الخميس ١٦ آب (أغسطس) ٢٠١٨
بقلم رامز محيي الدين علي

تأمُّلاتٌ في روايةِ «ثورة في جهنَّم»

الجزءُ الخامسُ من المقالةِ:

ثامناً- دورُ ميديوموس في إثارةِ الحربِ:

وفي الفصلِ الخامس من الرِّوايةِ تَستوي فينوموس على عرشِها بعد إنهاءِ حديثِها، ويقفُ بعلزبول ويطلبُ الاستماعَ إلى تقريرِ فيرومارس وزيرِ الحربِ، فتنهضُ فينوموس معترِضةً على ترتيبِ الأدوارِ في الحديثِ طالبةً سماعَ تقريرِ وزيرِ المواصلاتِ ميديوموس صاحبِ الحِنكةِ؛ لأنَّ مساعيَهُ الحميدةَ بين الجحيمِ والأرضِ كانت من أهمِّ العواملِ في إثارةِ الحروبِ البشريَّةِ.

فيتقدَّمُ ميديوموس، وهو يُثْني على فينوموس؛ لأنَّها أثارَتِ الشَّهواتِ، وتحكَّمَت بالرِّجالِ والنِّساءِ، إذْ كانتْ فنونُ النِّساءِ في فتنتِهنَّ عواصفَ تُثيرُ لُججَ نشاطِ الرِّجالِ اغتناماً للمالِ بأيِّ الوسائلِ؛ لكي يُقايِضَ الآدميُّونَ بذهبِهم الرَّنَّانِ جمالَ الحوَّاءاتِ الفتَّانِ، وبهذهِ المقايضةِ تتغذَّى شهواتُ الفريقينِ بلا شبعٍ.

ويشكرُ سيِّدتَه الموقَّرةَ، ويَعلُو الهتافُ والتَّصفيقُ لها... ويتابعُ ميديوموس ليوضِّحَ دورَه، فمُنذُ أن خرجَ أبو الإنسانِ من الفردوسِ، شرعَ الطَّمعُ يفعلُ فعلَهُ العجيبَ، شرعَ الرَّاجمُ يستغلُّ تعبَ المرجومِ بألفِ أسلوبٍ وأسلوبٍ، ومعظمُها يرجعُ إلى استخدامِ النَّعرةِ الدِّينيَّةِ للاستغلالِ، وباستخدامِ حميرِ المطامعِ ابتدأَ عملُه الحقيقيُّ في إثارةِ الحربِ.

ولنتأمَّلِ الحوارَ بين شخصيَّاتِ هذا الفصلِ؛ كي نتعرَّفَ الدَّورَ الهامَّ الذي قامَ به ميديوموس في إثارةِ الحربِ، من خلالِ استغلالِ المطامعِ البشريَّةِ في تنافسِ الجهَلةِ على اقتسامِ ملكوتِ السَّماءِ، وصراعِ الأبالسةِ من الحكَّامِ والكهَنةِ على تناهُبِ ملكوتِ الأرضِ.

 بعلزبول مقاطِعاً ميديوموس: هل تَعني أنَّكَ جعلتَ المطامعَ حميراً يمتَطِيها الطَّامعونَ؟

 ميديوموس: لا يا مولايَ، بل بالعكسِ، جعلتُ النَّاسَ حميراً تمتَطِيها المطامعُ، فكلُّ مطْمعٍ يستكِدُّ حمارَه بالمَوْكزِ في حلْبةِ الصِّراعِ لكي ينالَ القِسطَ الأوفرَ من الغنيمةِ!

فقدْ برعَ ميديوموس أيَّما براعةٍ في قلبِ ظهرِ المِجنِّ من خلالِ جعلِ الطَّامعينَ حميراً تمتَطِيهم المطامعُ، فيتسابقونَ لإحرازِ قصَبِ السَّبْقِ في اكتنازِ الثَّرواتِ، ويتصارعونَ فيما بينَهم؛ بغيةَ أنْ يستبدَّ كلٌّ منهم بالقسطِ الأعظمِ من الثَّروةِ!

فلنتأمَّلِ الحياةَ تأمُّلَ المفكِّرينَ العارفينَ تناقضاتِها وصراعاتِها وظلْمَها وعدمَ عدالتِها وانتفاءَ مساواتِها بينَ شرائحِ البشرِ؛ لندركَ وجهَ الحياةِ القبيحَ الذي رسمَ معالِمَ بشاعتِه هؤلاءِ الطَّامعونَ من الحكَّامِ والتُّجَّارِ والمقاوِلينَ والمتنفِّذينَ من السَّاسةِ والكهنةِ وحرَّاسِ نجومِ الأوطانِ الَّذينَ يقِفونَ بالمرصادِ لحمايةِ سماءِ الوطنِ من الشُّهب الَّتي تُفكِّرُ هُنيهةً في ملامسةِ ذرَّةٍ من ثَرى الوطنِ، بينما يتَّجهُ الجهَلةُ إلى السَّماءِ مُتضرِّعينَ مُتوسِّلينَ أنْ تُمطِرَهم ذرَّاتٍ من الألماسِ والإبريزِ، كما يتَّجهُ جهَلةُ الجهَلةِ إلى القبورِ متوسِّلينَ أن تقبلَ هداياهُم وعطاياهُم، فيَأتي أربابُهم من أبالسةِ الكهنوتِ، فيقطِفونَ الغِلالَ دونَما مشقَّةٍ، ويذهبونَ إلى حظائرِ السَّاسةِ لاقتِسامِها بالمُحاصَصةِ. فالأبالسةُ يقتسمونَ الأرضَ، والجُهلاءُ يتناهبونَ السَّماءَ، وأجهلُ الجاهلينَ يتنافسونَ لإرضاءِ القبورِ والعتباتِ المقدَّسةِ، فيصِحُّ فيهِم قولُ المتنبِّي: يا أمَّةً ضحِكَتْ من جهْلِها الأممُ!

الأثرياءُ حميرٌ تمتَطيهمُ المطامعُ، وتستكِدُّهم بالمَواكزِ في حلبَاتِ الصِّراعِ والتَّنافسِ، والجُهلاءُ تمتَطِيهمُ المطامعُ لحجزِ فنادقِهم ذاتِ النُّجومِ السَّماويَّةِ الغيرِ محدودةِ العددِ، وتستكدُّهم بالمواكزِ للوصولِ إلى مُستقرِّ الخلودِ، وجهَلةُ الجاهلينَ تمتَطِيهم مطامعُهم في عودةِ المغيَّبِ دهوراً إلى الحياةِ من أجلِ تصحيحِها وإعادتِها إلى مسارِها الصَّحيحِ!!

ونتابعُ الحوارَ المنطقيَّ الذي يستنضِحُ العقولَ، ويفجِّرُها أنهاراً تَفيضُ بالفكْرِ والأدلَّةِ المنطقيَّةِ، فكلامُ ميديوموس لم يُقنِعْ جستوس وزيرَ القضاءِ الّذي يعترضُهُ بالقولِ:

 هذا يكونُ في حالةِ الفوضَى، ولكنَّ حميرَكَ مارسُوا النِّظامَ حتَّى صارَ خلَّةً لهم، فكيفَ كنْتَ تُفسدُ نظامَهم؟

 فيُجيبُه ميديوموس: لم أُفسِدْ نظامَهم، بل على العكسِ كنتُ أُزيِّنُ لهُم حُسنَ النِّظامِ والانتظامِ في جماعاتٍ، لكي يتَصادمُوا جماعاتٍ لا أفراداً؛ لأنِّي لم أَقنعْ بالرِّبحِ القليلِ من" القِطاعِي" (المُفرَّق)، بل بالكسْبِ الوافرِ من الجُملةِ. وهكذا جعلتُ النِّظامَ بين الأفرادِ والفوضَى بين الجماعاتِ لهذهِ الغايةِ.

 وتتدخَّلُ فينوموس مُعجبَةً بهذا الدَّورِ: للهِ درُّكَ من سياسيٍّ محنَّكٍ، تستنبِطُ الفوضَى الكُبرى من الأنظمةِ الصُّغرى، إنَّك لَصانِعٌ معجزةً هي أغربُ من لُغزِ أبي الهَوْلِ، فكيف حلَلْتَ هذا الُّلغزَ؟
 فيُجيبُها ميديوموس: ضرْبةٌ واحدةٌ على المَقتَلِ يا سيِّدتِي حلَّتِ الُّلغزَ، ضرْبةٌ على الدِّماغِ حيثُ العقيدةُ. لقد ضربْتُ العقيدةَ ضربةً واحدةً فتفتَّتَتْ إلى عقائدَ، وبتفتُّتِها انقسمَتِ الأسرةُ الإنسانيةُ إلى أقوامٍ تزعَّمَ كلَّاً منها زعيمٌ، وكلُّ زعيمٍ يزعُمُ أنَّ عقيدتَه محْضُ الحقِّ والصَّوابِ والسِّراطِ المستقيمِ المُؤدِّي إلى الجنَّةِ، وبهذهِ الدَّعْوى أخذَ كلُّ زعيمٍ يستنفِرُ قومَهُ للجهادِ في سبيلِ العقيدةِ الّتي يَدينُونَ بها.

لقد كانَ لبَنِي آدمَ إلهٌ واحدٌ، ولكنَّهم بهذا الانقسامِ أصبحُوا ولهم آلهةٌ عديدةٌ حجبَتْ عنهم ذلكَ الإلهَ القويَّ الجبَّارَ، كما تحجُبُ السُّحبُ الشَّمسَ، الشَّمسُ تملأُ رحابَ الكونِ نوراً، ولكنَّ الذينَ تحتَ السُّحبِ لا يرونَها، بَيْدَ أنَّهم كانُوا يُغالِطونَ أنفُسَهم ظانِّينَ أنَّهم يرونَها، وما هُم راؤُونَ إلَّا أوهامَهم وغِيَّهمُ الّذي فيهِ يَعمَهُون.

وكان الملكوتُ السَّماويُّ ميراثَاً للنَّوعِ البشريِّ كلِّهِ، فلمَّا تفتَّتتِ الأسرةُ البشريَّةُ بتفتُّتِ عقيدتِها، صار كلُّ زعيمٍ يدَّعي الملكوتَ لقومِه وحدَهم، فراحَتِ الأقوامُ، وهي على الأرضِ، تتنازعُ مملكةَ السَّماءِ، ويُقاتِلُ بعضُها بعضاً لامتلاكِها، حتَّى إذا غلبَتْ أمَّةٌ أمَّةً أُخرى احتلَّتِ الملكوتَ، ونصبَتْ رايتَها فيه، وطردَتِ الأمَّةَ المغلوبةَ منهُ.

فالجنَّةُ التي أعدَّها اللُه في الَّسماءِ، وجعلَ الأنهارَ تَجرِي من تحتِها، واصْطَفى لها الأبرارَ من عبادِه، أنزلَها العبادُ إلى الأرضِ، وجعلُوها ساحاتٍ للوغَى تَجري فوقَها الدِّماءُ.

والملكوتُ السَّماويُّ الذي ملأَهُ اللهُ منازلَ لقِدِّيسيهِ، اغْتصبَهُ وُكلاؤُه الأرضيُّونَ المزعومُونَ، وعَرَضُوهُ للمُساومةِ في سوقِ البيعِ والشِّراءِ.

 فينوموس ضاحِكةً: أمَا قِيلَ كمَا في السَّماءِ كذلكَ على الأرضِ؟ وكانَ الأصْوبُ أنْ يُقالَ كما على الأرضِ كذلكَ في السَّماءِ.

 ميديوموس: لِكِلا القولينِ مفادٌ واحدٌ يا سيِّدتِي؛ لأنَّ تقسيمَ ملكوتِ السَّماواتِ حِصصاً للعبادِ أَلْهَى حميرَ العامَّةِ عن تقاسُمِ الخاصَّةِ الملكوتَ الأرضيَّ، ففيمَا كانَ وُكلاءُ اللهِ من كهَّانٍ وحكَّامٍ يتناهبُونَ أمتارَ الأرضِ، كان حميرُهم مُنهمِكينَ بتقاسُمِ أشبارِ السَّماءِ.

تأمَّلُوا معِي هذهِ المَقولةَ التي تَفيضُ بالحِكَمِ المنطقيَّةِ والواقعيَّةِ، وتأمَّلُوا معِي الأديانَ السَّماويَّةَ وما تَفرَّعَ منها مِن مذاهبَ ومِللٍ ونِحلٍ لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وكلٌّ منها يدَّعي أنَّه المِلَّةُ النَّاجيةُ من النَّارِ، الفائزةُ بنعيمِ الجنَّةِ، وراحَتْ كلُّ ملَّةٍ تُحاربُ الأخرياتِ في سبيلِ دخولِ النَّعيمِ بأتباعِها، دونَ أتباعِ المللِ الأُخرى، بينَما كان زعماءُ المللِ وأربابُ السَّاسةِ من خلفِهم يتناهبُون ثرواتِ الأرضِ، ولكنَّ هذا الحُكمَ ليسَ مُطلقاً يشملُ جميعَ المللِ والنِّحلِ وجُلَّ أربابِها، وإنَّما نجدُ مِن هؤلاءِ مَن كانَ عالِماً فقيهاً ورِعاً ينظِمُ الشِّعرَ، ويشتغلُ ورَّاقاً، ولم يملكْ سوى قوتِ يومِه، كما أنَّ بعضَهم حُكِمَ عليهِ بالموتِ؛ لأنَّهُ عالمٌ شريفٌ تقِيٌّ، جمعَ بينَ العقلِ والفكرِ والمنطقِ والنَّقلِ الموضوعيِّ!!

ولكنَّني حريصٌ الحرصَ كلَّهُ على سحبِ مفاهيمِ الرِّوايةِ إلى واقعٍ أليمٍ صنعَتْه زعاماتٌ دينيَّةٌ وسياسيَّةٌ من أجلِ مصالِحِها الذَّاتيَّةِ العفِنةِ الّتي ضربَتْ عُرضَ الحائطِ بمصالحِ الرَّعيَّةِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، فأفسدَتْ في الأرضِ، وشوَّهتْ تعاليمَ الأديانِ السَّمحةِ التي تدعُو إلى حرِّيَّةِ العقيدةِ وحرِّيَّةِ الإنسانِ ورِفعتِه، وتسخيرِ كلِّ ما في الأرضِ لخدمتِه؛ لأنَّه المخلوقُ الذي كرَّمَه خالقُه بالعقلِ القويمِ والِّلسانِ النَّاطقِ في أجملِ هيئةٍ بينَ سائرِ المخلوقاتِ، وبذلك أنزلُوا الجنَّةَ التي أعدَّها اللهُ في السَّماءِ، وجعلَ الأنهارَ تَجري من تحتِها، واصطفَى لها الأبرارَ من عبادِه، أنزلَها هؤلاءِ الأبالسةُ البشريُّونَ إلى الأرضِ، وجعلُوها ساحاتٍ للوغَى تَجري فوقَها الدِّماءُ.

لكنَّ زعماءَ السِّياسةِ والدِّينِ الّذينَ مارسُوا دورَ المستعمِرينَ في أوطانِهم لتقسيمِ شعوبِهم؛ حتَّى يستولُوا على البشرِ والشَّجرِ والحجرِ، هم مَن نهجَ منهجَ (فرِّقْ تسُدْ)؛ حتَّى يسودُوا البلادَ والعبادَ، ويسخِّرُوا كلَّ شيءٍ لمصالحِهم، هُم مَن اختلقَ الحروبَ، وصاغَ النِّزاعاتِ المذهبيَّةَ والدِّينيَّةَ... ولذلكَ كانَ كلُّ فردٍ من هؤلاءِ ميديوموس صاحبَ الحِنكةِ الذي ضربَ ضربتَه القاضيةَ في الرُّؤوسِ، حيثُ العقيدةُ التي تفتَّتَتْ إلى مذاهبَ متصارعةٍ ودياناتٍ متناقضةٍ، تحاربَتْ سنواتٍ وقروناً، وهذا ما عبَّرَ عنهُ فيلسوفُ الشُّعراءِ أبو العلاءِ المعرّيُّ واصفاً الصِّراعَ بين المسيحيَّةِ والإسلامِ في الَّلاذقيَّةِ إحدى المدنِ السُّوريَّةِ بقولِه:

في الَّلاذِقيــَّـــةِ فِتْنــــــةٌ
ما بيــــنَ أحمــــدَ والمسِيحْ
هـَـــذا بناقُـــوسٍ يـــدُقُّ
وذاكَ بمِئذَنــــــةٍ يَصيـــــحْ
كلٌّ يُعظِّــــمُ دينَـــــــــهُ
يا ليْتَ شِعْري مَا الصَّحيحْ؟

ويا ليتَ شِعْري مَا الصَّحيحُ في كلِّ عقيدةٍ تجزَّأتْ بالجُملةِ إلى فِرقٍ ومللٍ، ربَّما لم يسمعْ بها ميديوموس يومَ كتبَ نقولا حدَّاد روايتَه، فربَّما كانَ سيبحثُ عن أمهرِ أبناءِ ميديوموس؛ ليقومَ بالمَهمَّةِ الّتي يعجزُ عنها اليومَ أحذقُ الأبالسةِ، وربَّما استدركَ بعضُ القومِ دورَ الشَّيطانِ فعبدُوهُ، ويا ليتَنِي أدرِي أيَّ شيطانٍ اختارُوه؟! أبعلزبول كبيرُ الشَّياطينِ أمْ عقيلُتُه السيِّدةُ الأولى فينوموس أمْ فيرومارس أمْ جستوس أمْ ميديوموس؟! ولكنَّني أتوسَّدُ فلسفةَ شاعرِنا الكبيرِ أبي الطَّيِّبِ المتنبِّي وسادةً لفِكري كيْ يستريحَ من عناءِ البحثِ والتَّأمُّلِ في حكمتِه:
ذُو العقلِ يشْقَى في النَّعيمِ بعقلِهِ وأخُو الجهَالةِ في الشَّقاوةِ يَنْعمُ
ولنعُدْ بعدَ هذا الاستطرادِ والتَّحليلِ إلى ميدانِ الرِّوايةِ لقراءةِ ما يدورُ فيها من أحداثٍ، ومَا تتدفَّقُ فيها من أفكارٍ، فيتساءَلُ وزيرُ الحربِ فيرومارس:

 إذنْ ماذا نفعلُ حينَ تَمْحقُ حرارةُ شمسِ المعرفةِ سُحُبَ الغباوةِ فتنْجَلي الحقائقُ؟!

 فيُجيبُه ميديوموس: إنَّ زفْرةً واحدةً من أنفاسِي ملأَتِ الفضاءَ قَتَاماً، جعلَ أشعَّةَ الشَّمسِ الذَّهبيَّةَ حمراءَ كالدِّماءِ.

فيستَحسِنُ فيرومارس إجابتَه: للهِ درُّكَ، أمَا كانَ في وُسعِكَ أن تجعلَ ذلكَ القَتامَ كثيفاً يصُدُّ أشعَّةَ الشَّمسِ صدَّاً، ويُعيدُ الظُّلمةَ إلى سطحِ الأرضِ، فتَغيبُ المعرفةُ وتبقَى الغباوةُ.

