاقة الشعرية، فاتسمت قصائدها بأبعاد وتوجهات وطنية، وكان لقصائدها الوطنية لون وطعم خاص، إذ إنها أخذت تمتاح تجاربها الإبداعية من مخزون خبرتها الشعرية التي ثقفتها منذ طفولتها وعبر قراءاتها ومطالعاتها(6).

و" سفن الرحيل" هو العنوان الذي اختارته الشاعرة لمجموعتها الشعرية الثانية، وهذا العنوان مركب إضافي يحيل ركنه الأول إلى مجال دلالي هو(البحر)، وتدل صيغة الجمع على المكان، وهي تفيد التنوع والشمول والتعدد، ويكتسب دال (سفن) دلالات خاصة: كالترحال والسفر والنفي والاغتراب، ويصطبغ دال (الرحيل) بصبغةً أكثر خصوصية؛ لارتباطه على نحو ما بالواقع الفلسطيني حيث الهجرة والترحال واللجوء والمنافي، وقد أضيفت (سفن)إلى (الرحيل) ليشكل المركب الإضافي صـورة مجازيـة، وإن كانت الإضافة تمزح بيـن الدلاليتيـن(سفن ــ الرحيل)، ليجمعا بين المكان والزمان معاً،

إن الوقوف أمام عنوان الديوان بتشكيله المجازى، ودلالاته الموحية مروراً بقصائده المتعددة، والعنوان بوصفه المفتاح الذهبي للدخول إلى عالم الديوان(9 / 69)، يهيئ المتلقيَ لاستقبال عالم الديوان وشفرة التشكل فيه، ويجذبه بدلالاته الموحية إلى عالمه الرحب، ويجعله يدلف إلى تلك الشفرة المتمثلة في ثنائية (الشاعرة/ الفقد)، وتظل العلاقة الجدلية بين الدال والمدلول في حالة تشابك دائب.

وإذا كانت تجربة الشاعرة سلافة حجاوي تحمل سمات خاصة، وملامح فردية مميزة، فإنها تنطلق من الخاص إلى العام، حيث تبدو أشعارها تجسيداً للوجدان الجماعي، من خلال رؤية تشمل الوجود كله.

ولمّا كان الديوان قد صدر والشاعرة قد بلغت الرابعة والستين من عمرها، فإنه يعكس تجربتها الثرية بكل معطياتها وأبعادها، ويعبر عن موقفها من الكون والوجود، وإدراكها جملة من الحقائق التي ظلت تبحث عنها في أثناء رحلتها الطويلة.

من يتأمل عناوين قصائد الديوان(قلق- وداع- صراخ- غريب-غربة- الموت والميلاد-القتيل والزنبقة- زهرة الصبار- هابيل- دوارـ الفاجعة...)، يجد أن بنية الفقد وما يتولد عنها من خوف وحزن ورعب وارتحال كان لها حضور واضح في الديوان، إ ذ شكل الفقد بصوره ورموزه مهيمناً بؤرياً في نسيج مجموعتها الشعرية.

اتسع ديوان "سفن الرحيل" لعدد من التيمات، وكان له أثر بالغ في نفسية الشاعرة، جمعت ثمراتها المرة من واقعها المعيش، لتقدمها لقرائها على بساط نسجته من نبضها وحسها المرهف ومشاعرها الصادقة،وشاعريتها الجميلة، وكانت مغموسة بكل حواسها وأحاسيسها في أجواء الفقد والرحيل والغربة، مذبوحة بعشقها للوطن المغتصب، ملتصقة بقضايا شعبها وهمومه، وقد تجلت بنية الفقد في مجموعتها الشعرية في تيمات ثلاث هي: فقد الوطن، وفقد الأحبة، وفقد الإنسان داخل الإنسان.

أولاً ـ فقد الوطن.

ليس ثمة شك في أن فقد المرء لوطنه مسقط رأسه، ومرتع شبابه هو من أقسى أنواع الفقد، وأشدها تأثيراً في أعماق النفس الإنسانية، ويؤكد ديوان (سفن الرحيل) وعي الشاعرة بحقيقة فقد الوطن، منذ طفولتها، فقد كان جو القتل والرصاص والخوف والفزع هو ما فتحت عينيها عليه وما وعته ذاكرتها، وهو الطابع المهيمن على حياة أبناء شعبها مولدا الخوف والرعب في النفوس، تقول في قصيدتها" رصاص"(3 /66):
ستون عاما قد مضت / ولم أزل/ أحاور الرصاص/ فقد ولدت بينما كان الرصاص/ يطير في سماء بلدتي/ من فوق رأس أمي/ كأنه فراش.

ولم تقف مأساة الشاعرة عند هذا الحد، وإنما ظلت مستمرة في شبابها، وعند رحيلها عن مدينتها نابلس إلى مدينة بغداد، تقول في القصيدة ذاتها(3 / 66 -67):
وإذ شببت / شب معي الرصاص/ وعندما ارتحلت/ ظل الرصاص/ يتبعني/ يسبقني/ يطير كالفراش/ في طرقي/ وكانت النجوم/ تطلق من فوهاتها زخَّ رصاص/ وكلما طلع القمر/ فجر قنبلة/ ثم اندثر/ مخلفاً وراءه/ سرب فراش.

عبرت الشاعرة في هذا المقطع عن تجربة شعرية مفعمة بالحزن والألم، وقد انعكست تجربتها الشعورية في لغتها وصورها الفنية، وألقت تلك التجربة بظلالها على عناصر الطبيعة، فالنجوم والقمر التي خلقت؛ لتكون مصدر سعادة وأمان وضياء للناس تحولت رؤية الشاعرة وبفعل مأساتها وقسوة معاناتها إلى مصادر للقتل والهدم والأسى والأحزان.

وإذا كانت تجربة الشاعرة سلافة حجاوي تحمل سمات خاصة، وملامح فردية، فإنها في هذا المقطع تنطلق من الخاص إلى العام، حيث تبدو أشعارها تجسيداً للوجدان الجماعي، من خلال رؤية تشمل الوجود كله.

إن ضياع الوطن وما تبع ذلك من تشريد وغربة وترحال، وشتات في أصقاع الأرض، قد أورث الشاعرة الحزن والأسى، وقضى على الحب والدفء الحميمي، فعبرت في أسلوب قصصي ينهض على السرد في نقل تجربتها الشعرية، فقالت في قصيدتها "في بلاد أبى التي كانت بلادي"(3 / 18):
ذات يوم/ حط عصفور على كتفي وطار/ وعلى بعد تهدل عنق مئذنة/ وأرجف بعض بيت / ثم عاد إلى استكانته ونام /ليس هذا وقت حب / إنها الذكرى تهدهد بعض أنغام دفينة ثم تنأي / أي حزن ذلك الحزن الذي يمتد بين الحقيقة والحقيقة.

وعلى الرغم من قسوة الفقد وألمه، فإن الشاعرة لا تزال تجتر ذكريات حية في قريتها، مفعمة بالأمل، مضمخة البراءة والطهر، تستعيد فيها صورة (جدتها) التي تعد رمزاً للتجارب المريرة التي عاشها الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال والصمود والحكمة والخبرة وأصالة التراث التي يستقي منها الأجيال الحاضرة الزاد الذي يعينهم على مواصلة درب الحياة في عزة وصمود، إنها تحمل ذكريات الماضي وشاهد على الحاضر ونافذة لاستشراف المستقبل، إنها الجذور التي لم تمحها من ذاكرتها المآسي والمصائبُ التي ارتكبها العدو الغاصب بحق قريتها، تقول في قصيدتها " الجذور"(3 / 5).
أبحث في جذوري الخضراء/ عن صورة لجدتي/ عن قامة لها تطاول السماء/ وقد تسربلت بثوبها المنقوش بالزمان والمكان/ كأنها ألف قرية/ وألف ألف عام/ كأنها الشآم/ في غابر الدهر وسالف الأيام.

إن ما جرى لقرية جدتها يعكس صورة صادقة وحيّة لما جرى لقرى فلسطينية أخرى عانت الدمار والتعذيب والقهر والاحتلال، وقد انفعلت الشاعرة بما حلّ بقريتها وتأثرت به، فغدت قريتها رمزاً لكل القرى الفلسطينية التي شهدت نفس الاعتداء والعدوان عليها.

إن ضياع الوطن وفقدان الأهل وتدمير المعالم الحضارية في فلسطين على يد الصهاينة الغاصبين والتي تعبر عن هوية الكيان الفلسطيني وملامح شخصيته، أفقدت الشاعرة الشعور بالسلام والأمن، تقول(3 / 6):
أبحث بين الردم والركام/ عن بيتها العتيق/ عن بيتها المدروز بالورد وبالشقيق/ أبحث عن باحةٍ/ تعج بالبنات والأبناء/ إذ صوتُ حب الكستناء/ ينشق في النار فيصخب المكان/ بالهرج والغناء/ الله ما أجملَ ذلك الزمان/ أيام كان القلب عامراً بالأمن والسلام!

ولما كانت الشاعرة تعاني حالة الاغتراب النفسي- شانها في ذلك شان الشعراء الفلسطينيين في الشتات- لكونهم بعيدين عن أرض الوطن حيث الشتات والضياع، فشعروا بالغربة والاقتلاع(11)، فقد دفعها الحنين إلى الوطن والشوق إلى لقائه، والعودة إلى أحضانه مع قوافل العائدين مع السلطة الفلسطينية سنة 1994، وبالرغم من عودة الشاعرة من منافي الغربة والشتات إلى أرض الوطن إلى مدينة غزة، فإن ثمة إحساساً بالأسى والحزن والخيبة ظل يسيطر على روحها؛ فراحت تعاني حالة من الاغتراب النفسي؛ لأنها لا تزال تشعر بالبعد عن أرض الوطن عن مسقط رأسها مدينة "نابلس"، إلى جانب أن عودتها لم تحقق لها ما كانت تحلم به، وتطمح إليه من تذوق طعم الانتصار، وإنها وقومها فشلوا في تحقيق النصر، لذلك تخشى أن تموت قبل أن ترى النصر، تقول في مقابلة معها: "قبل أسابيع توفيت الشاعرة فدوى طوقان،... أنا حزينة؛ لأن فدوى ماتت قبل أن تذوق طعم الانتصار.. لقد ماتت حزينة، وأخشى أن أموت حزينة"(5)، تقول في قصيدتها "زهرة الصبار":(3 / 50):
في غزة / يشتاق الإنسان أن يعشق نجمة/ يشتاق الإنسان لأن يعقد صحبة/ مع غيمة/ أن يصحب سرب عصافير في جولة/ أن يزرع في أفق وردة / تثخن أرجاء الكون بالرغبة /لكن الإنسان في غزة/ زهرة صبار/ يشتد عليها الملح/ تشتد عليها النار/ لكن الإنسان في غزة/ زهرة صبار ممتدة/ ما بين الرمل ووجه الله.

ثانياً ـ فقد الأحبة والأهل.

لم تفارق صورة الموت مخيلة الشاعرة، بل ظلت تلازمها وتحاصرها بتفصيلاتها المؤلمة طيلة الديوان، وقد تبدى ذلك على المستوى الذاتي في فقدها زوجها الشاعر كاظم جواد سنة 1984 الذي حفر موته في نفسها أخاديد من الحزن الواري الشفيف، فالشاعرة مفجوعة برحيل الأصحاب والأصدقاء الذين قضت معهم أحلى سنوات العمر. وقد جسدت هذا الحزن في قصيدة حملت عنوان الديوان، إذ تقول فيها(3 / 36):
"سفن الرحيل أشرعت / والموت أسدل الستار/ والطريق / عرافة ما بين ميلاد وموت/ تستفيق/ فقصة الحب مضت في دربها/ من الشباب للمشيب/ ثم انتهت / إلى رحاب المستحيل/ يأيها الدرب الذي شهد الولادة والرحيل/ رفقاً /فإن القلب منبهر الوجيب.

إن عبارة "سفن الرحيل" كانت لازمة تكررت غير مرة، فكانت البؤرة التي تتمحور حولها كل رؤى الشاعرة وتجربتها تقول في قصيدتها التي رثت فيها زوجها سفن الرحيل(3 / 40):
سفن الرحيل أشرعت / والموت أسدل الستار/ والأنين / ختم البداية والنهاية/ فارتحل/ إن شئت أو شاء الرحيل/ هي غصة في القلب باقية/يعذبها الحنين!!

تكشف القراءة في أمكنة أخرى من الديوان أن اعتصار الألم تجاوز الفردي؛ ليصبح ألماً جماعياً يقض مضجع الجميع، فلم تقف تجربة الشاعرة مع الموت الذي أفقدها زوجها عند هذه الحادثة وحدها، بل تكرر هذا المشهد أمام عينيها غير مرة، فقد رأت الموت وهو يسلب أحد شهداء مدينتها نابلس، وهو الشهيد " فخري حجاوي" الذي يعد أول شهيد قدمته تلك مدينة سنة 1947 م، وكان لفقده أثر عميق في وجدان الشاعرة، فعبرت عن مشاعر الوفاء والإخلاص لمن قدم روحه وفاءً للوطن، تقول الشاعرة في قصيدتها" استراحة الشهيد":(3 /10 - 11):
أذكر أنني/ غفوت فوق صدره العريض/ غفوت حتى أنني ظننت أنني أنا الشهيد/ وأنني دماؤه التي تسيل من الوريد للوريد/ وأنني مشط الرصاص ألتف حول خصره النحيل/ أفقت/ كان قد مضى لقبره العتيد/ لكنني بعد دورة السنين/ أحمل في دمي دم القتيل/ وأستعيد حلماً تجلى في يديه/ من أجل أن يأتي زمان فيه يستريح.

