

حق العودة إلى حلب
اقتحم عشرات الآلاف من قوات المعارضة مدينة حلب، وتوجهت أنظار العالم إلى تلك المدينة العتيقة التي وطأتها الحرب وأصبحت برلين القرن الواحد والعشرين، إذ سيطرت قوات المعارضة على نصفها الشرقي واستطاع النظام السابق صد الهجوم والتمركز في نصفها الغربي.
امتلكت من الشجاعة والحمق ما دفعني إلى البقاء في منزلي الذي يقع في أقصى غرب المدينة، لمواصلة دراستي في الجامعة التي كانت لحسن الحظ في النصف الغربي من المدينة، فالنزوح إلى النصف الشرقي من المدينة يعني ترك الجامعة إلى الأبد، وأن المنزل سيستباح ويسرق بالكامل هذا إذا لم يصبح منصة لتثبيت الأسلحة الثقيلة والمتوسطة.
يلي منزلي من جهة الغرب ريف حلب الذي يقع تحت سيطرة قوات المعارضة، وهذا يعني أننا نقع بين حجري رحى؛ النصف الشرقي من المدينة، وريفها.
تشرين الثاني 2013
دب الذعر في الحي، أقف على الشرفة أرقب الناس وهم يحملون ما خف حمله وغلا ثمنه ويتركون بيوتهم إلى مصيرها المجهول.
وبعد أن رحلت مجموعة من سكان الحي، توضأت وتوجهت إلى مسجد الحي لأداء صلاة الجمعة، اعتدت كل يوم جمعة أن أتوجه إلى المسجد قبل إقامة الصلاة بدقائق، فقد حفظت الخطب التي يكررها الخطباء الذين غفلوا عن الهدف الاجتماعي لصلاة الجمعة وحولوا هذه العبادة إلى طقوس روتينية.
سألني ابن خالتي الذي أقام في منزلي بعد أن خسر منزله في حلب الشرقية عن خطبة اليوم فأجبته بأنها عن عام الفيل فنحن في شهر محرم وقد يتطرق الخطيب إلى الحديث عن تحريم القتال في هذا الشهر، وما إن دخلنا حتى وجدنا خطيباً يلبس ثياباً نظيفة وفخمة، تشبه ثياب رجال الدين الذين كانوا يحضرون في المناسبات الدينية مع المسؤولين.
جلسنا، ثم نظرنا إلى الخطيب الذي قال: "وجاء أبرهة بجيش جرار من الفيلة" فنظرت إلى ابن خالتي وغمزته ثم توجهت بنظري إلى الخطيب الذي واصل الحديث عن الحادثة وبدا لي أنه لا يتقن فن الخطابة إذ لا يعرف أمثال هؤلاء إلا التطبيل للحكام.
"اقترب الفيل من عبد المطلب ثم خرّ ساجداً من نور سطع من جبين عبد المطلب" وما إن قالها حتى شهقت من شطحة الخطيب فنظر إلي المصلين وهم بين غاضب ومندهش، أطرقت رأسي وكتمت ضحكة لو تفلتت لضربني المصلون حتى الإغماء.
انتهت الصلاة ثم خرجنا من المسجد لنجد سيارة فارهة تنتظر الخطيب، وقد تأكد لي ما اعتقدته منذ رأيت ذلك الوغد، وعدت إلى منزلي والأفكار تعبث بعقلي!
نيسان 2014
وصلت تعزيزات قوات النظام السابق إلى الحي لصد هجوم كاسح لقوات المعارضة من جهة الريف، وقد حان وقت الرحيل، تفقدت غرفتي فلم أجد ما خف حمله وغلا ثمنه، فحملت كتبي وخرجت مع أمي وأخي إلى بيت خالي في حي الأعظمية القريب من الجامعة والبعيد عن نيران معركة الريف.
كنت على يقين بأنني لن أعود إلى منزلي ثانية، مضت الأيام وتخرجت من الجامعة ثم سافرت إلى العاصمة بحثاً عن عمل، وتركت مدينتي لمصيرها الذي لا يعلمه إلا الله، فأخذتني العاصمة والتهمتني كما التهمت كل طريد يأتي إليها. ومرت السنوات، ووضعت الحرب أوزارها في المدينة، واستعاد النظام السابق سيطرته عليها بعد إجلاء مقاتلي المعارضة إلى مدينة إدلب.
شباط 2020
أمشي في شوارع العاصمة التي بدأت ذاكرتي الهشة بحفظ دروبها، وأضع يدي في جيوب سترتي وأمسك سيجارتي بأسناني التي ترتجف من البرد، وأحدث نفسي بحديث الوهم كل يوم؛ حق العودة إلى حلب وإعادة بناء منزلي الذي سُرق بالكامل وتهدمت أركانه، وأكذب على نفسي وأصدقها ثم أؤكد لها بأنني لا أحتاج إلى توطيد العلاقات في هذه المدينة، سأعود يوماً ما!
أدركت فجأة أنه قد مضى على يومي الأخير في حلب خمسة أعوام، لم أشعر بالخوف عندما شعرت بسرعة الزمن بقدر ذلك الخوف الذي تملكني حين لاحظت أنني قد حفظت وجوه المارة والباعة وشرطة المرور!
شباط 2025
أطلقت البلاد زفيرها الأخير ولفظت فيه نظام الحكم الذي جثم على صدور الناس لخمسة عقود، تحدثني نفسي بالعودة إلى حلب التي أصبحت غريبة أكثر من العاصمة، فإن امتلكت المال لإصلاح منزلي فمن سيعيد لي وجوه الراحلين؟
لقد طردتني الحرب من مدينتي حين شمرت عن ساقها ولكنها عجزت عن إعادتي إليها حين وضعت أوزارها.
إحدى عشرة سنة كانت كافية لتقبل فكرة أن حلب قد أصبحت جزءاً من ماضٍ لن يعود. لكن في أعماقي، هناك شيء ما لا يزال يرفض أن يستسلم. شيء ما يصر على أن حلب ليست مجرد مدينة، بل هي جزء من هويتي، جزء من روحي. ربما لن أعود أبداً إلى تلك المدينة التي كانت مليئة بالحياة والأصوات والوجوه المألوفة إذ أنها اختفت، وحلت محلها مدينة جديدة، مختلفة، وغريبة، لكنني سأحملها معي أينما ذهبت، سأحمل ذكرياتها، وأحلامها، وآمالها، سأحملها في قلبي، إلى الأبد!