 ويُتابعُ ميديوموس كلماتِهِ الحكيمةَ بالقولِ: متى ظهرَتِ المعرفةُ وانجلَتِ الحقائقُ، عندئذٍ لا تستطيعُ قوَّةٌ أنْ تُقْصِيَها عن فضاءِ العقولِ، فليسَ لي إلَّا أنْ أستخدمَ المعرفةَ نفسَها سلاحاً لي لا سلاحاً عليَّ.

احمرَّتْ صفحةُ الشَّمسِ غضباً لمَكرِ الّذينَ عاثُوا في الملكوتِ فساداً، وإذا أولئكَ الحميرُ العُميانُ قد انفتحَتْ أعيُنُهم، وجعلُوا يتبيَّنُونَ الملكوتَ في الكونِ، فإذا هم لا يَرَونَ ملكوتاً لا في السَّماءِ ولا في الأرضِ.

رصَدُوا الأكوانَ كلَّها، وإذا الملكوتُ الّذي منَّاهُم بهِ أسيادُهم وقادتُهم في الجهادِ، إنْ هوَ إلّا ظلُّهم يهربُ أمامَهم كلَّما أسْرعُوا وراءَهُ.

رصدُوا جنَّةَ السَّماءِ، فإذا هيَ قَصِيَّةٌ عنهم لا يبلُغُ إليها نورُ الشَّمسِ إلّا بعدَ ألوفِ ملايينِ السِّنينَ، وإذا جنَّةُ الأرضِ جرداءُ ليسَ فيها غرْسٌ للهناءِ، وإذا هم لا يملِكُون إلّا مساحةَ مترٍ مربَّعٍ سبقَهم الدُّودُ إليهِ.

وهُنا حدثَ ردُّ الفعلِ، فقد صارَ الاحترامُ احتقاراً، والعبادةُ تَجديفاً، والغيرةُ على الدِّينِ إلحاداً، والطَّاعةُ تمرُّداً، والجهادُ ثورةً.

 جستوس: للهِ منْها نفْخةٌ نفخْتَها يا أستاذُ، فأغضَبْتَ الشَّمسَ، إنَّ ذلكَ القتامَ الذي نفخْتَه لَسِرٌّ عجيبٌ.

 ميديوموس: ما هوَ سرٌّ يا عزيزِي الفيلسوفُ، إنْ هوَ إلّا دخانُ القلوبِ التي أحرقَتْها الشَّهواتُ النَّابتةُ من بذارِ سيِّدتِنا... إنَّ هذهِ الشَّهواتِ لهيَ المَعدنُ العجيبُ الذي نصنعُ منهُ أسلحتَنا كلَّها.
 فيرومارس: وكانَ المنتظَرُ أنْ تُقوِّضَ تلكَ الثَّورةُ ملكوتَ الإنسانِ على الأرضِ؛ لكي نَشيْدَ على أنقاضِهِ ملكوتَنا، ولكنْ خابَ الرَّجاءُ.

 ميديوموس: لم تكُنْ تلكَ الثَّورةُ لتقويضِ الملكوتِ الأرضيِّ، بل لتقويضِ المثلِ الأعلى الذي شُيِّدَ في قلبِ الإنسانِ وهو الملكوتُ السَّماويُّ؛ ولذلكَ وجَّهتُ الضَّربةَ إلى العُروشِ والكَرَاسي الّتي كانتْ أنْصاباً لهذا المثلِ الأعلَى. ولكنَّ البشرَ راحُوا يبحثُونَ عن مثلٍ أعلَى آخرَ.

 جستوس: طبعاً لم يعُدْ مِهْمازُ التَّحريضِ يستكِدُّ غيرةَ الدِّينِ للجهادِ، فكيفَ يُثيرُ الأسيادُ عبيدَهم للقتالِ في سبيلِ المَغانمِ؟

 ميديوموس:

لمَّا زَهدَتِ الأقوامُ في الملكوتِ السَّماويِّ صارَت تطمعُ بالملكوتِ الأرضيِّ، ولمَّا جابتْ شهوةُ النُّفوسِ ثارتْ شهوةُ البطونِ، فقامَ الفتحُ والاستِعمارُ مقامَ الغزوِ والسَّلبِ، وانتهزَ الزُّعماءُ اضمِحْلالَ المثَلِ الأعلَى، ونصبُوا بدلاً منهُ مثلاً أعلَى آخرَ، أقامُوا تِمثالَ الوطنِ مَقامَ تمثالِ الدِّينِ، أصبحَ الوطنُ دينَ النَّاسِ الجديدَ، وصارَ شِعارُهم" حبُّ الوطنِ من الإيمانِ". حلَّ الوطنُ محلَّ الإلهِ، وتحوَّلَ الجهادُ في سبيلِ الدِّينِ إلى جهادٍ في سبيلِ الوطنِ.

ارتفعَتْ رايةُ الوطنِ وانخفضَتْ راياتُ العقائدِ الدِّينيَّةِ، وصارَ تَرْنيمُ مُختلفِي العقائدِ: "الدِّينُ للهِ والوطنُ للجميعِ"، فتأبَّطَ اللهُ تَعالَى دينَهُ وتَوَارى غاضِباً، واحتَضنَ الوطنُ قومَهُ لكيْ يتَغذَّى بضحايَاهُم من غيرِ شَبعٍ.

خمدَتْ حروبُ الأديانِ، واحتدَمَتْ حروبُ الأوطانِ، وصارَتْ أناشيدُ الوطنِ "تَنازُعُ البقاءِ"، وترانيمُهُ "البقاءُ للأفضلِ" وأغانيهِ الحربيَّةُ "السِّيادةُ للسُّوبَّرْ مَانْ".

تَقيَّأَ الجنسُ البشريُّ "الملكوتَ السَّماويَّ" وهو يغُصُّ الآنَ بالملكوتِ الأرضِّي، ولم يبقَ لنا إلّا ركْلةٌ واحدةٌ لكيْ نُدحرِجَهُ من ملكوتِ سعادتِه إلى جحيمِ شقائِه الأبديِّ.

 فينوموس: أعلمُ أنَّ صاحبَ الحنكةِ ميديوموس أوجزَ ولم يشرحْ لنا تفاصيلَ عملِه.
 ميديوموس: كنتُ أعتمدُ دائماً في عملِي على سلاحِ الشَّهواتِ، ولم يبقَ من نُقَطِه الأساسيَّةِ غيرَ مشروحٍ سوَى نُقطةٍ واحدةٍ، وهي أنِّي كنتُ أُقيمُ من أمكرِ أهلِ الأرضِ سُفراءَ لنا يُنفِّذونَ دسائِسَنا؛ ولذلكَ أنشأْتُ نظامَ الجاسوسيَّةِ، ووكَّلتُ أمرَهُ لهؤلاءِ السُّفراءِ الّذين خدمُوا جهادَنا. وأذكُرُ أهمَّ هؤلاءِ الدُّهاةِ رسبوتين الرَّاهبِ الرُّوسيِّ... وأقدِّمُه لكم يا سيِّدي بعلزبول لمكافأَتِه!

 بعلزبول باسِطاً يدَهُ: مرْحَى مرْحَى يا عزيزِي رسبوتين، باسمِ دولةِ جهَّنمَ أشكرُك وأمنَحُكَ الجنسيَّةَ الجهنَّميَّةَ وأُرقِّيكَ إلى رُتبةِ رَجِيمٍ، وأُقلِّدُك حُسامَ الرَّجَامةِ، فأنتَ منذُ الآنَ في مَصفِّ الرُّجَماءِ، ولكَ جميعُ حقوقِ الرَّجَامةِ الجهنَّميَّةِ.

 فقبَّلَ رسبوتين يدَ بعلزبول ثمَّ يدَ زوجتِه فينوموس.

من الحوارِ السَّابقِ نلاحظُ أنَّ الكاتبَ نقولا حدَّاد استطاعَ بمعرفتِه الدَّقيقةِ بواقعِ الأممِ وتاريخِها الطَّويلِ في الصِّراعِ الدِّينيِّ الّذي أنهكَ البشريَّةَ باسمِ الملكوتِ السَّماويِّ الذي أنزلَهُ زعماءُ الأديانِ إلى الأرضِ، فاجتاحَتِ الحروبُ الدِّينيَّةُ والمذهبيَّةُ العالمَ ومن ورائِها المطامعُ السِّياسيَّةُ والاقتصاديَّةُ والاستعماريَّةُ، ولمَّا انتَهى عصرُ الزَّعاماتِ الدِّينيَّةِ وانهارَتْ أبراجُ الكهنوتِ الدِّينيِّ على الأرضِ، حلَّتْ محلَّها الزَّعاماتُ العسكريَّةُ والسِّياسيَّةُ، وظهرَ محلَّها الكهنوتُ الوطنيُّ والقوميُّ، وحصدَتْ تلكَ الحروبُ ملايينَ الأرواحِ البشريَّةِ، وراحَ طواغيتُ العالمِ يستنفِرُونَ العامَّةَ باسمِ الوطنِ، وحلَّ الإلهُ الزَّعيمُ الوطنيُّ محلَّ الرَّمزِ الدِّينيِّ المقدَّسِ، ولكيْ يتَّسِمَ الكهنوتُ الوطنيُّ الجديدُ بالقداسةِ، فقد بزغَ ثالوثُ الاستعبادِ الجديدِ بحلَّةٍ منمَّقةٍ تجمعُ بينَ الدِّينِ والسِّياسةِ، وهذا الثَّالوثُ يقومُ على ثلاثةِ أقانيمَ: "اللهُ، الوطنُ، القائدُ المُلهَمُ من السَّماءِ".. وكلُّ مَن يُخالفُ هذهِ الفلسفةَ الحديثةَ خائنٌ لوطنِه، عميلٌ للخارجِ مصيرُهُ زنزانةٌ منفرِدةٌ لا يَعلمُ بها بعلزبول كبيرُ الشَّياطينِ!!

كمَا ركَّزَتْ الرِّوايةُ على موضوعِ الجاسوسيَّةِ وأهميَّةِ الجواسيسِ في صناعةِ الحروبِ، ولكنَّ الجاسوسيَّةَ أضحَتِ اليومَ أخطرَ سلاحٍ بينَ دولِ العالمِ، وأصبحَتْ تمتلكُ أعظمَ التِّقنياتِ للتَّجسُّسِ على الشُّعوبِ والأفرادِ؛ لمعرفةِ الوطنيِّ من الَّلا وطنِي... والمستقبلُ القادمُ أخطرُ ممَّا يتخيَّله عاقلٌ!!

وقد كانَ هذا الفصلُ من الرِّوايةِ غنيَّاً بالتَّفاصيلِ المتعلِّقةِ بالصِّراعاتِ الدِّينيَّةِ والمذهبيَّةِ، كما كان مُفْعماً بالأدلَّةِ العلميَّةِ التي تُظهِرُ أوهامَ الكثيرِ من الفكرِ الَّلاهوتيِّ الذي أنهكَ البشريَّةَ، وبعدَ تساقطِ أهراماتِ الَّلاهوتِ، حلَّتْ محلَّها أبراجُ الطَّاغوتِ الوطنيِّ والرَّمزِ القوميِّ على نحوِ ما بيَّنَ ميديوموس وزيرُ المُواصلاتِ، واندثرَتْ روايةُ الشَّهادةِ في سبيلِ اللهِ، لتحُلَّ محلَّها أسطورةُ النِّضالِ الوطنيِّ والدِّفاعِ عنِ الوطنِ، وأضحى كلُّ قتيلٍ في سبيلِ الوطنِ شهيداً حتَّى ولو كانَ مجرِماً يقتلُ شعبَهُ ويسْطُو على ممتلكاتِهم أو جاسوساً قَذِراً على أبناءِ جلدتِه!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى