جلسات طبيب نفسي – الجزء الثاني
أدرك أن الدهر يومان؛ يوم للمرء ويوم عليه، وأشعر بسرعة الوقت الذي يمر كلمح البصر، لقد عرفت أنظمة الحياة وقوانينها، فكل محب سيفارِق ويفارَق، والأحوال في تقلب والناس في تبدل، ثم يزول صخب الحياة وضجيجها ليجد المرء نفسه وحيداً في غرفته يصارع جدرانها التي تضيق عليه ليلاً وتوشك أن تهوي عليه وتدفنه حيّاً.
لا أدعي الحكمة، ولكنني تعلمت تفسير المواقف وكشف زيف البدايات وتوقع النهايات لدرجة أنني لا أشعر بالدهشة إلا ما ندر.
أجيد إخفاء حماقتي وانفعالاتي، أرى خلف الوجوه المبتسمة وجوهاً أُخرى، وأشعر بما يدور في صدورهم من مشاعر، وأعرف ما ترسخ في عقولهم من أفكار وقناعات ومعتقدات وتحيزات.
وبقدر ما أدرك هذا كله في يقظتي، أنكره في أحلامي التي يختلقها عقلي بدلاً من واقع لا أريده.
نفض هاشم رماد السيجارة في صحن السجائر ثم أطلق زفيراً طويلاً وانعقد لسانه، إذ استحضر عقله كل تلك الأحلام المحفورة في الذاكرة فتزاحمت مع ذكريات الماضي.
كانت يداه ترتجفان وهو يمسك بسيجارته التي أصبح رمادها يتساقط ببطء. أما سعاد فكانت تراقب كل حركة وكل كلمة عن كثب، وتنظر إلى عينيه الحائرتين وكأنها تحاول اختراقهما لمشاهدة المعارك التي تدور رحاها في عقله.
تنهد هاشم ثم قال بصوت خافت: "في كل مرة أذهب بها إلى غرفة النوم أشعر بأنني سأحلق في طائرة لا أعرف وجهتها ولكنها ستأخذني بعيداً عن هذا الواقع. إن أحلامي ليست مجرد صور عابرة تمر في عقلي أثناء النوم، بل هي عالم آخر لا سلطان للزمان فيه، أسافر إليه كل ليلة وأعود منه فجراً. أرى فيه كل من رحلوا؛ أبي وأمي، أصدقائي الذين أخذتهم الدنيا مني عنوة، وحبي الأول، وبيت العائلة الذي دمرته الحرب، وفي كل مرة أستيقظ فيها من حلم، أجد نفسي غارقاً في تفاصيله كأنني عشتُه حقاً، أشعر وكأنني أملك ذاكرتين، واحدة للذكريات الحقيقية والثانية للأحلام".
قالت سعاد: "تسمى هذه الحالة بالذاكرة الزائفة، يحاول عقلك بناء واقع بديل عن طريق الأحلام، ربما لأنه يجد صعوبة في قبول الواقع الحقيقي. ولكن في الوقت نفسه، من الجيد أنك قادر على التمييز بين الذكريات الحقيقية وتلك التي تراها في أحلامك."
قال هاشم: "وهذا ما أخشاه وأتوق إليه في آن! إنني أعي عالمي الحقيقي وأخاف أن أنفصل عنه، وفي ذات الوقت، أنكره وأهرب منه إلى عالمي الآخرالذي أعيش فيه حياة لا أريد أن أفقدها."
أستطيع مناظرتك في تجربتي وأوجاعها بطريقة فلسفية أو علمية أو نفسية، ولكنني قد خضت هذه النقاشات العميقة كثيراً مع نفسي ومع الآخرين، ولا أريد ذلك الآن. هبي أنك تنظرين إلى طفل يرسم بيديه الصغيرتين ما يجول في مخيلته، ثم فرغ من الرسم ونظر إلى ما صنعت يداه بعين السرور، فلو تقدمتِ إليه ومزقتِ رسمته، فماذا ستصنعين حين يستشيط غضباً؟ هل سيقبل مبرراتك؟ إنني هذا الطفل!
لقد استغرقت سنوات طويلة في محاولة فهم دوافع الآخرين، فما الذي حملهم على تمزيق رسمتي؟ وما السبيل إلى استعادتها؟ جرّدوا سيوفهم على أشيائي الجميلة وأنا ذلك الطفل الصغير الأعزل لا أقدر على خوض غمار هذه الحرب الظالمة، ألا تبت أيديهم!
استمر هاشم في التحديق في رماد سيجارته المتساقط، وكأنه يرى في كل ذرة رماد لحظة من حياته تتبخر. كانت عيناه تسبحان في بحر من الذكريات والأحلام، بينما كانت سعاد تلتقط أنفاسها بترقب، وكأنها تنتظر أن ينهار العالم من حولهما في أي لحظة.
قال هاشم بصوت يكاد يكون همساً: "أتعلمين، أحياناً أتمنى أن أستيقظ يوماً لأجد أن كل هذا كان حلماً، أن أفتح عيني وأرى أن الحرب لم تحدث، وأن كل من أحببتهم ما زالوا هنا، وأنني لم أفقد شيئاً. ولكنني أعلم أن هذا مستحيل. لكنني أيضاً أخشى أن أستيقظ وأجد أن كل هذا كان حقيقة، وأن أحلامي هي الوهم الوحيد الذي يبقيني على قيد الحياة."