صورت الشاعرة استشهاد الشهيد بأنه ميلاد جديد، وكان لاستشهاده انعكاس جميل مشرق في نفس الشاعرة، إذ خلف الموت في نفسها إحساساً قوياً بالأمان والسلام والاطمئنان، فموت الشهيد موت جليل؛ لأنه من أجل الحرية التي يستريح بعدها، فموته لا يعني الفقد والزوال، وإنما يعني الخصب والنماء وتجدد دورة الحياة.

يقف المتلقي أمام صور عديدة للموت تتجلي فيها جدلية الصراع بين الشاعرة والموت الذي يعد باعثاً قوياً للفقد، كالعلاقة بين الإنسان والوردة، إذ تقف الوردة رمزاً لكل كائن أصيب بالفقد بينما يجسد القاتل الشرير رمزاً للموت.

إن تيمة الحزن والألم عند الشاعرة متولدة عن الأوضاع المأساوية المختـــلفة التي تعيشها بلادها، فهي تكتب بنبراس المتأمل والملاحظ والواصف، وقد نجحت لحد كبير في توضيح الرؤية أكثر، فالحزن والألم المتراكم وصل أقصاه حين تحدثت عن صيغ الموت المختلفة التي تتنوع بين الموت المادي والمعنوي.

انعكس موقف الشاعرة من الموت في الطبيعة الحية، فإذا هي كائن حي يبكي ويحزن، إنها امرأة باكية حزينة ثكلى فقدت أحبتها وأصدقاءها،تقول في قصيدتها " عندما جاء الشتاء"(3 / 14):
في ذات يوم عندما جاء الشتاء مخلفاً وراءه جثث الفصول الماضية/ ولولت الرياح باكية وأرخت النجوم فوق وجهها حجباً وأطلقت كل الغيوم دمعها/ ولم يعد في وسع أشجار الحقول صبراً أمام الفاجعة/ فأعولت/ ومزقت ثيابها/ واندفعت إلى الشوارع عارية/ كأنها في حزنها / إمرأة ثاكلة!!

تتجلى في هذه الأسطر ثنائية (الموت والحياة) جلية واضحة، فقضية الموت في رؤية الشاعرة هي قضية الحياة؛ لأن من الموت تولد الحياة، ومن وسط الأحزان والمآسي تنبثق الحياة، ويستمر العطاء، فموت الشهيد حياة لشعبه وديمومة لأمته التي ولدت من رحم الموت، وفيه إيحاء باستمرار التصدي والتحدي ومقاومة المحتل حتى تتحقق الحرية للشعب، وينال استقلاله، تقول في قصيدتها الموت والميلاد(3 / 45):
في زمن الأحزان الشتوية/ إذ ينمو الموت، / على شجر اللبلاب/ تحزن أم اللبلاب/ تبكي / حتى يخضر العود/ وتعود إلى الأغصان خضرتها الضاحكة الرعناء.

استثمرت الشاعرة عناصر الطبيعة؛ لتعبر عن رؤيتها الشعرية؛ لأن الطبيعة هي العنصر الدال على الموت وتجدد الحياة في الوقت ذاته، واتخذت من شجر" اللبلاب " رمزاً لموت الحياة وتجددها.

إن القراءة الفاحصة لـ (بنية الفقد) في ديوان الشاعرة، تشير إلى أن ثمة تماهياً واندماجاً بين الوطن والحبيب، فالوطن عندها هو الحبيب، والحبيب هو الوطن، وقد جسدت أشعارها ثنائية حادة انحصرت في دائرتي (الغياب والحضور)، فإذا كان الوطن/ الحبيب قد بعد ونأى بسبب النفي أو الموت، فإن ذكراه لا تزال مغروسة في الوجدان، عالقة بالفؤاد علوق جغرافية الوطن وإنسانه ونباتاته وأشجاره التي هي رمز للتشبث بتراب هذا الوطن وتراثه وعشقه، تقول في قصيدتها "شهوة" التي تشتهي فيها عودة الوطن والأحبة الذين فقدتهم(3 / 48):
حين أشتهيت ذلك الذي أتى مضمخاً/ بالزيت والليمون والزعتر والمطر/ صرت كحبة مشمش تفور بالعسل/وأندلقت على مسارب الهواء/ رائحة التين/ وفي السواقي/ فجرت الأعناب نفسها/ وفي السماء رحل القمر/ مخلفاً وراءه خيط نجوم.

ثالثا: تجربة فقد الإنسان داخل الإنسان.

من يتأمل موقف الشاعرة من واقعها المعيش، يجد أن تجربة الموت قد عمقت في نفسها الشعور بالألم والاغتراب والرحيل، وتحول شعرها إلى شهادة تدين عصرها بأكمله، وأصبح الديوان يمثل حصاد تلك التجربة المريرة، تجربة الفقد التي تلقي ظلالاً قوية على شعرها، وتمكنت أن تعمق همومها النفسية، وشكل الفقد محوراً بارزاً في هذا الديوان، أقصي الذات عن نفسها بقوة، لكنها لم تنفصل عن واقعها أو مجتمعها، بل امتزجت بهما، فأصبحت هموم الشاعرة صورة من هموم الإنسان الفلسطيني المعاصر.

يلمس القارئ في قصائد الديوان جملة من الخصائص الإنسانية التي تنبض بها هذه القصائد من خلال حسّ شفاف تمتاز به الشاعرة تعكس مدى إيمانها بالفضائل والقيم الإنسانية السامية: كالمحبة والحرية والسلام والتسامح، وما إلى ذلك من المعاني الرقيقة القريبة من القلب الإنساني.

فقد رأت الشاعرة أن الإنسان المعاصر فقد كثيراً من المثل العليا، والقيم الخلقية، فقد قيم الرحمة والعطف والمحبة، وسيطرت عليه ثقافة القتل والقسوة والعنف والاضطهاد، ففي نصها الموسوم بـ(هابيل).، الذي يشي عنوانه بالكثير من الدلالات، ومن ثم يمثل العنوان (عتبة) للدخول إلى عوالم الشاعر، ومن أهم هذه الدلالات أن "هابيل" الإنسان الطيب كان ضحية حسد وبغض وكراهية أخيه "قابيل" الذي ملأ الحقد قلبه، فأقدم على قتل أخيه "هابيل" كما ورد في الرواية القرآنية المعروفة، تقول(3 / 35):

منذ أن أدركت موته/ لم أزل أبكي/لأني/ قد عرفت بأن جسدي/ مات مغدوراً / وأني / من رعيل القتلة.

وفي قصيدة أخرى ترفض الشاعرة الشر الكامن في النفوس، فتصور فقدها للقيم الإنسانية داخل الإنسان، الذي تحول فيه الإنسان إلى قاتلٍ لأخيه الإنسان، وقد عبرت عن هذا الإحساس والرؤية تعبيراً مؤثراً، إذ لم تجد أمامها من سبيل سوى الهروب من هذا الواقع سوى بالجنون والصراخ، وقد صاغت تجربتها ورؤاها في قالب قصصي رمزي؛ للبوح بمشاعر الرفض والإدانة لما هو قائم في الواقع المعيش، تقول في قصيدة "صراخ"(3 / 26):
تصرخ كالمجنون/ يا أيها العصفور/ تنهد من صراخك الجبال/ تنقلب الأرض/ يغور الماء/ تحترق الشمس بنارها/ تشتعل الرمال/ تصرخ كالمجنون يا أيها العصفور/ فهل رأيت القاتل المسعور/ قبل أن أراه؟

إن جريمة القتل لم تقف عند الإنسان، بل تعدته إلى العصفور، الذي يرمز للمحبة والود والخير والوطن، وجاء استخدم أفعال المضارع؛(تصرخ، تنهد، تنقلب، يغور، تحترق، تشتعل، تصرخ)، ليعبر عن الحركة والتدفق،أما تلوين الضمائر ما بين المخاطب والغائب فعزز المغزى، كما أن التخلي عن حروف العطف وأدوات الوصل يكثف المعنى ويركزه، فضلاً عن الاستفهام بصيغة "هل رأيت القاتل المسعور قبل أن أراه؟ "، الذي أفرغ من دلالته الحقيقية أو التعبيرية؛ لتحل محله دلالة الإجرام والقتل المتأصلة في نفوس أولئك البشر التي تدركها الكائنات الحية قبل أن يدرها البشر؛ فاكتنز التعبير بدلالات غنية رحبة، كثفت ما يريد الشاعرة البوح به، وأحدثت تموجاً وحركة في الأسلوب أكسبته حيوية وحياة.

توصلت الشاعرة من خلال معاناتها وتجاربها في الحياة أن لا سبيل أمام الإنسان المعاصر للخروج من أزماته ومعاناته إلا بالتمسك بالحب كقيمة إنسانية جوهرية، فالحب لا يستطيع أن يحيا في جو محاصر، والحب وسيلة لإعادة اكتشاف العلاقات بين بني البشر، وفي هذا تأكيد على أن تجاربها الشعرية تعكس وعياً حقيقياً بهموم الإنسان المعاصر ومشكلاته، تقول في قصيدتها (لابد من حب)(3 / 7):
لا بد من حب لأن الحب/ يوصلنا إلى/ باب يدق/ إلى نوافذ لا تسد على الطريق/ والبلبل الولهان فوق الغصن أو بين الخمائل/ لا يكف عن التنهد والتأوه والنشيد/ لا بد من حب لأن الحب يدهمنا/ بلا باب يصد/ ولا خفير أو غفير/ لا بد من حب لأن الحب يخدعنا ويجعلنا نطير كفراشة يجتاحها شبق السعير/ لا بد من حب لأن الحب يختصر الطريق/ نحو الجحيم/ ولا مفر من الجحيم!!

جاءت الصيغ التعبيرية في هذه القصيدة منسجمة مع البؤرة أو المغزى الذي تريد الشاعرة البوح به، لذا فقد توسلت تقنية التكرار التركيبي لعبارة" لا بد من حب لأن الحب " غير مرة التي تحولت إلى لازمة لغوية في مطلع كل فقرة الأمر الذي عمل على زيادة إحكام النسج، وتماسك النص، ووحدة الدلالة؛ كما أدت دورها في ترسيخ المعنى، وإشباع النص بدلالة تعميق قيمة الحب ومعانيه السامية في النفوس، علاوة على وظيفتها الإيقاعية والإنشادية التي تسمح بترددها في كل زمان ومكان.

عبرت الشاعرة عن مشاعر إنسانية مرهفة وحساسة، فهي تؤمن بالإنسان وبحقه في العيش بأمن وسلام، هذه الغاية أو الرغبة الإنسانية على وضوحها وبساطتها وشرعيتها قوبلت بتحديات شديدة، من عدو لا يرحم، لا يعرف سوى الكيد لأخيه الإنسان، إنها تشعر بالعطف على هذا الإنسان الذي افتقد القيم الإنسانية، فحاولت إبراز ملامح الظلم الذي تتعرض لها الإنسانية، ممثلة في الحلم بحياة كريمة، تقول في قصيدتها" يا امرأة الغابات السوداء" مخاطبة مغنية زنجية(3 / 28):
إذ أسمع صرختك الدكناء/ ذات الأجراس/ تقرع أبواب الأحجيات في رقصة موت سرية/ يا امرأة الغابات السوداء/ أيتها الأفعى السحرية/ أرفع صوت المذياع/ أرفعه حتى تتهاوى كل الجدران/ يتفجر في قلبي الملتاع طوفانٌ/ شلالٌ/ بركانٌ/ يقذف بالحمم النارية وجهَ الإنسان!!

من يتأمل هذه الأسطر، يجد أن الشاعرة قد اتخذت من شخصية" المغنية السوداء" رمزاً لظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فالمغنية وإن كانت تتمتع بالحيوية الدافقة والبراءة العذبة، فإنها لم تتمكن من أن تتكيف مع الجو الحضاري التي عاشت فيه، وفقدت قدرتها على الاندماج في هذا الواقع البائس، فأطلقت في وجه إنسان العصر صرخة النقمة والحنق والغضب، وما تصوير الذات الشاعرة لشخصية " المرأة السوداء" إلا انعكاس لكآبة الحياة المعاصرة وقتامتها.

وعلى الرغم من أن الشاعرة قد برزت في غير مكان من شعرها على أنها شاعرة متفائلة تحيا على الأمل وتطرد عن نفسها اليأس والقنوط، إذ إنها كانت تنتظر تحقيق طموحاتها وأحلامها في هذه الحياة، فإن أحلامها وطموحاتها قد تحطمت، واغتيلت وتآكلت؛ تحت ضربات أعداء الإنسانية وطغيانهم، وقد رمزت لهم بـ"سمك القرش" الذي يلتهم الكائنات الضعيفة، مستدعية في ذلك التراث الأدبي العالمي المتمثل في رواية" العجوز والبحر" للروائي "أرنست همنغواي: تقول في قصيدتها" الحلم والقرش"(3 / 63):
تبدد الحلم/ في البحر ضاع/ في جوف قرش ضاع/ من يمسك القرش الذي لما يزل يجوس البحار/ من يخرج الحلم الذي في جوفه/ من ذا الذي سيصنع المستحيل!!

والواقع أن هذه التجربة الشعرية لم تكن إلا "المقابل الموضوعي" للذات، فالشاعرة متورطة في الوقت ذاته في هذا الواقع الذي يدور الصراع فيه بين ثنائية الحلم والطموح وبين الواقع المعيش، وقد انعكس الوجود على الذات، فالشاعرة بأحلامها وطموحاتها ما هي إلا السمك الضعيف الذي التهمه سمك القرش بشراسة وبدون مسوغ.

وتعكس الصيغة اللغوية للاستفهام" من يخرج الحلم الذي في جوفه؟ من ذا الذي سيصنع المستحيل؟!! " ذبول هذه الأحلام واستحالت تحقيها، إن الواقع البائس وغياب كل القيم النبيلة في حلكة الواقع أو ما يختزنه الواقع من جور وظلم واستبداد يكبح جموح هذه الطموحات والأحلام ويشد أجنحتها عن التحليق شداً وثيقاً.

يشكل الحزن محوراً بارزاً، وإيقاعاً مصاحباً لمعظم قصائد الديوان، فهو إفراز طبعي لفقدان الإنسان الحب والأمن والسلام، والحزن في شعرها ليس انعكاساً لفشل الذات الشاعرة في تحقيق طموحاتها الذاتية، بقدر ما هو تعبير صادق عن صدق الذات في التعبير عن الواقع الذي دمر كثيراً من القيم الإنسانية النبيلة، تقول في قصيدتها " عندما يأتي المساء" (3 /21):

عندما يأتي المساء/ قبل أن تأتي النجوم الضاحكات/ فالغيوم الداكنات/ صفَّ جيش بين قلبي والسماء/ عندها/ آوي إلى روحي/ فنهجع/ ثم نسرف في البكاء!

عمدت الشاعرة في هذه القصيدة إلى اختيار الدوال الموحية بالمعنى المقصود توصيلة، فقد اختارت دال "المساء"؛ لأنه الزمن الملائم للتذكر والاستدعاء، والمناسب للبوح بالأحزان والهموم المستكنة في النفس البشرية، الزمن المفعم بالمشاعر الإنسانية الدافئة.

أما على مستوى الضمائر، فوظفت الشاعرة تقنية الالتفات البلاغي بوصفها وسيلة فنية ثرة في ناتجها الدلالي، وتأثيرها الجمالي الذي يعمل على" دفع المتلقي إلى استقبال الدلالة على نحو مزدوج، وتثير فيه الرغبة الحميمية إلى المتابعة الاستكشافية"(7)، وقد تجلى ذلك في انتقال الخطاب الشعري من ضمير المتكلم الذات المفرد (أنا) (آوي) إلى ضمير المتكلم الذات الجمع(نحن) (نهجع، نسرف) من أجل خلق تواصل درامي قوامه التماهي والاندماج بين الخاص والعام وتحقيق التعاطف والمعايشة الوجدانية المشتركة.

نسجت الشاعرة تجربتها الشعرية في التعبير عن بنية الفقد في ديوانها "سفن الرحيل" من خلال جملة من الوسائل التعبيرية أو الفنية التي تبنتها القصيدة الحديثة من: صور شعرية ولغة وإيقاع وبناء درامي؛ ولما كان الفقد هو محور التجربة، فإن صوره ودواله تهيمن على الديوان هيمنة تامة وتتراءى للقارئ في تجلياتها المختلفة.

فالصورة الشعرية هي أحد المفاتيح المهمة في فهم التجربة الشعرية والوصول إلى المغزى الكامن وراء النصوص الشعرية، ويعد توظيف عنصر التشخيص والتجسيد من أكثر العناصر التي تستخدمها الشاعرة في تشكيل صورها وتجسيد تجربتها، إذ تكتنز القصيدة بصورها المجازية التي تعتمد أساسا على الاستعارة، ومن أمثلتها عند الشاعرة ما جاء في قصيدتها" الجذور"(3 / 5، 6):

أبحث في الصحو وفي المنام/ عن صوتها الأجش هادراً بالدفء والعناد/ كأنه زناد/ عن بسمة تحرك الأشجار/ تقتنص الطيور في الأسحار/ تشعل ألف نجمة في رأسها المضاء بالشيب والحناء/ كأنها عنقاء تتبع الحمام/ أو أنها عشتار والصياد.

تتكئ الصياغة الشعرية في هذه الأبيات على رسم مشهد شعري يقوم على الانزياح الذي تبدو علاقاته في الذات الشاعرة، وقد تجلي هذا الانزياح في المفردات التي استغنت عن دلالاتها المألوفة ونهضت عنصراً جديداً هو انزياح التراكيب عن دلالاتها التقليدية لتأخذ معنى جديداً.

وظفت الشاعرة في هذا المقطع أسطورة البعث من الموت، وعودة الحياة من جديد، لتعميق تجربتها الشعرية وإثرائها، إذ وجدت في تلك الأسطورة دلالات يمكن أن تكون معادلة لدلالات واقع الشعب الفلسطيني، ونضاله ضد الطغاة الصهاينة المحتلين.

جاءت صورة"الجدة" التي ترمز لفلسطين معادلة لأسطورة " العنقاء" التي ترمز إلى الانبعاث من الرماد والحياة بعد الموت، إنها تمتلك القوة واستمرار المقاومة، وتطارد حمائم السلام التي ترمز إلى الضعف والاستسلام واليأس والقنوط الذي أخذ يدب إلى قلوب بعض الفلسطينيين المخدوعين بالسلام السراب مع العدو(1 / 3 /137 - 128).ٍ

أما الصورة الثانية"للجدة" فهي تعادل صورة"عشتار" التي تعيد الحياة كل عام في فصل الربيع إلى زوجها أو عشيقها "تموز" بعد موته، حيث الخصب والبعث والتجدد، برغم قسوة "الصياد" وظلمه(1/ 3 /295 - 296).

إن استدعاء أسطورة البعث بعد الموت تلبي لدى الشاعرة حاجة نفسية، وتدفع الشعب الفلسطيني على الصمود في وجه حرب الإبادة الإجرامية التي يقودها الكيان الصهيوني، وتعطي الإنسان الفلسطيني الأمل في النصر ونيل الحرية.

وعلى الرغم من توظيفها الأسطورة،الذي جاء في صورة إشارية سريعة، بوصفه جزءاً من صورة تشبيهية، فإن هذا التوظيف ورد منسجماً مع بقية الصور الفنية في المقطع، متماهياً مع رؤية الشاعرة الإنسانية والمعنى الكامن وراء النصوص والذي تريد الشاعرة إبانته للتأثير في الذات المتلقية.

أدت الصور الرمزية دوراً فاعلاً في تشكيل الصورة ورسم أبعادها، ومن الرموز التي احتلت حيزاً مهماً في مخيلة الشاعرة صورة"الطائر" الذي يشكل امتداداً نفسياً وشعورياً لتجربتها، وهي تحمل دلالات وإشارات متنوعة وفق تجربة الشاعرة والفكرة التي تريد التعبير عنها، فرمز الطائر ومفرداته:(العصفور- البلبل - الببغاء) ليس إلا إسقاطاً أو قناعاً تخفت فيه الذات الشاعرة، لتجاهر برفضها لواقعٍ فقدت فيه إنسانيتها وأملها وحوصرت، فانقطعت عن كل ما يوصلها بالأحبة أو بالحياة في تجددها ونضارتها.
ويلحظ القارئ أن الشاعرة استدعت صورة الطائر في إطار دلالي خاص، إذ تتلون صورته بمعان وإيحاءات رمزية تختلف من موضع إلى آخر في قصائدها، فالطائر قد يرمز عند الشاعرة إلى الحب والمودة، ووسيلة توثيق للعلاقة بين الأحبة، وربما يرمز لحلم الفلسطيني في العودة إلى دياره السليبة، وقد يرمز إلى الرحيل والفراق والغربة والمنفى، فيكون بذلك منسجماً مع بنية الفقد والترحال التي تهيمن على فصائد الديوان،. تقول في قصيدتها "نفذ الكلام" (3 / 44):

"...فالطائر المفجوع عاد/ إلى منافيه البعيدة/ لم يعد/ في المشهد المعروض غير الببغاء / وبعض أشكال سقيمة".

لقد كانت للشاعرة براعة قوية في تطريز قصيدتها بألوان من الصور الشعرية المكتنزة بدلالات متعددة، ومعان متوالدة، عرفت كيف تقتنصها بدقة متناهية، مشكلة لوحات فنية رائعة بألوانها النضاحة.

وهذا ينقل المتلقي بدوره إلى سمة من أهم سمات النص الحديث، التي تتجلى بوضوح في هذا الديوان ألا وهى (المشهدية) التي ترتكز على خلق مشهد كامل بجميع تفاصيله الدقيقة اعتمادا ًعلى التفكيك ليتحول اليومي والمعيش وتفاصيل الحياة اليومية البسيطة والهامشية إلى حجر زاوية في بناء النص الشعري من جهة، وتشكيل المعجم الشعري من جهة أخرى؛ لتجد الذات المتلقية نفسها أمام مجموعة كبيرة من المشاهد المختلفة تجتمع في سلة واحدة هي وجود الذات وحضورها.

اعتمدت الشاعرة على عنصر اللون في تشكيل بعض صورها وبنائها، إذ تؤدي الصور اللونية دوراً مهماً في تجسيد تجربة الشاعر، وتعميق الإحساس بقتامة الرؤية من خلال تغلغل دلالات اللون المباشرة وغير المباشرة. وتعد الصور اللونية من أكثر الظواهر التعبيرية، وضوحاً في لغة الشاعر مثال ذلك قولها:

 "ابحث في جذوري الخضراء عن صورة لجدتي"(3 / 5).
 " والطير يصغي لوقع خطاك/ وإن الشعاع يطير اليك"(3 / 54).
 "ورفيف موج البحر/ صف من طيور رفيف ثوبك"(3 / 56).
 "إذ أسمع صرختك الدكناء" (3 / 28)

اعتمدت الصورة الأخيرة في تشكيلها على تقنية تراسل الحواس، إذ تبادلت حاسة الصوت(الصرخة) مع مدركات حاسة اللون(الدكناء)؛ لتوحي بمرارة الواقع وشدة المعاناة وقسوتها، وتجسد مشاعر الشاعرة، وتعمق أحاسيسها.

ويبرز توظيف الألوان في قصيدة "في بحيرة روحي" واضحا جلياً، إذ اتكأت عليه الشاعرة في نقل تجربتها الشعورية والجمالية؛ بقصد إحداث المشاركة الوجدانية والتأثير في الذات المتلقية، تقول مصورة بحثها الدائب عن الحقيقة"في بحيرة روحي" (3 / 61):

في بحيرة روحي المسكونة/ بزوارق من ورق فضي وأقمار وشموس وهمية/ وعصافير كثيرة/ بيضاء وحمراء وذهبية/ تبكي الرغبة/ شوقا إلى بحر الحقيقة.

تكشف القراءة في النصوص السابقة أن اللغة الشعرية عند الشاعرة سلافة حجاوي واضحة نقية؛ فهي لا تلجأ إلى الإبهام والغموض اللذين يجعلان القصيدة الشعرية طلسماً ولغزاً لا يمكن فكه أو الوصول إليه ولو بآليات سيميائية بالغة في الدقة والتفكيك والتأويل والتشريح.

تشيع في قصائد الديوان التي تتناول بنية الفقد مفردات الرومانسيين، ولا يمكن استعراض المفردات التي جاءت في المجموعة كلها، ولكن يمكن التوقف أمام بعض القصائد التي تكشف عن نزوع رومانسي، تؤكده المفردات التي جاءت في بعض النصوص، ومنها: (شبق السعير، ريح العمر، سفن الرحيل، ولولة الرياح، جثث الفصول، الشوارع العارية، النجوم الضاحكات، شرفات الظلام، رحلة الفصول).

أدى الاستخدام المجازي للألفاظ والدوال دوراً نشطاً في تشكيل التجربة وتعميقها، فالكلمات والدوال كلها كلمات مجازية خرجت عن مدلولها المباشرة واكتسب دلالات أخري ترتبط بتجربة الشاعرة

من يتأمل بناء بعض القصائد يجد ان الشاعرة قد تخلت في بنائها الأسلوبي عن أدوات الوصل أو العطف تماماً في سياق الأحداث وتلاحقها وأشيائها خاصة في المشهد الذي تقول فيه(3 / 19):

سأحيا لأنك آثرت ان ترحلا /فمن بعد موتي/ سيحمل ذكراك عبر الزمان/... وأنك كالآخرين تروح وتغدو/ وتلهو وتغضب/ تصرخ/ تضحك/ تشتاق/ تحلم/ تبكي/.. سأحيا.

فالأفعال في المثال السابق (تصرخ/ تضحك/ تشتاق/ تحلم/ تبكي) تتابع متلاحقة دون أية واسطة؛ للإيحاء بأن هذه الأحداث بلغت في انثيالها وسرعتها حداً لا يسمح معه بوجود حرف وصل أو عطف. وتكتنز الأفعال المضارعة (تروح/تغدو/ تلهو /تغضب/ تصرخ/ تضحك/ تشتاق/ تحلم/ تبكي) بشحنات دلالية تمور بأفعال الحركة وصورها؛ لتعكس جو الاضطراب والجيشان داخل الذات

بيد أن الشاعرة خرجت – أحياناً- عن النسق الذي اختارته لنفسها في التعبير غير المباشر عن رؤيتها الإنساني، باختيار الألفاظ الموحية ذات الدلالات المؤثرة والمعبرة عن موقفها، وجنحت للتعبير المباشر، فوقعت في دوائر النثرية والتقريرية، وعلى الرغم من محاولة الشاعرة التخفيف من عملية المباشرة والوضوح باللجوء إلى استخدام بعض الصور الاستعارية؛ لتحفظ للنص الشعري خلابته وشعريته، فإن اللغة فقدت نصيباً من وظيفتها في خلق الإيحائية الشعرية، وتوصيل رسالة الشاعرة في ثوب مجازي؛ ولعل شدة انفعالها بمأساة هذا الصديق، ومرارة واقعه الذي آل إليه وقسوته، كانا السبب في اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب التعبيري المباشر، تقول في قصيدة "رسالة" التي أهدتها إلى صديقٍ فقد وطنه وولده(3 / 29):

لم يبق شي/ ذهب الوطن/ ذهب العدو والصديق والولد/ لم يبق أي شيء / ذهب الوطن/ ذهب الولد/ لم يبق أي شيء/ ذهب الوطن/ ذهب الولد/ وآخر العمر الذي يرتاح فوق قمة الجبل صقر يهدهد جرحه الدامي/ ويضحك/ تلك معركة عبث /عبث/ عبث/ عبث!

تكشف القراءة أن الشاعرة على مستوى التشكيل الفني استخدمت في قصائدها التي عالجت فيها بنية "الفقد" لغة جديدة تقوم على التكثيف الرمزي الغنى بالدلالات التي تعكس عمقها وما تحمله من حس إنساني، لغة الخيال "لغة المتعة" التي تعمل على تحرير المتلقي،" وإذا كانت لغة الوصف هي لغة الأنا الجماعية الكاملة المعصومة، فإن لغة الكشف هي لغة الذات الجماعية التي تتكامل عبر التاريخ فتتفجر طاقتها، ويتبدّى وجهها الإنساني الفاعل المتطوّر الحي، إنها لغة تجمع بين توظيف اليومي والمعاش مع العمق الدلالي"(10 /234).

وعلى نحو ما تأثرت لغتها وصورها بتجربتها الخاصة، فقد تآزرت البنى الإيقاعية هي الأخرى بهذه التجربة، وتجلى ذلك في الإيقاع الخارجي من وزن وقافية، فقد صاغت الشاعرة كثيراً من تجاربها على إيقاع وزن "المتدارك" بتفعيلاته المتنوعة العذبة المتدفقة، التي تنسجم في تدفقها مع المغزى الذي تريد التعبير عنه والحالة النفسية التي تعبر عنها.

استغلت الشاعرة الإيقاعات النغمية التي تمتلكها البحور الصافية لتنقل تجربتها الشعرية، ومن ذلك تعبيرها عن حالتها النفسية من قلق وغربة وهموم بسبب ما حل بها فقد الأحبة والأهل والأوطان، وهي تحاول الهروب من هذا القلق باللجوء إلى النوم لعلها تهدأ أو تجلب لنفسها الأمن والسلام، تقول في قصيدة لها بعنوان"قلق"(3 / 22):
سأهرب للنوم / قد أستريح قليلاً/ على شرفات الظلام/ من القلق المستبد الذي/ يدوم في عجلات النهار/ سأهرب/ علي أهدئ هذا القطار/ من الأسئلة/ ومن أحجيات بلا أجوبة/ لعلي إذا ما غفوت قليلاً / ألاقي لروحي السلام.

تشكلت البنية الإيقاعية في هذه القصيدة من عناصر متنوعة منها: الاعتماد على الإيقاع المتولد من بحر المتدارك الصافي بتنويعاته عبر الأسطر الشعرية(فاعِلنْ، فعْلن، فعِلن، فَعِل)، وهي تفعيلات غنية بإيقاعاتها المتدفقة المتلاحقة التي تعمق الجو النفسي للتجربة وتعكس مشاعر القلق الروحي والغربة، فضلاً عن توظيف تقنية" التدوير" التي تجعل القصيدة دفقة شعورية واحدة، وتحقق الانسجام بين الإيقاعين النغمي والنفسي اللذين يتوافقان في تجسيد مناخ القلق والتمزق.، استثمرت الشاعرة في هذه القصيدة التكرار اللفظي مثل:(سأهرب للنوم – سأهرب، علي- لعلي، قليلاً، قليلاً)، كما أسهمت القافية شبه المنتظمة عبر أسطر القصيدة(الظلام- السلام، النهار- القطار) في إثراء الإيقاع بجرسها الغني.

وفي بعض القصائد التي جسدت بنية الفقد عمدت الشاعرة إلى استثمار إمكانات القافية النغمية؛ لنقل تجربتها الشعورية، ورؤيتها الإنسانية، تقول في قصيدتها "سفن الرحيل"(3 / 38- 39):

"صمت الفؤاد وبيننا نجم ذوى/ قمر تصدع أو هوى/ حلم من الأحلام أصدأه الصدا/ فمضى إلى المجهول قبلك وانقضى/ لكن ريح الصبح ترجعه صدى/ فيعود مرتعشاً على طرقات باب/ أو على صنبور ماء/ بحّ من طول الندا.

إن اتكاء الشاعرة على صوت الألف الصائتة (ذوى، هوى، الصدا، انقضى، صدى،الندا)، فضلاً عن السجع الصوتي بين (ذوى- هوى) جعل الإيقاع النغمي المتولد من القافية يتماهى مع رؤيتها الإنسانية وحالتها النفسية وما تولد عنها من حزن عميق يعتمل في صدرها، كما وافق حرف المد الألف حالة الشاعرة المحبطة المحاصرة بعظم المصاب الذي أدى إلى حزنها، فاحتاجت إلى الامتداد الصوتي الذي يوفره صوت مثل الألف؛ ليكون متنفساً لهذه الأحزان وتلك الهموم التي نزلت بساحتها بعد فقدها زوجها.

وتشير القراءة إلى أن الإيقاع الداخلي في قصائدها يتولد من علاقات صوتيه موسيقية، وذلك من خلال تجاور بعض الألفاظ، وتردد صوت واحد مثّل مفتاحاً موسيقياً يهيمن على الفقرة كلها مثل:استخدام صوت (الراء) المرتعشة الذي يكاد يتكرر في كل سطر(3 / 36):

سفن الرحيل أشرعت/ شراعها/ والموت أسدل الستار/ والغريب/ ختم النهاية وانتهى/ ما بين جمر أو جليد/ يا أيها الغائب مهلاً/ كيف فاجأت المغيب، وكيف آواك السكون/ فلا حديث أو شجار أو نشيد.

اعتمدت الشاعرة في تحقيق الإيقاع الداخلي في هذا المقطع على الترديد الصوتي المنبعث من بعض الأصوات مثل"السين والشين والراء"، فضلاً عن أن ترديد حروف المد (الألف والياء) قد أضفى نغمات إيقاعية على القصيدة التي ينساب منها نغم شاعري بسبب الأسطر القصيرة، وتكرار بعض الوحدات النغمية التي حققت بعضاً من التناسب الهرموني للمقطع الشعري.

وخلاصة القول في إيقاع قصيدة الشاعرة سلافة حجاوي التي عالجت فيها بنية الفقد أنه إيقاع متدفق، غير مضطرب، وأن سبب هذا التدفق والانسجام في الإيقاع هو حرصها الشديد الواعي، أو غير الواعي (الدفين) في انتقاء المفردات، وتنظيم توافقها داخل النص.

