الاثنين ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٢٣
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

تأملات في غريزة الخوف

وُضعت غريزة الخوف في المخلوقات كافة للتعامل مع المخاطر المحدقة بما يضمن بقائها على قيد الحياة، ولا يختلف حالها عن بقية الغرائز، فلها مثيراتها وأهدافها. وأما مثيرات الغريزة فهي ما يدفعها إلى الظهور وأما أهدافها فهي الغايات التي تدفع الغريزةُ صاحبَها إلى تحقيقها. ولا يتطلب عمل الغريزة في الكائنات الحيّة فهماً لها فهي تعمل بطريقة تلقائية، هل ترى من ضرورة تدفع الأرنب إلى مقابلة متخصص في علم النفس ليشرح له أسباب خوفه من الذئب؟ فما إن يرى الأرنب ذئباً حتى تٌستثار غريزة الخوف عنده لتدفعه إلى الركض محققاً هدف الغريزة بالنجاة أو الموت دون ذلك.

تتطور غريزة الخوف وفقاً لتجارب المرء، ولا يتغير شعور الخوف ولا يزول، فهو رفيق مخلص يلاصق صاحبه بوفاء قلّ نظيره، بل تتغير مثيراته وأهدافه، فإذا كان الصوت المرتفع من مثيرات الخوف في طفولتك التي تدفعك إلى البكاء، سيزول هذا المثير بتقدم العمر وتستبدله تجاربك بمثير آخر، فيصبح اقتراب موعد الامتحان دافعاً لالتهام الكتب!

لقد خضعت غريزة الخوف لديّ إلى تبدلات وتقلبات كثيرة توقفت عن عدّها منذ زمن بعيد. ولا أدّعي الشجاعة لنجاحي في قهر كثير من المخاوف، فلم تعرف راحة يدي الصغيرة مقبض السيف كما عرفت عنقي نصله، ولم تمسك يدي إلا القلم الذي سطرت به انفعالاتي بكلمات تائهة ما وجدت يوماً طريقها إلى أذن واعية! والفضل أولاً في صقل غريزة الخوف يعود إلى تجاربي القاسية، فأنا لا أخاف من الفشل وقد عرفته في طريقي الوعرة كما أعرف راحة يدي، ولا أخاف من الظلام فأنا لم أعرف التيار الكهربائي إلا في مادة الفيزياء، ولا أهاب الأشباح لاعتقادي الراسخ بأن الإنسان يفوقها فظاعة ووحشية!

أؤكد مجدداً أنني لم أكتسب الشجاعة من هذه التجارب، وإنما اكتسبت صلابة واعتياداً ذلّلا كل العقبات التي تبعث الرعب في الإنسان الطبيعي وتقضّ مضجعه، وأستثني من هذه العقبات واحدة فقط، تلك الصخرة العظيمة لا تزال جاثمة فوق صدري حتى الآن، وأعني الخوف من الفقدان! ولا أنكر حقيقة فشلي في تجاوز كل تجارب الفقدان فما زلت أتجرع مرارتها حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، وقد دفعني الخوف إلى أن أقصّ على الناجين هذه التجارب فأنذرتهم ليحتاطوا قبل أن يسطرهم الفقدان قصصاً في كتبه.

أما تجربة الفقدان الأخيرة، فقد انقضت على عجل، إذ جمعت كل ما اعتدت استخدامه في اللحظات الأخيرة: كلمات العتاب والتبرير، والحجج المنطقية، والأدلة والإثباتات، وغيرها من أدوات الدفاع والهجوم، فقذفتها جميعاً في النار التي تعاظم لهبها وبلغ عنان السماء! لم أشعر بالألم على الرغم من نفاذ رائحة الاحتراق، وباستثناء شعور الحزن الذي ألفته منذ زمن، فقد كانت مشاعري متبلدة وجامدة كملامح وجهي الذي نظر ببرود إلى النار المتأججة، قبل أن ترتسم على محيّاه ابتسامة باهتة، تسخر من نار عظيمة تحاول جاهدة أن تحرق الرماد!


مشاركة منتدى

  • الكتابة جهد هائل، ليس بمقدور الجميع خوض تجربته، فما بالك بالكتابة عن أهم مشاعر البشر التي تعترينا كل يوم، الرصد الدقيق والأمثلة المطروحة، أقل ما يقال عنها بأن فيها مجهود كبير.
    جملة "لم تعرف راحة يدي الصغيرة مقبض السيف كما عرفت عنقي نصله"
    أي كلام لا قيمة له أمام هذا المزيح المذهل من براعة الكتابة والوصف.

  • هذه الكلمات نابعة من قلب شخص قد كافح وعارك
    الكثير من المعارك خلال حياته
    انا اشهد بان صاحب هذا القلم والكلمات
    من اروع الناس ومن اعز الناس على قلبي
    اتمنى من دواع سروري كل التوفيق والنجاح والسعادة لك صديقي واخي العزيز
    من اجمل ما قرأت
    استمر ❤️❤️❤️

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى