الثلاثاء ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

بساط الريح

في أواخر عام 2011م، فقد صديقي أوراقه الثبوتية أثناء عودته من ليبيا إلى البلاد، وطلب مني مرافقته إلى أحد أقسام الشرطة في مدينة حلب كشاهد على طلب استخراج أوراق ثبوتية جديدة، إذ يجب وجود شاهدين لتقديم الطلب.
جلسنا نحن الثلاثة، أنا وصديقي والشاهد الآخر قبالة المساعد للإجابة عن الأسئلة التي طرحها علينا، وبعد عدة دقائق دخل علينا مساعد آخر ضخم الجثة، ألقى التحية على زميله ثم سأله ضاحكاً: "أخبرني يا حسن، ما قصة ذلك الشاب في الزنزانة الثالثة؟ لم أستطع النوم البارحة فصياحه قد ملأ أرجاء حلب!"

ضحك حسن ثم أجابه قائلاً: "لقد أخذته في رحلة طويلة على بساط الريح، وإني أدعوك إلى أن تفعل مثلي اليوم يا عامر"
ظهرت علامات الدهشة على وجه عامر ثم قال: "وما الذي فعله هذا الشاب ليستحق ذلك؟"

قطّب حسن حاجبيه ثم أغلق الدفتر بقوة وقال بحزم: "أبلغنا وجهاء الحي بأنه اعتدى على والديه وضربهما ضرباً مبرحاً، وما كان بساط الريح إلا تأديباً له ورادعاً لأمثاله!"

أشاح عامر بوجهه وقال بحنق: "العاق!"

ساد الصمت للحظات، ثم شعرت بدافع قوي للمشاركة في الحديث مخالفاً نهجي الذي أقمت عليه في الإنصات والاحتفاظ بآرائي وموافقة المتحدث في كل ما يقوله وخاصة مع الأشخاص الجدد، فقلت بهدوء: "يقع منزلي أقصى غرب المدينة، هل تستطيع أن تسمعني صياحه الليلة؟"

ضحك عامر وقال: "سأحمله على بساط الريح إلى عوالم أخرى لم يصلها إنس قبله ولا جن!"

التفت حسن إليّ وقال: "لم تنته قصة هذا العاق بعد، ألا ترغب بمعرفة ماذا صنع والداه؟"

نظرت إليه وعلى وجهي علامات الحيرة، ثم أجبت بنبرة هادئة: "حدثني".

تناول حسن سيجارة من علبة الحمراء الوطنية وأشعلها ثم نفث دخانها في الغرفة وأردف قائلاً: "جاء أبوه منذ ساعة، وكان حزيناً واجماً، وأعطاني حقيبة ثياب وبعض شطائر الجبنة وأخبرني بأن دموع أمه لم تتوقف على ابنها الذي لم يذق طعاماً منذ أن جئنا به إلى هنا."

تجول حسن في أرجاء الغرفة، وواصل حديثه قائلاً: "أخبرته بأنني لن أدخل لابنه طعاماً ولا شراباً إلا بالحد الذي يسد رمقه، وقد عزمت على تأديب هذا العاق، فعرضت عليه خيارين، إما أن يأخذ الحقيبة والشطائر وأن يعود راشداً إلى بيته، وإما أن يترك الشطائر اللذيذة لي". ثم وضع راحة يده على بطنه الكبيرة!

شعرت بالخشوع والإجلال عندما سمعت تتمة القصة، وأدركت حينها أن جوانب المرء الغريزية ليست كلها بدائية أو حيوانية كما يصفها علماء النفس. إننا في الواقع، نمتلك واحدة من أسمى الغرائز على الإطلاق، وهي غريزة مشتركة مع بقية المخلوقات، إنها غريزة الأبوة، وما أعظمها من غريزة! تجمع الأضداد في الإنسان، فهو رؤوف بطفله، متجبّر على كل من يريده بسوء! وكل الناس سواسية تحت مظلة هذه الغريزة، فالضعيف والقوي والطيب والشرير هم آباء بذات القدر، وأعتقد أن جميع الآباء في العالم لو خاضوا هذه التجربة لفعلوا ما فعله ذلك الأب!

أنهينا إجراءات الطلب وشكرنا المساعد ثم خرجنا من قسم الشرطة دون أن نعرف شيئاً عن مصير هذا الشاب العاق، فهل استطاع المساعد تأديبه حقاً؟ لا أعلم إن كان قد نجح في ذلك، ولكن ما أعلمه جيداً أن المساعد قد نجح في تأديبي وقدم لي درساً لن أنساه ما حييت!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى