الحب بلا تلامس
ظلت نظريات الطبيب النمساوي فرويد موضع جدل لعقود طويلة، خاصة عند تلامذته الذين قدسوه إلى حد التأليه قبل أن ينقلبوا عليه ويطلقوا نيران النقد على نظرياته بلا رحمة. ولعل أبرز تلك الانتقادات نظرية ثيودور رايك، تلميذ فرويد الوفي الذي وصف نظرية اللبيدو بالساذجة، إذ يعتقد فرويد أن الجنس طاقة داخلية تدفع صاحبها إلى تصريفها وهو ما يجرد المرء من إنسانيته، فالجنس كما يراه رايك، ليس غريزة مجردة من الانفعالات كالجوع والعطش، وإن كان كذلك، فلا يمنح صاحبه إلا متعة سطحية كالتي يحصل عليها الجنود الذين كانوا يرتادون مواخير الجنس في الحروب، ولا يرون فيها إلا أجزاءً محددة من أجساد شريكاتهم فيها.
يجب التمييز بين الرغبة والاحتياج؛ فالشخص الذي يتضور جوعاً قد يتناول أي طعام يوضع على المائدة فهو مدفوع بالاحتياج، أما الشخص الذي يخطط للذهاب إلى مطعم ما لتناول وجبة شرائح اللحمة المفضلة لديه فهو مدفوع بالرغبة، وقد يعود إلى منزله إذا لم تتوفر هذه الوجبة في المطعم. وبالمثل، فإن ممارسة الجنس لتصريف توتر فيزيائي يشعر به المرء يختلف عن ممارسته مع شريك بدافع الرغبة، وأعني الحب.
لن أستغرق كثيراً في معارك فرويد وتلامذته، إذ سأكتفي بهذ القدر كتمهيد سريع لبعض النتائج التي يمكن استخلاصها والحديث عنها بتفصيل أكثر، وأولها أن تحقيق الرغبة يلبي الاحتياج ولكن تلبية الاحتياج لا يحقق الرغبة، فالجائع الذي قد يتناول أي طعام على الطاولة سيشعر بالشبع، وأما الرجل الذي ذهب إلى مطعم لتناول وجبته المفضلة سيشعر بالمتعة والشبع في آن!
وأما الثانية؛ أن الرغبة – أو الحب – هي ما تميز الإنسان عن سائر المخلوقات، فالإنسان المتحضر مدفوع برغباته واحتياجاته، أما الإنسان البدائي كما البهائم، مدفوع باحتياجاته فقط. وأما الثالثة، فهي حقيقة أن المرء لن ينجح في إجراء تواصل فعال مع الآخرين دون وجود الرغبة، ويشمل ذلك التواصل البصري واللفظي والجسدي والروحي.
يثير الاستنتاج الثالث مجموعة من الأسئلة؛ فما هي الاحتياجات النفسية التي تخلق في داخلنا رغبة نحو الآخر؟ ويمكننا تقديم السؤال السابق بشكل أكثر وضوحاً، لماذا نشعر بالحب تجاه الآخر؟ وهل تغني الاحتياجات النفسية عن الاحتياجات الجسدية؟ بمعنى آخر، هل يوجد حب بلا جنس؟
لنبتعد عن المثاليات، ونفكر بإجابات شافية عن السؤال الأول. ينجذب معظم الرجال عادة إلى النساء عند النظرة الأولى، فجمال النساء هو أول ما يغرس بذور الرغبة في صدور الرجال. أما النساء، فينحذبن عادة إلى الرجال الذين يمتلكون حس الفكاهة والذكاء.
وبإجراء استبيان بسيط، يمكننا الحصول على أسباب متنوعة تعكس الخصائص العقلية أو الجسدية التي تجذبنا إلى الآخر، ولكنها على اختلافها تشترك في جذر واحد وهو الرغبة في شريك متميز، عقلياً أو جسدياً، وهو ما يمنح المرء شعوراً بالسعادة ويعزز من تقدير المرء لذاته، فالشريك العاطفي هو ند للمرء، فإذا حصلت على شريك متميز، فأنت بالتأكيد – وفق تقديرك لذاتك – شخص متميز أيضاً!
يلبي هذا الشعور بدوره احتياجاً آخر وهو الشعور بالقبول، فمن منا لا يسر عند شعوره بأن شخصاً متميزاً يتوق إليه ويرغب في وصاله؟ ومن أعظم الاحتياجات – وفق تقديري - التي تبعث الرغبة في نفوسنا هو الشعور بالأمان، وأعني كل أشكال الأمان، بالإضافة إلى احتياج آخر نراه جلياً عند الأشخاص العاطفيين، وهو الحاجة إلى رعاية الآخرين والاعتناء بهم، فالعطاء بالنسبة لهؤلاء يخلق فيهم شعوراً بالرضا وكأنهم يحلقون في السماء. ولا يمكن إغفال حاجة المرء إلى التقدير والاحترام، والحاجة إلى الانتماء، والراحة التي ينعم بها لوجود ركن آمن في حياته!
والحقيقة المثيرة هنا، أن هذه الاحتياجات النفسية يلبيها المرء بشكل متوازن من كل أفراد بيئته وليس من شريكه العاطفي فقط، فإذا وجد شريكاً عاطفياً مناسباً فلن يتعلق به إلى حد الجنون. ولكن، إذا عاش المرء في بيئة سامة، وكان محاطاً بالحمقى، سيحمل شريكه العاطفي مسؤولية تلبية هذه الاحتياجات التي فشل جميع المحيطين به في تلبيتها، وهو ما يفسر حالات التعلق الشديد ونفور الشريك الذي لن يطيق حمل هذه الجبال، والصدمة التي تنزل على المرء بعد انتهاء العلاقة.
يكتسب المرء فهماً عميقاً لمشاعره واحتياجاته بعد توالي الصدمات مما يدفعه إلى تدوينها على ورقة بيضاء بذات الطريقة التي يدون فيها حاجياته من البقالة، ثم دراسة الأشخاص الذين يحيطون به جيداً وتوزيع محتويات الورقة – والتي تمثل احتياجاته - عليهم بما يحقق له نوعاً من التوازن ودون أن يحمل أحدهم ما يفوق طاقته ويفقده إلى الأبد.
قد تشعر بالذعر عندما تكتشف أنك متعلق بشريكك العاطفي ولكنه لا يلبي أي احتياج من الاحتياجات السابقة، فما تفسير ذلك؟ قد تكون رغبتك العميقة في تعويض النقص العاطفي الذي عانيت منه في الماضي، وقد تكون وسيلة للهروب من واقعك المرير، وقد يكون إسقاطاً عاطفياً حين تجد في شريكك الحالي ما افتقدته في شريكك القديم الذي رحل بلا عودة، وقد يكون اختيارك وفقاً لنمط شبيه لشركائك السابقين، فإذا اعتدت مواعدة النساء الأكبر منك سناً، أو الفتيات اللواتي يقرأن الكتب بشراهة، فلن تختلف شريكتك القادمة عن سابقاتها!
إن فهم الاحتياجات التي قد نحصل عليها من الشريك واضطرابات التعلق التي تظهر عند عدم تلبية هذه الاحتياجات، يوفر إجابات عن الأسئلة المحيرة وتفسيرات واضحة للمواقف التي تتعرض لها أنت شريكك العاطفي في العلاقة، وتمنحك فهماً عميقاً للعلاقة ومستقبلها!
والآن، لننتقل إلى الإجابة عن السؤال الأخير، فهل يوجد حب بلا جنس؟ قد يكتفي الشريكان بتلبية الاحتياجات العاطفية، وتكمن معضلة الجنس بأنه احتياج عاطفي أيضاً، ومع ذلك، يمكن أن يسير مركب العلاقة بالاحتياجات العاطفية فقط لفترة أطول ولكنه في نهاية المطاف سيصطدم في جبل الثلج لا محالة!