ومن الظواهر الفنية في هذا الديون سعي الشاعرة إلى النزوع إلى إقامة بناء درامي استخدمت فيه عناصر متعددة منها: أساليب السرد والقطع والحوار التي أسهمت في إثراء القصائد بعناصر درامية.

والمتأمل في أبنية الشعر الفلسطيني المعاصر، يكتشف أن النزعة الدرامية قد غلبت على كثير من قصائده، "بحسبانه انعكاساً لأكثر أشكال الصراع حدة، فهو يحمل في تربته البركانية بذرة التحولات الدرامية التي تشدها الذات الشعرية الثورية نحو سطح الحالة الفلسطينية الراهنة"(8/ 79 – 80).

سجلت الشاعرة في أسلوب قصصي تجربتها الذاتية، التي يؤكد انعتاق الشاعرة من أسر الذاتية الغنائية.التي ميزت كثيراً من قصائد الديوان، وحاولت أن توفر لشعرها بناء درامياً، فجاءت بعض قصائدها ذات طبيعية سردية تستثمر الواقعة وتحيلها إلى بناء حكائي، والأسلوب القصصي في قصائدها يتوزع بين استخدام تقنية السرد والحكاية، والقصة القصيرة.

ومن أمثلة النمط الأول تقول الشاعرة في مطلع قصيدة لها بعنوان " قص" محددة الفضاء الزمني والمكاني لحكايتها:(3 /59):

في ليلة حالكة السواد، حيث المصابيح خافته/ والنجوم راحلة، والصمت مطبق والعيون شاخصة/ والنوم لا يجيء، نهض الموتى من قبورهم واحتلوا/ الشرفات ناموا في الأسرة فتحوا الثلاجات/ أكلوا شربوا جلدوا زوجاتهم الخائنات/ جالوا في الشوارع الفاغرة عانقوا أحبتهم بصقوا في وجوه حكامهم... ".

توسلت الشاعرة في هذه الأبيات أساليب فنية أسهمت في تقوية النزعة السردية منها: الجمل الاسمية القصيرة المتتابعة، واستخدام الأفعال الماضية الدالة على الحركة التي تنسجم وأسلوب السرد، فضلاً عن إسقاط حروف العطف في الجمل الفعلية لتشير إلى تدفق الحدث وتتابعه وانثياله، وأدت القافية (الشرفات ـ الثلاجات ـ الخائنات) دوراً مؤثراً في إحداث إيقاع موسيقي يتماهى والفكرة التي تريد أن تعبر عنها.

أما النمط الآخر من البناء الدرامي، فتنهض به قصيدة "جريمة" التي صيغت في قالب قصصي انتظم القصيدة من أولها إلى آخرها مثالاً عليه، تقول في تلك القصيدة التي جاءت على صورة قصة رمزية قصيرة مستمدة من عناصر الطبيعة(الوردة) التي تصور الصراع بين الحياة والموت وتبرز قسوة الإنسان، وتخليه عن الرحمة والإحساس بالقيم الجمالية السامية، تقول(3 /65):

كانت الوردة جالسة على الغصن وكلها دلال/ وكان لونها يملأ الأفق بالشموس الصغيرة/ وعطرها يعبق في الرياح، لكن عابراً ألقى/ بقبضتيه عليها وغاب، مخلفاً وراءه أشلاءها/ التي تبعثرت تفوق التراب، وبعد حين مرت/ الأقدام فوقها فاندثرت، ولم يدر في بال كل تلكم الأقدام، بأن وردة قد قتلت، وأن كل شجر الورد/ ناقم، يطلب ثأراً من بني الإنسان.

جسدت الشاعرة في هذه القصة الشعرية معاناة الإنسان في الحياة بعد فقده الوطن والأحبة، وأحست الذات المتلقية من خلال معاناتها ومعايشتها للآخرين أن قوى الشر هيمنت على روح الإنسان المعاصر فقتلت العلاقات الإنسانية التي تربط بين الناس، فغدت بذلك مقطعة الأوصال، وتحولت إلى أسلحة للفتك والقتل والتدمير، إنها تقتل في الحياة وجه البراءة، ومصدر النعمة، والخصوبة والجمال.

وفي هذا النوع من البناء الأسلوبي تجد الذات مجالاً رحباً للإفصاح والبوح بمكنوناتها، وقد اعتمدت الشاعرة على بنية السرد كأداة محورية في نقل تجربتها إلى المتلقي، وتنوعت طرائق تلك البنية، إذ غالباً ما كانت الشاعرة تقوم بدور الحاكي والقاص، فتقترب بذلك من القصة القصيرة التي يعد التكثيف والاتكاء على بنية السرد، والاحتفاء برسم المشاهد الوصفية القصصية من أبرز وسائلها.

من خلال هذه الدراسة المتواضعة لديوان "سفن الرحيل" يتبن للقارئ أن الشاعرة سلافة حجاوي تبقى صوتاً وصورة من الشاعرات اللائي يشار إليهن بالبنان في الساحة الشعرية العربية، إن ديوانها "سفن الرحيل" يكشف عن طاقة شعرية لشاعرة مقتدرة، أبرزت فيه قدرتها على التشكيل الجمالي في الأداء الشعري، تجلت فيه متانة لغتها ورقتها ونعومتها، وروعة صورها، وعذوبة إيقاعها، وغزارة عاطفتها؛ الأمر الذي جعل لشعرها جاذبية وأثراً بالغاً في الذات المتلقية.

 [1]


[1

المصادر والمراجع:
 
(1) إمام، إمام: معجم ديانات وأساطير العالم، مجلد 3، مكتبة مدبولي، القاهرة د. ت.
(2) حجاوي، سلافة: ديوان أغنيات فلسطينية– وزارة الإعلام - بغداد – 1977.
(3) حجاوي، سلافة:ديوان سفن الرحيل – شعر – وزارة الثقافة الفلسطينية – غزة 1997.
(4) الجيوسي، سلمى: موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الجزء الأول الشعر، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997م.
(5) شراب، بهائي: لقاء مع الشاعرة سلافة حجاوي بتاريخ 8 / 1 / 2004 shrabahae.maktoobblog.com
(6) صرصور، فتحية: مبدعة تتحدث عن نفسها: سلافة حجاوي الشاعرة والناقدة الأدبية والسياسية
بتاريخ 12/05/2005 www.midouza.org/
(7) عبد المطلب، محمد: تقابلات الحداثة في شعر السبعينات، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط 1، سنة 1995
(8) العف، عبد الخالق: التشكيل الجمالي في الشعر الفلسطيني المعاصر، ط 1، وزارة الثقافة الفلسطينية، غزة، 2000.
(9) عيسى، فوزي: تجليات الشعرية، قراءة في الشعر المعاصر، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1997.
(10) كرويل، إديث: عصر البنيوية، ترجمة د. جابر عصفور, سلسلة آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، مصر.
(11) كريزم، محمد: حوار مع الأديبة والشاعرة سلافة حجاوي ، بتاريخ 8 / 5 / 2007

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى