جلسات طبيب نفسي «الجزء الأول»
هذه خامس عيادة طب نفسي أزورها، ولكنها أول عيادة أعود إليها بعد الزيارة الأولى، إنني متحمس جداً لزيارتي الثانية فهذه الطبيبة تختلف عن أقرانها الذين زرتهم سابقاً. كان الطبيب الأول رجلاً متديناً وسألني بضع أسئلة عن طفولتي ثم أخبرني بعد تقييم الإجابات بأنني عشت طفولة مضطربة دفعتني إلى التمرد على كل القوانين، فأنا وفق تشخيصه مريض باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع! استمعت بهدوء شديد إلى هرائه ثم سألته سؤالاً واحداً أفقده توازنه: "هل تعتقد أن معاداة مجتمع كهذا المجتمع هو اضطراب حقاً؟" وكان هذا آخر عهدي به.
أما الطبيب الثاني فهو شاب حديث التخرج، وحين سألني عن تجاربي السابقة في العلاج النفسي أخبرني بفخر أن الطبيب الأول أستاذه في المهنة، وحثني على الذهاب إلى المسجد فالمؤمن وفق اعتقاده لا يصيبه مرض نفسي! أجبت عن أسئلته بإجابات مختصرة لإنهاء الجلسة بسرعة وخرجت من العيادة بلا عودة!
ولا يقل الطبيب الثالث حماقة عن الطبيبين الأول والثاني، إذ حدثني لساعة كاملة عن قانون الجذب فالتعاسة التي يشعر بها المرء في هذه البلاد ليست بسبب الأنظمة السياسية أو المجتمعية ولكنها بسبب التفكير السلبي، ويجب على المرء أن يقف كل يوم أمام المرآة ويردد العبارات الإيجابية لبرمجة عقله الباطن والتخلص من الطاقة السلبية.
نظرت إليه هازئاً وهو يحدثني عن قانون الجذب فتوقف عن حديثه ثم سألني: "أظنك لم تفهم قانون الجذب، فهل هذا هو سبب صمتك؟"
أجبته بهدوء: "افترض أنني في بركة من الوحل، هل سيخرجني قانون الجذب منها؟ هل سيجلب لي صابونة وماءً نظيفاً للتطهر من رجسها؟"
اعتدل الطبيب في جلسته وقال: "لست هذا ما أعنيه، فقانون الجذب سيجعلك أكثر إيجابية وتفاؤلاً"
وعلى الرغم من الكمد الذي كنت فيه إلا أنني لم أستطع تمالك نفسي فأطلقت ضحكة كبيرة وقلت له: "الآن قد فهمت قانون الجذب، إنه لن يجلب الصابون والماء النظيف، ولكنه سيجعل بركة الوحل أكثر جاذبية في نظري، وكل ما عليّ فعله ترديد العبارات الإيجابية"
أمسك الطبيب ورقة لكتابة الوصفة الطبية، أما أنا فقد توجهت إلى المرآة ووقفت أمامها مردداً: "لا يوجد بطالة في مجتمعنا، فهناك وفرة في الوظائف. لا توجد معتقلات في بلادنا، وإنما تجمعنا الحكومة في سجون تحت الأرض لتحمينا من البرد والحر، نتعارف فيها ونجتمع، عملاً بقوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا". لا يوجد احتكار في أسواقنا، وإنما .."
قاطعني الطبيب وأعطاني الوصفة الطبية ثم قال: "واظب لمدة شهرين على الدواء ثم اتصل بالمعالج النفسي على هذا الرقم في أسفل الوصفة لتبدأ معه العلاج السلوكي. انتهت الزيارة".
أخذت الوصفة من يد الطبيب وقلت ساخراً: "كن إيجابياً ولا تقل وصفة طبية، وإنما هي مواد كيميائية تعدل المزاج وتحسن صحة العقل فيجذب الوفرة والسعادة والحب!"
دفعني الطبيب إلى باب العيادة وقال بحنق: "ناشدتك الله أن ترحل!"
أجبته وهو يدفعني نحو الباب: "لا تتفوه بالكلمات السلبية! لا تقل ارحل، قل راجعني بعد شهرين. كم تكلفة المعاينة؟ سأدفعها لك الآن لتشعر بالوفرة."
فقال بعصبية: " لا أريد منك شيئاً ولا ترجع أبداً، عليك اللعنة" ثم أغلق الباب بقوة.
زرت الطبيب الرابع الذي كان يشبه فرويد كثيراً، أصلع الرأس يلبس نظارة طبية دائرية وذو سكسوكة كثيفة ويحمل بيده غليوناً. ألقيت التحية ثم سألته ساخراً: "هل تعاني من سرطان بالفك؟" أجاب بالنفي ثم نظر إلي مبتسماً فشعرت بالنشوة لأن دعاباتي السمجة قد راقت لأحدهم ولو كان طبيبي الذي يعالج اضطراباتي النفسية. توجهت إلى السرير واستلقيت ثم أغمضت عيني وقلت له: "هاشم، العمر 33 عاماً، عاطل عن العمل، سل ما تشاء عن طفولتي ثم اطلب مني تناول مضاد اكتئاب مرتين يومياً وحبة مهدئ قبل النوم بساعة".
ضحك الطبيب بصوت مرتفع وقال: "لن يختلف حالك عن المرضى السابقين، طفولة بائسة، وحاضر مرير ومستقبل مجهول" ثم كتب على الوصفة الطبية "اكتئاب فوق المتوسط ودون الشديد" وكتب أسماء الأدوية ثم ناولني الوصفة الطبية قائلاً: "واظب على الدواء لمدة .." فقاطعته قائلاً: "شهرين ثم أعود إليك، شكراً لك" وما إن خرجت من العيادة حتى ألقيت الوصفة في سلة المهملات.
أطلقت سعاد؛ الطبيبة الخامسة، ضحكة طويلة بعد أن سردت لها تجاربي السابقة في العلاج النفسي، وسألتني: "وما حملك على زيارتي؟ فما أنا إلا طبيبة كهؤلاء ولن تختلف طريقتي عن طريقتهم"
أجبتها قائلاً: "لا أنكر على هؤلاء الحمقى صحة أقوالهم ولكنهم شطحوا فيها، فطفولتي البائسة جعلتني أكره القوانين والأنظمة، كما أن تفكيري التشاؤمي جزء أصيل من تعاستي ولكن هذه الحقيقة لا تعني غض الطرف عن بركة الوحل التي نغطس فيها كل يوم! وأما الاكتئاب فهو مرض العصر وكلنا نعاني من ويلاته"
تأملتني سعاد مبتسمة ولم تعقب وكأنها تنتظر ردأ على سؤالها، فواصلت الحديث قائلاً: "إن الاضطرابات النفسية لها جذور عاطفية وآثار عميقة على النفس البشرية ولا يمكن التعامل معها كالأمراض العضوية إذ تتطلب ذكاء عاطفياً، وقد فكرت ملياً ثم خلصت إلى أن زيارة طبيبة نفسية بدلاً من طبيب نفسي قد يحقق هذه الغاية؛ فالنساء أذكى عاطفياً من الرجال، وهذا ما وجدته في زيارتي الأولى وهو ما حملني على الزيارة الثانية!"
رفعت سعاد سماعة الهاتف وقالت بلطف: "من فضلك يا سوسن، أحضري لنا فنجان قهوة سادة وصحن سجائر". ثم وضعت السماعة وقالت لي بنبرتها الدافئة: "لنبدأ الجلسة يا هاشم، إنني أنصت إليك، فحدثني".