تباطح الحضارات
تلك الحارة القديمة -حارتنا - لا ريب فيها الأسى يلف الناس والبيوت من كل حدب وصوب، والحارة لها هويتها التي تميزها عن الحارات الآخرى (أي الحارة القطرية إذا أردنا أن "نثقّف" المسألة،).
الشجار بين الحارات سمة أساسية وصفة مؤكدة للعلاقات المتشابكة بالحارات الآخرى، إضافة إلى شجارنا اليومي والعنيف نحن أولاد الحارة الواحدة مع بعضنا البعض، وكان الشعار في حارتنا على وجه الخصوص ذلك الامتداد العربي القديم لثقافتنا الضاربة في الشعر (من لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم ومن لا يضرب الأولاد يضرب) وظل الشجار يقع أيضا بين نسوة الحي وشبابه بين حين وآخر.
لكن أجمل الأوقات التي يكون للشجار فيها معنى جليلا وهدفا نبيلا ويظهر عّقد القطرية والعنصرية في نفوسنا كانت عندما يقع اعتداء ما على أحد أولاد الحارة من حارة آخرى شقيقة أو صديقة أو مجاورة اومعادية.
هنالك كان التجييش والحماسة وجمع المقاتلين يأخذ معنى حماسيا خطيرا، كيف ضربه أحد أولاد الحارة (الفوقانية)،، (كيف؟ اتجمع عليه عشرين ولد ونهنهوه) نهنهوه أي أرهقوه من شدة الضرب حتى شارف على الموت.
كان (شبيح)الحارة –وهو مايقابل الفتوة في لهجة إخواننا المصريين - يصيح صيحته المعروفة منطلقا نحو الحارة (الفوقة) وقد علا لهاثه واستنفدت قواه المزعومة ليصلها حاملا ما تيسر من عصا أو (دبشة) أوبربيش أو جنزير أو سكين أو كل ماذكر من هذه الأشياء وهي أسلحة مجربة صائحا: (عليهم عليهم) وهذه توازي ما يسمى ساعة الصفر في الحروب العسكرية الحديثة، أو (يا خيل الله اركبي) في فتوح التاريخ الإسلامي.
لم يكن هذا الأهوج على استعداد لاستشارة أحد وهو ينطلق إلى هذه الحرب الخاسرة حتما نظرا لبعد الحارة الفوقة ومناعتها وقوة وبأس ابنائها.
والحقيقة الأهم أن الحارة الفوقة ربما لم ترتكب أي جرم بحق ابن حارتنا ولم يثبت أي دليل على تورطها في ذلك، وربما كان ابن حارتنا هوالمعتدي أو لم يفهم لغة ابناء الحارة الفوقة أو لم ترق له طريقة حياتهم اوان سلوكياتهم الخاصة لم تعجبه، أو شعر بالغيرة لأسباب عديدة منهم.
المهم ظل يحدث ذلك ولا يهتم (الشبّيح) عاشق الشجارات بالوقوف على الحقيقة اوتقدير عواقب ذلك ولكنه كان يرى انه يحتكر الحقيقة وحده ولا يرى ولا يتفقد اعضاء جيشه المقاتل متجاهلا عواقب هذه (الغزوة).
بل أحيانا كان يدفعه هوجه التاريخي ودمويته إلى افتعال غزوات وايقاظ ثارات نامت منذ سنين وينادي (عليهم عليهم) دون أي مسوغ معقول.
في كتابه الشهير (صدام الحضارات) يرى الكاتب الأمريكي صموئيل هنتنغتون محللا ما مفاده أن صدام الحضارة الأمريكية مع الحضاة الإسلامية _كواحدة من حضارات الشرق - كان سيتأخر سنوات طويلة إلى ما بعد صدام الحضارة الأمريكية مع غيرها ولكنها - أي الحضارة الإسلامية - هي التي استعجلت المواجهة باعتداءات 11 ـ 9 الدموية الإرهابية الحمقاء، حيث قدمت نفسها للصدام مع حضارة معروف أنها أعتى قوة في الكون وانقسم العالم فيها حسب التعبير الأمريكي إلى معسكر الخير ومعسكر الشر أو فسطاط الحق وفسطاط الباطل.
ترى إلى أي حد تشبه (غزوة) نيويورك صدام الحارات التي كان يشعلها عاشق الشجارات والفوضى الدموية في حارتنا القديمة؟