نظرت سعاد إليه بعينين مليئتين بالشفقة والحيرة. كانت تريد أن تقول شيئاً، لكن الكلمات لم تكن كافية، فتنهدت ثم مدت يدها بلطف نحو يده المرتجفة، وكأنها تحاول أن تمسك بشيء من عالمه الذي يتهاوى.
ابتسم هاشم ابتسامةً حزينة، ثم أطفأ سيجارته في صحن السجائر، وقال: "ولكن ماذا لو استيقظت يوماً ولم أستطع التمييز بين العالمين؟ ماذا لو أصبح الحلم هو الواقع، والواقع هو الحلم؟"
لم تجب سعاد، فقط استمرت في النظر إليه، وكأنها تبحث عن إجابة في عينيه الحائرتين.
توجه هاشم ببطئ نحو النافذة، حيث كان العالم الخارجي يبدو ضبابياً تحت ضوء القمر الخافت. قال وهو ينظر إلى الأفق: "ربما يكون الحل هو ألا نحاول التمييز بينهما. ربما يكون الحلم والواقع وجهين لعملة واحدة، ونحن فقط من نقرر أي الوجهين نريد أن نعيشه."
ساد الصمت مرة أخرى، ولكن هذه المرة كان صمتاً مختلفاً، صمتاً مليئاً بالأسئلة المحيرة التي لا إجابة لها.
أدار هاشم ظهره للنافذة، ونظر إلى سعاد بعينين تبدوان أكثر هدوءاً ثم قال "شكراً لكِ، لأنكِ كنتِ هنا."
تنهد للحظات ثم قال مبتسماً: "قفي ودعيني يا سعاد بنظرة.. قد حان منا يا سعاد رحيل!".
قالت سعاد ضاحكة: "إنها القصيدة الرائعة لعبد القادر الأسود!" ثم نظرت إليه بعينين دافئتين، وكأنها تريد أن تقول الكثير ولكنها اختارت الصمت. ربما لأن الكلمات أحياناً لا تستطيع أن تحمل كل ما نشعر به. همست: "أنت لست وحيداً، هاشم... ولن تكون أبداً. أحلامك، ذكرياتك، آلامك... كلها جزء منك، ولا يجب أن تخاف منها. ربما تكون هي الجسر الذي يعيدك إلى نفسك يوماً ما."
أدار هاشم وجهه نحو النافذة مرة أخرى، تنهد وقال: "قد تكون أحلامي جسراً، أو ربما مرآة تعكس ما بداخلي. لكنني الآن أريد أن أتعلم كيف أمشي على هذا الجسر دون خوف."
أخذ خطواته ببطء نحو الباب، ثم توقف للحظة، وكأنه يريد أن يقول شيئاً أخيراً، لكنه قرر أن يترك الكلمات تذهب مع الريح. ابتسم ابتسامة خفيفة، ثم فتح الباب وخرج.
وقفت سعاد وحيدة في الغرفة، تنظر إلى الباب المغلق، وكأنها تحاول أن تفهم ما حدث بالضبط. كانت تشعر بأن هاشم قد ترك شيئاً ما خلفه، شيئاً لم تستطع أن تمسكه أو تعبر عنه. رماد سيجارته الأخيرة ما يزال دافئاً في الصحن، وكأنه تذكير بوجوده الذي اختفى فجأة.
بعد لحظات، دخلت سوسن الغرفة، حاملة معها كوباً من الشاي. نظرت إلى سعاد، ثم إلى الصحن الفارغ. قالت بلهجة لطيفة: "لقد غادر، أليس كذلك؟"
هزت سعاد رأسها بالإيجاب، ثم قالت: "نعم، لقد غادر. وأشعر بأنه لن يعود هذه المرة."
وضعت سوسن كوب الشاي على الطاولة، ثم جلست بجانب سعاد وقالت: "هل تعتقدين أنه سيكون بخير؟"
نظرت سعاد إلى سوسن، ثم قالت: "لا أعرف، لكنني أعتقد أنه كان بحاجة إلى أن يغادر. كان يحمل الكثير من الألم، وأحياناً... أحياناً يكون الهروب هو الطريقة الوحيدة لمواجهة الأشياء."
أطرقت سوسن برأسها، ثم قالت: "لكننا كنا هنا لنساعده. ألم يكن يعرف ذلك؟"
ابتسمت سعاد ابتسامة حزينة، ثم قالت: "بلى، ولكن المساعدة ليست دائماً كافية. على المرء أن يواجه شياطينه بمفرده. يعيش هاشم صراعاً بين عالمين: عالم الواقع الذي يرفضه، وعالم الأحلام الذي يهرب إليه. وأخيراً، قرر أن يجد طريقه الخاص بينهما."
ساد الصمت بينهما لبعض الوقت، ثم حملت سوسن منفضة السجائر الممتلئة وقالت: "هل تريدين أن أضع ملفه في الأرشيف؟"
هزت سعاد رأسها وقالت: "نعم، ضعيه في الأرشيف. لن نحتاج إليه بعد الآن."
خرجت سوسن من الغرفة، تاركة سعاد وحيدة مع أفكارها. نظرت سعاد إلى النافذة، حيث كان العالم الخارجي يبدو هادئاً تحت ضوء القمر الخافت. كانت تشعر بأن شيئاً ما قد انتهى، لكنها كانت تعرف أيضاً أن كل نهاية هي بداية لشيء جديد.