الاثنين ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٢٠
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

تجليات التراث الأدبي في ديوان «خيمة المتنبي»

يمثل الشاعر فايق أبو شاويش صوتاً من الأصوات الشعرية الصافية في الشعر الفلسطيني، إذ تعكس تجربته الشعورية صورة صادقة ودقيقة للمشهد الأدبي في فلسطين، والذي عمل جاهداً على إيجاد التواصل والتلاقي بين القصيدة الفصيحة، والشعر الشعبي، وبين حركة الإنسان الفلسطيني اليومية المعيشة.

وديوان "خيمة المتنبي" هو آخر نتاجات الشاعر، صدرت الطبعة الأولى منه سنة ٢٠١٧م عن مكتبة ومطبعة الوسيم الحديثة بغزة، وهو يشي بشاعر ذي مواهب ثرة، ويمتد الديوان عبر (٩٧) صفحة من الحجم المتوسط، في طبعة أنيقة، اشتمل على ثلاث وعشرين قصيدة، نظمها الشاعر على نمط شعر التفعيلة، استطاع من خلال هذا المجموع الشعري أن يقدم تجربة ذاتية خاصة، تجلى فيها الصدق الفني، مع رهافة الموضوع، وهذا أمر طبعي؛ ذلك أن الشاعر مر بمرحلة الغربة والمنافي والحنين إلى الوطن، وقد صور همومه الذاتية التي تماهت بهموم أبناء أمته، فمن خلال الخاص يبرز العام جلياً واضحاً، مع توافر عنصري الصدق والانتماء من ناحية، والوعي الموضوعي والفني من ناحية أخرى.

وكان قد صدر للشاعر قبل هذا الديوان عدد من الدواوين الشعرية التي تجمع بين الشعر باللغة الفصحى والشعر الشعبي، والدواوين هي: ديوان خبر عاجل٢٠٠٧، وديوان بلاغ للنائب العام ٢٠٠٨، وديوان الحردون ٢٠٠٩، وديوان قعود النوم ٢٠١٢، وديوان الصعلوك ٢٠١٦ .

ويعد المصدر الأدبي من المصادر التراثية الأساسية التي عكف الشعراء العرب المحدثون على استدعاء عناصر منها يثرون بها تجاربهم ورؤاهم الفكرية المعارضة، فهو النموذج الذي لا بد لأي شاعر لاحق أن يلم به معرفياً؛ حتى يتسنى له إبداع الأدب، إذا أراد لأدبه ولغته النمو والتطور، ولا يخلو أي شعر عظيم في أدب أي أمة من الأمم من هذه الرابطة التي تشد الشاعر إلى " أجداده الشعراء " كما يقول ت. س. إليوت. فضلاً عن كون التراث الأدبي يمثل خلاصة مكثفة لتجارب أجيال من الشعراء والحكماء التي تثري القصيدة المعاصرة بالدلالات والمعاني العميقة، وتوطد العلاقة مع المتلقي الذي يحس بانتماء القصيدة المعاصرة إليه.

وقد احتفى الشاعر بعناصر التراث العربي؛ بوصفه رافداً مهماً من روافد تجربته الشعرية، ومنبعاً سخياً لدى الشاعر، وإن لهذا الرافد حظاً أوفر ضمن المصادر التراثية الأخرى،

ويرى الدكتور محمد صلاح أبو حميدة في مقدمته للديوان المذكور أن استمداد الشاعر لمعانيه ومضامينه من التراث الإنساني، وتناصه معه يعد من أبرز الخصائص الأسلوبية في ديوانه الشعري." كل ذلك من أجل أن يعزز تجربته الشعرية بتجارب إنسانية أخرى، توسع من فضاء نصه، وتربط حاضره بماضيه، وتعمق إحساسه بالأشياء" (مقدمة الديوان: 9) .

وقد تنوعت صور الاستمداد من عناصر التراث ما بين تراث ديني وتاريخي وشعبي وأدبي، ووقع الاختيار على التراث الأدبي؛ لأنه من أكثر ألوان التراث حضوراً في شعره، ودوراناً في قصائده.

ويبدو أن التراث الأدبي من المصادر المحببة إلى نفسه، القريب لتجاربه، فهو مسكون بحب الأدباء العرب وشخصياتهم، اتخذ منها رموزاً موحية للتعبير عن تجاربه الشعرية الثرة.

وتجدر الإشارة إلى أن للشاعر أبي شاويش في تعامله مع التراث الأدبي مسالك وطرقاً مختلفة، فقد تأتي الشخصية الأدبية تستغرق القصيدة كاملة مثل: قصيدة "خيمة المتنبي"، وقصيدة "بجنون قيس"، وقصيدة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

وقد يرد المصدر الأدبي جزئياً في قصيدة من قصائده، وللشعراء طريقتان في استدعاء الشخصيات الأدبية أو المأثورات الشعرية: إحداهما: أن يأتي الاستحضار بنصه كاملاً مباشراً بدون تغيير أو تبديل، والأخرى: أن يأتي النص الشعري بطريقة خفية مذاباً في نصوص الشاعر امتصته نصوصه وذوبته، لا يدركها إلا القارئ الذي يمتلك معرفة واسعة، وثقافة رحبة توازي ثقافة الشاعر العميقة، ومعارفه المتنوعة، وتندرج طريقة الشاعر أبي شاويش ضمن الطريقة الثانية.

أولا - التراث الأدبي إطاراً عاماً للقصيدة:

تمثل قصيدة "خيمة المتنبي" هذا اللون من الاستحضار الفني الشخصية المتنبي أصدق تمثيل، حاول الشاعر أن يتخذ من شخصية المتنبي قناعا فنيا يسقط شخصيته على شخصية المتنبي أي يسقط الحاضر على الماضي، فإذا كان المتنبي في زمنه ثائراً على الواقع العربي الكسيح، فالشاعر يرى أن الواقع يتكرر، فإذا الأمة العربية اليوم تعاني الضعف والتبعية، من هنا حاول الشاعر كما يقول مقدم الديوان:" أن يستظل بخيمة المتنبي؛ ويحتمي بها من حرقة النسيان وألم الاغتراب، ويملأ قلبه ووجدانه بنخوة العربي وعزة مكانته، واعتداده بنفسه، في زمن ترهلت فيه القيم، وغابت النخوة والشهامة التي طالما اعتز بها الإنسان العربي عبر التاريخ" (مقدمة الديوان: 5)، يقول الشاعر أبو شاويش:

وعلى شفاه الغربة الشمطاء أفرش نجمة
متوسداً قمراً مضيئاً للرصيف
وخرائط حبلى بماء من كلام عالق
في خيمة المتنبي
شهوة الشعراء تجهض شهقة الوجع العفيف (الديوان 21).

ينبش الشاعر هنا ذاكرة المتلقي، يسترجع معه ذاكرة التاريخ وسيرة الشاعر المتنبي، إنه يؤمن بنظرية التلقي التي يتكئ فيها الشاعر على معارف المتلقي وخبراته الثقافية.

ولا يقف الشاعر عند استدعاء شخصية المتنبي المقترنة بشخصية سيف الدولة الحمداني رمز العزة والشرف العربي؛ وإنما يستدعي قصة نبي الله يونس -عليه السلام - ومعاناته في بطن الحوت وخلاصه بأن مَنَّ الله عليه بأن منحه شجرة اليقطين لتحميه، وكل ذلك على أرض فلسطين، فهل يمن الله علينا بالرحمة ويخلصنا من عذاب الاحتلال الصهيوني ومآسيه؟؟

يقول الشاعر:

جئنا مع القدس العتيقة أنبياء
ولنا ببطن الحوت أيتام
تضاجع شجرة اليقطين تعلو في العراء

ينفتح النص الشعري على قصة سيدنا يونس- عليه السلام - بطريق غير مباشر، وإعادة قراءة النص تبرز للمتلقي المفردات والتراكيب الآتية : القدس العتيقة، أنبياء، بطن الحوت، أيتام، شجرة اليقطين، هذه اللغة تشي بواقع الشعب الفلسطيني ومعاناته العميقة في ظل المحتلين الصهاينة مع عدم فقدان روح الأمل، فمن رحم الألم يولد الأمل.

وفي قصيدة" بجنون قيس" يستحضر شخصية الشاعر العذري قيس بن الملوح الملقب "بمجنون ليلي"، والذي أحب محبوبته "ليلي" حباً نقياً عميقاً، وصف بسببه بالمجنون، أما الشاعر أبو شاويش، فيريد أن يقول إنه أحبَّ وطنه فلسطين حباً صافياً عميقاً يماثل حب الشاعر قيس بن الملوح لليلي، ويزيد عليه في عمقه إلى الدرجة التي جعلته يتعلق بوطنه ويصرُّ على العودة إلي رحابه، لإيمانه العميق بحق العودة لكل فلسطيني إلى أرضه، يقول في خاتمة قصيدته مخاطباً محبوبته فلسطين "ليلي":

أنا قادم بجنون قيس
أحبو إليكِ بزورق نبوي يرسم حلمه
مليون ناي من نزيف البرتقال. (الديوان : ١٤).

يتجلى عمق حبه لوطنه فلسطين في التغزل بها بمعان سامية نبيلة تحمل عمق شوقه وحبه لها يقول عنها:

والحُبُّ يورق في حروف أصابعي
إني اتخذتك معبداً خبأته بين الحناجر والعيون
يا قبلةً صوفيةً أزهارها تصحو على الشفتين
لا ما نسيتك منذ ميلاد السنين ) الديوان ١٣.

وفي قصيدة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، يستدعي الشاعر أبو شاويش شخصية الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش عن طريق استدعاء مقولته الشهيرة التي جعلها عنواناً لقصيدته، يقول راثياً الشاعر محمود درويش، مبيناً منزلته ومكانته في الدفاع عن القضية الفلسطينية:

رحل الجميع وأنت أنت
كنا نياما وأنت ترسم عشقنا
أرضعْتَنَا سحر البيان نثرته وردا على الطرقات
لا، لا تنم قلها
وأذِّن معلناً في الناس حي على الحياة (الديوان 16).

ويحتوي النص الشعري أحياناً على إيماءة أو إشارة إلى نصوص شعرية للشاعر محمود درويش، ففي قول الشاعر أبي شاويش:

فهناك أغنية تكسر لحنها
في كسرة من خبز أمي بين أضراس الشفاه (الديوان ١٥).

في هذا المقتبس إلماعة سريعة إلى قصيدة الشاعر محمود درويش" إلى أمي" التي تحولت إلى أغنية شهيرة يتغنى بها المغني اللبناني "مرسال خليفة"، والتي يقول فيها درويش:

أحنّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي.

والطريقة الثانية: التراث الأدبي عنصراً في صورة جزئية.

في هذا النوع تبرز قصة الشاعر الفارس عنترة بن شداد ومحبوبته "عبلة" ظاهرة جلية، فقد اتخذ من هاتين الشخصيتين رمزاً فنياً موحياً يعبر فيه عن واقعه المعيش، فعنترة الفارس الشجاع وهو رمز الفلسطيني الثائر الذي استطاع أن يحرر محبوبته "عبلة" التي هي رمز لفلسطين من ربقة التقاليد الموروثة التي كادت أن تحرمها من حبيبها عنترة، وقد جاءت هذه القصة متشظية في حنايا الديوان بأسره، يقول الشاعر:

مصلوب شاعر قريتنا
لا ينطق أبدا لا يقدر
إن صرخت عبلة يا ويحي
صاح العفريت أنا عنتر (الديوان ٦١ ، ٦ ).

وفي موضع آخر من الديوان يقول الشاعر:
ياعنتره ...
صحراءُ نادتْ مهرها
سحت عليها رملها ) الديوان ٧٥ ، ٧٦ ).

استثمر الشاعر اللغة البسيطة السهلة؛ ليعبر من خلالها عن تجربته الشعرية مستغلاً إمكانات الأصوات النغمية ووظائفها الإيقاعية كما جاءت في الأفعال: "نادت" و"سحت".

وفي القوافي التي تنتهي بالهاء وبالألف المدية: "مهرها، رملها"، والتي انسجمت صيغها الصرفية مع السياق العام والفكرة المراد تأديتها، كما استثمر الشاعر صيغة النداء في قوله: "يا عنتره" التي تجذب القارئ، وتثير اهتمامه؛ ليعبر عن حاجته الماسة للمنقذ والمخلص والفادي، وجاء استثمار تقنية الفراغات ...) )؛ ليوحي بأنه ردد مثل هذا النداء غير مرة، لعل هناك من يستجيب نداءه، ورمز للأمة العربية بالصحراء موطن العزة والشهامة والكبرياء التي أنبتت الفوارس والأبطال من أمثال عنترة وغيره؛ لإنقاذ السبية القدس العتيقة.

ومن ألوان التراث الأدبي التي يجد المتلقي الشاعرَ يشير إشارة سريعة إلى صورة شعرية قديمة استمدها من بيت شاعر جاهلي، أو مقولة شعرية لشاعر عالمي مسرحي. يقول الشاعر أبو شاويش:

فالشمس سَعْيٌّ للجنونْ
أحتاجُ لامرأةٍ كموج البحر تحملني
أغطيها برمشٍ كي أكون ولا أكونْ) الديوان 92).

ففي السطر الثاني يستمد الشاعر صورته التشبيهية من الموروث الشعري الجاهلي إنه بيت امرئ القيس الذي جاء في معلقته يصف معانته في ليل الغربة والرحيل:

وليل كموج البحر أخرى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي.

أما السطر الاخير، فمستوحىً من مسرحية "هاملت" لشكسبير التي جاء فيها على لسان "هاملت" البطل المتردد الشاكّ الذي غلبت عليه ظنونه في مناجاته الرابعة التي يقول في مطلعها:

أكون أو لا أكون هذه هي المشكلة.

وقد عمق هذا الاستدعاء للموروث الأدبي من معاني الشاعر ومضامينه ومنحها غزارة وإشراقاً.

وقد يستدعي الشاعرً أبو شاويش شخصيةَ الشاعر العراقي "مظفر النواب" لوجود تشابه في المضامين الشعرية بينهما والتي بؤرتها مأساة القدس السليبة، يقول الشاعر مخاطباً الشاعر مظفر النواب:

نوابُ عذراً يا أخي
لم يبقَ من غيري سواك
اقرأ زهور زنابقي
أنا لا أرى إلا رؤياك
القدسُ للجسد الخلايا
والقدسُ ما عادت، ولا تاب البغايا( الديوان36 ).

وكان الشاعر قد كتب في الهامش الأخير للقصيدة:

نواب: هو الشاعر العراقي الفذ (مظفر النواب). (هامش القصيدة 36 ).

وهو بذلك قد حرم المتلقي من لذة التعرف إلى الشاعر النواب بنفسه، ووضع كل المعلومات في حجره، وأضاع عليه فرصة على المتعة الفنية، ومشاركته للذات الشاعرة معانيه وأفكاره.

أما الوسائل الفنية التي اعتمد الشاعر عليها في بناء المعمار الفني لقصائده، والتي أسهمت في إنجاح عملية توظيف التراث الأدبية بما احتواه من شخصيات تراثية تنتمي إلى المجال الأدبي ونصوص شعرية، فمتعددة الجوانب، إذ يجد المتلقي في غالبية ما قام به من توظيف أنه يتكئ على الصور الشعرية المعبرة من تشبيهات واستعارات ومجازات، فضلاً عن اللغة السهلة والألفاظ البسيطة، البعيدة عن اللغة المعجمية، والإيقاع النغمي المنبعث من الطاقات الموسيقية التي يكتنزهما الوزن والقافية المتنوعة الإيقاع، إلى جانب التنويع بين ألوان التراث المتعددة ما بين تراث ديني وتاريخي وثقافي وشعبي.

يتضح مما تقدم أن علاقة الشاعر أبي شاويش بالتراث بعامة، والتراث الأدبي بخاصة كانت علاقة وثيقة، فهو ينظر إلى التراث؛ بوصفه مصدر إلهام وإيحاء مهم، لا غني عنه. وأن هذه العلاقة لم تكن قائمة على التقليد والمحاكاة أو إعادة إنتاج التراث كما هو؛ وإنما كانت قائمة على التفاعل العميق معه، وتوظيفه فنياً للتعبير عن تجاربه الشعرية الخاصة، وقد تجلي هذا بوضوح في تعامله مع معطيات الموروث الأدبي وعناصره المختلفة.

إن استيحاء الشاعر أبي شاويش للتراث الأدبي في ديوانه "خيمة المتنبي" يشي بثقافة واسعة، ومعرفة رحبة بالتراث الأدبي عربياً وعالمياً.

وقد جاء توظيفه لهذا المصدر توظيفاً فنياً موفقاً، ينم على براعة واقتدار لشاعر يمتلك أدوات فنية وآليات جمالية؛ ليعبر عن تجربة شعرية معاصرة تجعله يقف في مصاف الشعراء المعاصرين المجايلين له.

وجملة القول: إن الإبداع الشعري للشاعر فائق أبي شاويش يمثل تربةً خصبة، ومادة أدبية بكراً؛ يستأهل أن تقام حوله الدراسات والبحوث العلمية، وتبنى حول قيمته التعبيرية والجمالية وخصائصه الأسلوبية المقالاتُ النقدية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى