الخميس ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
قراءة تحليلية فى قصيدة
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

«تحت ظل زيتونة تشتهى أن تعيش»

للشاعر إبراهيم نصر الله

ملخص:

يهدف هذا البحث الكشف عن عناصر التشكيل الجمالي في قصيدة «تحت ظل زيتونة تشتهى أن تعيش» للشاعر إبراهيم نصر الله، وقد اتخذ البحث من المنهج التحليلي الفني وسيلة للوقوف على أهم التقانات التي وظفها الشاعر في التعبير عن تجربته الذاتية ورؤيته الإنسانية تعبيراً فنياً من خلال استخدامه للوسائل الفنية المتعددة التي حملت المغزى العام للقصيدة الذي يدور حول بيان موقف الشاعر ورؤيته من الحرب على غزة أو ما يعرف بـ«معركة الفرقان».

وتوزع هذا البحث على أربعة محاور هي: المعمار الفني، وما اشتمل عليه من عتبات نصية، واللغة الشعرية، والصور الفنية، والبنية الإيقاعية.

تمهيد:

ليس ثمة شك في أن تجربة الحرب على غزة سنة 2009م قد خلفت ظلالاً قوية في إبداعات الشعراء، وهم يرون البيوت تهدم دون إخراج ما بداخلها، والمساجد تقصف فوق رءوس المصلين، والأشجار والأراضي الزراعية تجرف لطمس معالمها، والأطفال تقتل، والدماء تسفك، والنساء ترمل، والشباب يساقون إلى المعتقلات الجماعية في صورة مؤلمة وتحت تعذيب شديد، حدث كل ذلك في ظل صمت عربي رهيب، وتنديد خجول من الدول الأوروبية.

لقد كان لهذه الأحداث المؤلمة التي عاشها الشعب العربي الفلسطيني في ظل هذه الحرب الوحشية أثرها الواضح في نفوس الشعراء ووجداناتهم، إذ هزّت هذه الحرب الهمجية ضمائرهم، وألهبت مشاعرهم، وفجرت طاقاتهم الإبداعية، فراحوا يروون حكاية شعب مجاهد أعزل لا يملك إلا الإيمان بالله، والإيمان بعدالة قضيته، شعب متسلح بإرادة لا تلين مهما كانت وحشية الأعداء وقسوتهم، شعب صنع لنفسه مجداً تليداً ولأمته تاريخاً عريقاً، فغدت أشعارهم عنوان مقاومة ونضال وتحدٍ، فصوروا مشاهد الإجرام الصهيوني البشعة وأشكال البطش والإرهاب الصهيوني من جهة، وجسدوا صمود أهل غزة وتحديهم هذه الحرب ومقاومتهم لها، فيما عرف عند الفلسطينيين بـ"معركة الفرقان" التي جعلت من غزة رمزاً للعزة والكبرياء والممانعة.

تتغيا هذه القراءة الكشف عن موقف الشعراء العرب من الحرب على غزة، وبيان صمود الإنسان العربي الفلسطيني، وفضح جرائم المعتدين الصهاينة التي اقترفوها بحق الشعب الفلسطيني وتعريتها، إلى جانب أنها تحاول أن تستكشف جماليات النص من خلال تأويل علاقته بالذات الفلسطينية الفردية أو الجمعية.

وتكمن أهمية البحث في كونه يتتبع ما يقدمه الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله من تصوير شعري حيّ لحالة الصراع المحتدم بين الشعب العربي الفلسطيني والعدو الصهيوني في "معركة الفرقان"، ومظاهر الواقع الفلسطيني المعيش في ظل الحرب على غزة، والوقوف عند وسائل الأداء الفني التي وظفها في بناء نسيجه الشعري؛ للتعبير عن رؤيته الفكرية وتجربته الإنسانية، فقد أدرك الشاعر عن وعي ويقين أن هذه الحرب كشفت الجوهر الحقيقي لهذا الشعب، المتمثل في الصمود الأسطوري أمام هجمات المعتدين الصهاينة، وأنه شعب عصيّ على الانكسار.

عمد الباحث في مقاربة هذه القصيدة إلى استخدام المنهج التحليلي الذي يهتم بكل عنصر من عناصر مكونات القصيدة، سواء أكانت هذه المكونات على المستوى الصوتي أم على المستوى الصرفي أم على المستوى المعجمي أم على المستوى التركيبي؛ لمعرفة كيف تعمل هذه المكونات على تكوين النص وبناء رؤيته الخاصة، انطلاقاً من أن كل مكون لابد أن يكون له رصيد من الدلالة حيث تشكل كل دلالة جزئية لبنة من الدلالة الكلية للنص الشعري"(حماسة، ص121 ، 122).

مما تجدر الإشارة إليه هنا أن القارئ يلتقي فى هذه القصيدة مجموعة من السمات الفنية التى تسهم فى بناء القصيدة الحديثة، ذلك أن الشاعر لم يعبر عن رؤيته الإنسانية تعبيراً مباشراً أو خطابياً على الرغم من أن قصيدته جاءت استجابة سريعة، وغضبة حرّى على مأثمة العدوان الصهيوني الأخير على غزة، وإنما توسل بالأدوات التعبيرية والفنية: كالصورة الفنية والتراكيب اللغوية الموحية والرمز والتناص والتشكيل الإيقاعي، إلى جانب التعويل على عناصر البناء الدرامي، وقد نسج تفاصيل تجربته وعالمه الشعري من خلال هذه العناصر الفنية، وهي جميعها من أكثر الخصائص وضوحاً في أبنية قصائده ذات المضمون السياسي الوطني، وسيتم دراسة هذه العناصر التعبيرية والفنية من خلال أربعة محاور هي: المعمار الفني واللغة، والصورة الفنية والتشكيل الإيقاعي.

أـ المعمار الفني:

توزعت القصيدة على ثمانية مشاهد أو مقاطع أو لوحات، حمل كل واحد عنواناً فرعياً، وكانت على التوالي: رغبات، ذاهب للقائك، سلام، تأملات، مفارقات، قناعات، أمومة، هنا(لأجلك غزة، ديوان الشعراء العرب في معركة الفرقان 2009م)، وجاء كل مشهد يلخص جزءاً من رؤية الشاعر الإنسانية، أي يعبر عن فكرة واحدة مستقلة يوجهها شعور واحد، بيد أنه في الوقت ذاته مشدود إلى غيره من المشاهد بخيط رفيع يُدرك من خلال السياق العام، ويعد" المشهد نفسه وحدة بنائية داخل نظام أكبر يحتويه، وهو يرتبط مع بقية المشاهد بشبكة علاقات تواشج وتداخل واتصال، وهى موزعة في بنية النص الكبرى"(خفاجى), فالمشاهد تتلاقى وتتلاحم دلالياً وشعورياً؛ لتشكل في النهاية رؤية كلية واحدة؛ ترمي إلى تصوير المغزى الكامن في النص الذي يقوم على الصراع بين الخير والشر، بين "صناع الحياة" و"صناع الموت"، بين قيم الحياة وقيم الموت والفناء، بين حق أهل غزة في العيش والبقاء فوق أرضهم، وبين قوى العدوان والبغي ممثلة في الصهيونية الظالمة.

القراءة الفاحصة لمقاطع القصيدة ومشاهدها، تكشف عن توافر لون من الانسجام والتناغم والتوافق بين طبيعة البناء المقطعي والبناء الكلي للنص مع رؤية الشاعر والنص، وهي محاولة لإضافة درجة من وعي النص وكشف أبعاده.

ومما يتصل بالمعمار الفني للنص الشعري المنجز ما يعرف بالنص الموازي الذي تجلى بشكل بارز في العتبات النصية، ومن أهم عناصرها في هذه القصيدة العنوان الرئيس والعناوين الفرعية لمقاطعها الثمانية.

يعد عنوان القصيدة المفتاح الذهبي الى شفرة النص أو هو الإشارة الأولى التي يرسلها الأديب إلى المتلقي؛ ليتمكن من الولوج الى فضاء النص الشعري(عيسى، ص16 ).
والقارئ لعنوان قصيدة إبراهيم نصر الله" تحت ظل زيتونة تشتهى أن تعيش"، يكتشف أن لهذا العنوان حضوره وظلاله التي تنتشر في مقاطع القصيدة الثمانية، وأن دلالاته مبثوثة ومتشظية في ثنايا جسد القصيدة برمته، ففي المشهد الذي يرد دال"الزيتونة" التي استمد الشاعر منها عنوانه الرئيس في قصيدة "هنا"يقول الشاعر (لأجلك غزة ص31):

هنا تحتَ زيتونةٍ تشتَهي أن تعيشَ طويلاً كأغنية
فدال" زيتونة" يحمل إشارات عميقة، وأبعادا متعددة: تراثية وتاريخية ودينية، ومجيء الدالة "نكرة" يفيد الشمول والعموم، فشجرة الزيتون بوابة من بوابات فلسطين، تمثل رمزاً للثبات والتجذر في الأرض والبقاء فوق أديمها، مهما كانت المتاعب والتضحيات، وهي رمز كذلك للعراقة والشموخ، رمز للحياة والمقاومة المستمر في الأراضي المحتلة، ففلسطين تتجدد وكل نهار يموت فلسطينيون ويولد فلسطينيون. وهكذا يتبين أن " اختيار عنوان النص الأدبي لا يتم بطريقة اعتباطية أو تعسفية، وإنما يجب أن يكون بينه وبين النص علاقة تناغم وانسجام في إطار دلالي كبير يستقطب كل التمثلات والسياقات النصية"( مفتاح، ص72).

المتأمل في عبارة "تشتهي أن تعيش"، يجدها توحي برغبة العدو الجامحة في القضاء على هذه الشجرة بشتى الطرق الهمجية: بتجريفها أو اقتلاعها أو قطعها أو حرقها أو سرقة ثمارها، إلى الحد الذي جعل هذه الشجرة المباركة تشتهي البقاء في هذه الأرض؛ لتتجدد وتظل رمزاً للعزة والعطاء والكرامة.

وفي مشهد آخر من مشاهد القصيدة يرد ذكر الزيتون غير مرة، بوصفه رمزاً لفلسطين كلها، فيقول (لأجلك غزة ص30):

على كَتِفِ التلِّ زيتونةٌ ولِدَتْ قَبْلَنا
علَّمتْنا كلامَ القناديلِ في الشَّرق
والريحَ في طُرُقاتِ الشَّمال
فنمْ جيدا.

يوحي دال "زيتونة" في هذه الأسطر إلى تاريخ فلسطين الحضاري، فالزيتونة هي فلسطين بأهلها وحضارتها وتاريخها وهي موجودة منذ القدم مع وجود الزيتونة، إنها تتماهى معها وتندغم، وكل ادعاء يخالف هذه الحقيقة فهو باطل، إن هذه الزيتونة تمثل حضارة عريقة ذات قيم إنسانية نبيلة ورسالة سامية، تضيء وتعلم وتهدى العالم إلى الخير والسلام.

أما عنوان المقطع السابع" أمومة"، فيعبر عن الاتحاد والامتزاج بين البيت/ الوطن وبين ساكنه الفلسطيني، فالعلاقة بينهما علاقة اندغام وتوحد، فالإنسان يمنح الوطن صفة الأمومة، وما يتولد عنها من مشاعر الحنو والحب والتعلق بها، والوطن يمنح الإنسان صفة الأمومة، فهو الذي درج فوق أرضه، وأكل من خيراته، وهو الذي سيضم رفاته بعد الموت، وتبرز العلاقة جلية بين هذا العنوان الفرعي والعنوان الرئيس؛ لكونهما يرتبطان بالوطن والتشبث به والاندماج معه.

إن العتبات النصية" في هذه القصيدة المتمثلة في العنوان الرئيس، والعناوين الفرعية الداخلية للمقاطع كانت العلامات التي تعد بمثابة مداخل تسبق المتن النصي, ولا يكون له دلالة مكتملة إلا بها، وكلها عناصر توجه قراءة النصوص الأدبية، وتسهم بدور كبير في إثراء تأويل الملتقي لها [1]

ب- اللغة الشعرية:

أدت اللغة دورها الفاعل دلالياً وتركيباً وصرفيا،ً وما طرأ عليها من تحولات، بدءاً من استخدام المركب الاسمي الإسنادى الذي يستقل بنفسه مكوناً جملة اسمية بسيطة مبتدأ وخبر، مثل قول الشاعر(لأجلك غزة ص29):

قالَ لي البيتُ:
سُوريَ عالٍ وكلُّ جدارٍ هنا قلْعَة
والنوافذُ تحرسُ سرَّ المكان
خلْفَ بيّارةِ الموزِ نهرٌ صغير
هنا فوقَ هذا السَّريرِ قتيل
هنا تحتَ هذا السَّريرِ قتيل

جاءت الجمل الاسمية في هذا النص على النحو الآتي: سوري عال، كل جدار قلعة، النوافذُ تحرسُ، خلْفَ بيّارةِ الموزِ نهرٌ صغير، هنا قتيل، وهي بهذا النسق التركيبي تفيد تقرير حقائق وأفكار أرادها الشاعر أن تشير إلى تجليات المكان وحضوره، وما يحمله من دلالات ثرّة تومئ إلى الصمود والثبات .

وعلى نحو ما اكتظت مشاهد القصيدة بالمركبات الاسمية، فقد اكتظت كذلك بالمركب الفعلي الذي تنوعت أنماطه بشكل لافت(لأجلك غزة ص22):

سأُلقي السَّلامَ على كلِّ شيء لأنيَ فيهِ:
الحمَامُ على حافةِ السّور يَهْدِلُ والقطُّ إذ يترقَّبه
وعلى الزَّهرِ يصعدُ من بين فكّيِّ مجزرة
مثلما يصعدُ الوردُ في أيِّ حقل
على طائرِ الشمسِ ينقرُ حبَّ النّدى هادئا
وعلى النَّحلِ يشربُ كأسَ الرحيق.

يلفت القارئ الحضور الطاغي للأفعال المضارعة مثل: يهدل، يترقب، يصعد، ينقر، يشرب، والتي تدل على تجدد الحدث أو الفعل ونموه واطراده؛ الأمر الذي جعله يتفق واستناد التجربة على الفعل والحركة التى تخيم على رؤية الشاعر- على امتدادها الزمني - وتجسد مأساة الانسان العربي الفلسطيني فى غزة فى ظل الحرب الضروس، فعكست بذلك الجو النفسي بما فيه من خوف وفزع وقلق ورعب بوصفها تصويراً يومياً يتكرر كل يوم على امتداد شهر كامل، وطالت أحداثها كل أشكال الحياة من طيور ونباتات وإنسان وجماد.

يتلاءم ميل الشاعر إلى إقامة بنائه اللغوي على قصر الجمل الاسمية والفعلية فى القصيدة وظروف الحرب وتلاحق أحداثها، وهى الأكثر مناسبة لها؛ لكي تتلاحق فى وقعها ومجرياتها.
إن القارئ المتأمل في غير مقطع من مقاطع القصيدة، يجد أن الأفعال المضارعة تهيمن هيمنة تامة على بنائها التركيبي؛ لأن استخدام الجملة الفعلية ، فضلاً عن أنه يعطي الصورة الحركة والنبض، فإنه يجعل الصورة نامية تتحرك في امتداد زمني لا مكاني، فقد جاءت هذه الأفعال لتصور الحركة وما ترتب على الحرب على غزة من حركة داخلية تجسدت في الفعل الخارجي، إذ تلوح صورة الشاعر وهو يرغب في الرحيل عن هذا العالم الظالم الذي يعج بالتناقضات، وتسيطر عليه روح الشر إلى عالم آخر فيه الخير والحرية.

وأدى التناص بوصفه تقنية لغوية دوراً محورياً في إثراء تجربة الشاعر، إذ يكتسب النص تعدديته في سياقات أخرى مع بقائه ممركزاً في سياقه الخاص.
تعددت أنماط التناص في هذه القصيدة ما بين استدعاء شخصية دينية أو تاريخية أو حدث أسطوري، بحيث تتولد دلالات جديدة تثري التجربة وتعمقها.

عوّل الشاعر في بناء نسيجه الفني على استدعاء بعض الشخصيات الدينية والأدبية التي تتماهى وتجربته الشعرية المعاصرة، ومن الشخصيات الدينية التي استحضرها شخصية السيد المسيح -عليه السلام - موظفاً فكرة "الصلب" في الموروث الديني المسيحي في مقابل ما يرتكبه الكيان الصهيوني في حق الإنسان الفلسطيني، لاسيما أن "السيد المسيح -عليه السلام -، هو الفلسطيني الذي نال من اليهود عذابات كبرى"(النقاش،1973 :212)، ومع ذلك تحدّى وقاوم ونهض من جديد، يقول الشاعر(لأجلك غزة ص22):

سألقي السلامَ على كل شيء لأنيَ فيه

السماء التي علَّقتْني هنا كالصَّليبِ ثُريّا

وفي موضع آخر من القصيدة يوظف الشاعر رمز" الصليب"، فيقول(لأجلك غزة ص30):

خلْفَ بيّارةِ الموزِ نهرٌ صغير
يُغنّي لطفلٍ على خشبِ الصَّلْب
يغسِلُ أرجلَهُ بالبنفسج
جبْهتَه ببياضِ القُرنفل والياسمين
ويهمسُ: كنْ قمراً للجَمال.

استثمر الشاعر رمز "الصلب"؛ ليعبر عن آلامه وآلام شعبه، ويصور ما فيه من معاني الظلم والقتل التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة: من قتل، وتدمير، وحصار، وتآمر، وتخلي الأقربين عنه،" فالعذاب الذي يتحمله العربي الفلسطيني هو نوع من عذاب الصليب"(النقاش،1973 :212 )، فمعاناة السيد المسيح -عليه السلام - وعذاباته على يد بني إسرائيل تماثل معاناة الشعب الفلسطيني وهمومه وتضحياته وعذاباته على يد المحتلين الصهاينة، وما نجم عن حربهم الهمجية على غزة من قتل الأطفال رمز البراءة والنقاء والطهارة.

وعمد الشاعر أيضاً إلى استثمار تقنية الاستدعاء التراثي للشخصيات الأدبية، فاستدعى شخصية الشاعر المتنبي؛ بوصفها شخصية غنية بدلالاتها، وتعدد أبعادها، لاسيما البعد السياسي الذي يعد من أكثر الأبعاد اجتذاباً للشعراء الذين حاولوا أن يعبروا من خلاله عن كثير من الجوانب السياسة في تجربة الشاعر المعاصر(زايد ، ص 174).

ففي المقطع الأخير الذي جاء بعنوان"هنا" استثمر الشاعر شخصية المتنبي مستحضراً من خلالها شخصية الفارس العربي سيف الدولة الحمداني ، يقول مخاطباً الشعب الفلسطينيً(لأجلك غزة ص232 ، 33):

(وما كانَ خلفكََ، ما زالَ خلفكََ: رُومٌ سوى الرُّوم


قلْ لي إذن


فَعَلى أيِّ جنْبَيْكَ سوفَ تميْلُ؟!! ).

لم يقف الشاعر فى هذا المقطع عند استدعاء شخصية المتنبي من خلاله استعارة بعض أقواله، وإنما كان يروم إلى جانب ذلك كله استحضارً موقف الأمتين: العربية والإسلامية من سيف الدولة الحمداني في صراعه مع أعدائه الروم آنذاك، محملاً إياه الكثير من الدلالات السياسية (المتنبي ص224):

وسوى الـروم خلف ظـهرك روم 

 فعلى أي جانبيـك  تميل

وهذا البيت مأخوذ من قصيدة طويلة قالها المتنبي في مدح سيف الدولة، ومنها هذه الأبيات(المتنبي ص224):

أنت طول الحيــاة للروم غاز  فمتى الوعـد أن يكون القفول
وسوى الـروم خلف ظـهرك روم  فعلى أي جانبيـك  تميل
قعد الناس كلهم عن مساعيــــــك وقامت بها القنـا والنصول.

إن استحضار الشاعر لبيت المتنبي فى هذا النص؛ إنما كان بقصد استدعاء شخصيته سيف الدولة الحمداني ومواقفه البطولية فى حروبه مع أعدائه الروم والمتخاذلين من المسلمين.

وتشير القراءة المتمعنة إلى أن الشاعر المعاصر قد توحد في ذلك بشخصية المتنبي، وامتزج معها بشكل واضح جلي، فموقف أولئك الحكام العرب والمسلمين من سيف الدولة، وتآمرهم عليه، وتركهم إياه وحيداً يقارع الروم، يماثل موقف بعض الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة في تخليها عن الشعب العربي الفلسطيني فى غزة وخذلانه والتآمر عليه، وتركه فريسة سائغة لأعدائه الصهاينة، إن مثل هذا الموقف المتخاذل هو الذي أغرى الأعداء بحصار قطاع غزة، ومن ثم شن الحرب عليه، وارتكاب المجاز الفظيعة ضد شعبه، ولم يكتفوا بذلك، وإنما حرضوا العدو على حرب أهل غزة، ومن ثَمّ صمتوا على ما اقتُرِفَ من جرائم ومآسٍ بشعة بحق هذا الشعب.

إن الشاعر المعاصر لم يكن مجرد ناقل لنصوص أدبية تراثية، وباث لها في أشعاره، وإنما عمد إلى توظيف هذه النصوص ببراعة واقتدار، فهو لم ينقل حرفياً ما قاله المتنبي، وإنما لجأ إلى تحوير بيته الشعري، وذلك بإضافة بعض الدوال عليه، فقد أضاف كلمة"ما زال"؛ لتنسجم مع رؤيته وتجربته المعاصرة التي تفيد الاستمرار والتجدد، أما عبارة " قل لي إذن"، فأفادت امتزاج الخاص بالعام والذاتي بالجمعي، وكشفت عن تحمل الذات الشاعرة هموم الذات الفلسطينية الجمعية، وجاء إضافة دال"سوف"؛ ليشي باستمرار موقف هؤلاء العرب فى المستقبل والمتمثل في الصمت والخذلان؛ لذا يتحتم على الشعب الفلسطيني أن يعتمد على إمكاناته الذاتية في مواجهة المعتدين، إن مثل هذا التكنيك الحداثي فى بناء القصيدة الحداثية المتمثل فى التناص يزيد من تكثيف الدلالة وتعميق التجربة(صلاح، 79).

وعلى هذا النحو تلاحمت تجربة الشاعر المعاصر بتجربة سيف الدولة الحمداني التي عبرت عنها أبيات المتنبي، فتعانق الماضي والحاضر، ومع ذلك بقي النص الحاضر محتفظاً بخصوصيته.

ولعل السر في جعل التناص مع بيت المتنبي خاتمة لقصيدة الشاعر، يكمن فى رغبة الشاعر فى أن يكون التناص هو آخر ما يسمعه المتلقي؛ ليظل هذا البيت محفوراً فى وعيه وإدراكه.

وفي موضع آخر استثمر الشاعر شخصيتين تراثيتين أدبيتين هما شخصية طاغور والمتنبي، يقول في المقطع الأول الذي جاء بعنوان"رغبات"( لأجلك غزة، ص19):

خُذيني إلى ما تبقَّى هنالكَ من أبيضٍ،
للنّوارسِ يهتفُ هذا الغراب
إلى شِعْر طاغورَ خُذنيَ، تهمسُ عصفورةٌ، فجأةً، للصباح
.. إلى المتنبي تقولُ الخيولُ التي عَلِقَتْ في سهولِ الجراح

ففي إطار تصوير رغبة الكائنات الحية المجسدة في كل من"الغراب" و"العصفورة" اللتين تعدان رمزاً للرحيل عن هذا العالم المليء بالشر والقتل والظلم إلى عالم الشرق المفعم بالنقاء والطهارة والحضارة، استدعى الشاعر شخصيتي الشاعرين طاغور والمتنبي،
فالمتنبي شاعر فارس يمثل الشعرية والإنسانية والحضارية، وطاغور شاعر من الهند اشتهر بدعوته إلى السلام والحرية والارتباط بالفقراء والبسطاء في وقت كانت بلاده محتلة من الإنجليز، فكلا الشاعرين يميزان حضارة شرقية لم تكن تهدي العالم غير نبلها وشاعريتها في مقابل حضارة غربية منفِّرة محتلة همجية تتحكم في مصير الأرض وما فوقها من إنسان، بمنطقها المغلوط، وضميرها الميت، وحقائقها المقلوبة، هي وقفة مقارنة تشير إلى حضارتين متناقضتين( خفاجي).

ومثلما فعل الشاعر في استدعائه للشخصيات التراثية، فإنه عمد إلى استدعاء أسطورة"الفينيق" في نصه الشعري؛ ليعبر عن المكابدة التي عاناها أهل غزة من قسوة الحرب وبطشها، فهو يتكئ على دلالات هذا الطائر الخرافي الذي ارتبط بالوجدان الشعري والجمعي بأنه حيوان خالد متجدد لا يموت، وإذا مات يبعث من رماده(إمام، ص127-128)، يقول الشاعر في الجزء الأخير من المقطع السابع من القصيدة المعنون بـ" أمومة" ( لأجلك غزة، ص31):

قال لي البيتُ: لا ترتعدْ
بعدَ يومينِ تنهضُ حيَّا
وإن نِمْتََ كالآخرينَ قَتيلْ!

استحضر الشاعر في هذا النص أسطورة طائر الفينيق، وهو رمز له دلالات عميقة توحي بالتجدد والانطلاق من وسط المعاناة والاحتراق، فانتقلت هذه الدلالات لدى الشاعر؛ ليصير الفينيق رمزاَ للإنسان العربي في فلسطين الذي ينهض حياً من رماده ويتجدد ويستمر في الحياة ، فعلي الرغم من المصائب والمآسي التي نزلت بالبيت، فإنه يظل عامراً بأهله وسكانه، إن الوطن لا يموت أبداً؛ لأن من الموت تولد الحياة الأخرى وتتجدد، فالموت هو الطريق إلى الانبعاث من جديد، الموت ههنا لا يعني العدم والنهاية ، إنه يعني التجدد والبداية، فالشعب الفلسطيني لا يموت، وإنما يتجدد ويستعصى على الفناء، إنها حياة جديدة لا تعرف العدم.

وقد تنفتح دلالة النص إلى آفاق أوسع، فيدرك المتلقي أنها قد تستلهم صورة "الاستشهاد" الذي يمنح الحياة والخلود للشهيد كما جاء في التراث الإسلامي، ولعل" فلسفة الشهادة" المتعمقة في وجدان الانسان المسلم ، قد جعلت الشاعر يشحن خطابه الشعري بحمولات الدلالة والإيحاء التي يشتمل عليها سياق النص القرآني في قوله تعالى:) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ( ( آل عمران: 169 )؛ ليعلن من خلال هذا الالتحام النصي استمرارية الحياة بعد موت الشهيد، باعتبار أن موت الشهيد يعني انتهاء خطوة وبداية خطوة(النابلسي : 407 – 418 ).

إن التناص الذي وظفه الشاعر في بناء خطابه الشعري يوحي بسعة ثقافته وعمق معارفه، وأصالة خطابه، والإفادة منها ضمن أنساق تعبيرية متجددة تشي بخصوبة تجربته الشعرية وغنى رؤيته الإنسانية، ويعكس قدرته على إحداث المشاركة الوجدانية في الذات المتلقية.

ومن الظواهر الأسلوبية التي شغلت حيزاً واسعاً في القصيدة بنية التكرار؛ لما يقوم به من وظيفة دلالية، ووظيفة جمالية في آنٍ معاًَ، وقد تعددت أنماطه وألوانه، ومن أكثر تلك الأنماط شيوعا تكرار الشكل الرأسي من خلال تكرار اللفظ في بداية كل سطر أو جملة شعرية؛ الأمر الذي جعل الكلمة المكررة بؤرة ارتكاز، ذات كثافة عالية من حيث المعني والموسيقي(لأجلك غزة ص31):

هنا في هدوءِ الرَّصيفِ قتيل

هنا في انطِفاءِ الزّهورِ قتيل.

اتخذت الدالة المتكررة في المقطع السابق شكل التكرار المتوالي رأسياً، فهو يقع تارة في أول السطر"هنا" بحيث تبدو كأنها نقطة الارتكاز التي يتفرع منها الحدث، وعنها يتطور وينمو، وقد تقع الكلمة المتكررة في نهاية البيت مثل: "قتيل"، فتبدو كأنها نهاية الدفقة الشعورية المعنوية، أو كأنها النفس الأخير للذات في إبراز حدث منقضٍ؛ ولهذا النمط من التكرار حضور وافر في قصيدة "أمومة" ، لاسيما عند ذكر الأماكن المدنية الآمنة، ويشي بشدة تعلق الشاعر بالمكان وحضوره الدائم في وجدانه، وتأكيد مكانته، ورسوخه في عقله ووجدانه.

وقد استغل الشاعر الطاقات الإيحائية لدالة "هنا" اسم الإشارة التي أضفت على النص مزيداً من الجماليات؛ الأمر الذي أثرى الغنائية فيه؛ ذلك أن هذا التركيب المتردد من كلمتي "هنا، قتيل" يمثل طبيعة العلاقة الحميمية بالمكان ومفرداته وتفصيلاته غزة: مدنها وقراها، شوارعها وساحاتها، بيوتها ومدارسها، ويشير إلى مسرح الجريمة الذي شهد آثار العدوان الهمجي، وما خلفه هذا العدوان من قتلى أبرياء آمنين، يقول الشاعر(لأجلك غزة ص، 32،31):

هنا فوق عَتْبةِ بيتٍ يُهدْهِدُ ساكِنَهُ كي ينامَ قتيل
...هنا في استراحةِ سيِّدةٍ بَعدَ نشْرَةِ أخبارِ هذا المساء وما سيَلِيها قتيل
هنا في اتِّزانِ المذيعِ أمامَ الشَّريطِ المُصَوَّرِ للغارةِ الأَلفِ يَصحو قتيلٌ ويَغفو قتيل
...هنا فوقَ هذا السَّريرِ قتيل
هنا تحتَ هذا السَّريرِ قتيل.

والتكرار في حد ذاته وسيلة من الوسائل الشعرية التي يلجأ إليها الشاعر معتمداً على تأثير الكلمة المكررة في إحداث نتيجة معينة في العمل الشعري، ويصبح الترديد في النهاية محوراً للإيقاع الموسيقي كله، تؤدي فيه الإيقاعات الموسيقية: الظاهرة والخفية التي تتنوع بتنوع الإيقاع النفسي دوراً كبيراً في إثراء البنية الإيقاعية والقوافي الداخلية ذات الإيقاع النغمي.

وعلى المستوى التركيبي يلفت القارئ الحضور الكثيف لضمائر الذات الشاعرة التي تعد بؤرة الأحداث ومدار حركتها وفاعليتها. إذ يجد المتلقي تنوعاً في توظيف الضمائر باعتبارها عصب العمل الشعري (ياكبسون، ص 218) وقد توزعت ما بين ضمائر المخاطب والغائب والمتكلم(لأجلك غزة ص22):

انتظرني إذن فيَّ
سوف أوافيكَ بعد قليل
خرجتُ صباحاً لألقاكَ فيك
ولكنني لم أعُد بعد.

ويشير مقياس تردد الضمائر إلى أن ثمة حضوراً كثيفاً لضمائر الذات في صورها المتعددة، حيث تنفصل الذات ظاهرياً بالتمثل في صورة المخاطب سواء في الأفعال أو الأسماء، وتتمثل الذات كذلك من خلال ضمير المتكلم: " سألقي، لأنيَ، قاتلي)؛ لأن الذات الشاعرة هي التي تحمل هموم الذات الجمعية هموم الشعب(لأجلك غزة ص23):

سألقي السلام على كلِّ شيء لأنييَ فيه
على قاتلي المطمئنِّ الأنيق
وعينِ الصديق التي تترقَّبُ زهرَ خيانتهِ يتفتَّحُ
ما إن تسيل هنا في الممرِّ دماءُ الصديقْ!!!

ومن الظواهر الأسلوبية التي كان لها حضور لافت استخدام تقنية التنصيص والجمل الاعتراضية، إذ تضمنت مشاهد القصيدة تنصيصاً لبعض الجمل والعبارات الاعتراضية، وهذا الأسلوب يحمل المتلقي"على أن يتجه بالمفردة أو العبارة إلى المعنى الإيحائي، ويتحاشى المعنى المعجمي المباشر، أو تجاوز المعنى الأول إلى المعنى الثاني(القرالة ص 236)، وقد جاء تنصيص العبارات على النحو الآتي(لأجلك غزة ص32):

هنا في جَنيْنٍ - على حاجزٍ- يتفلَّتُ كي

يُمْسِكَ اسمَ أبيهِ لينجو قتيل.

إن التنصيص في السطر الأول يحمل دلالتين إحداهما: دلالة مكانية، إذ جعل دال" على حاجز" ينفتح على دلالات محفورة في وجدان الإنسان الفلسطيني، تجسد أشد ألوان المعاناة والمكابدة والألم التي يلقاها الإٌنسان العربي الفلسطيني على يد الجنود الصهاينة الذين ينصبون الحواجز التي تعيق حركة المواطنين وتسبب لهم الكثير من المذلة والألم النفسي، كما أنهم يمارسون الإهانة والإذلال للفلسطينيين عند تلك الحواجز، إذ يمنعون الأمهات من التوجه الى المشافي للولادة؛ الأمر الذي يجعل الأم تضطر إلى وضع جنينها على تلك الحواجز، فيولد الجنين ميتاً، وأما الدلالة الأخرى، فتعكس وحشية أولئك الجنود الصهاينة وقسوة معاملتهم التي تخلو من الرحمة والأحاسيس الإنسانية، حيث يرون الأمهات في هذه الحالة المؤلمة، فلا يتحرك لهم ضمير، ولا تهتز لهم مشاعر.
إن مثل هذه الجمل الاعتراضية تضفى على النص جملة من الدلالات التي تمكن الشاعر أن يوظفها ، إلى جانب أن"الجملة الاعتراضية تقوي الكلام، وتزيد تماسكه في الوقت الذي تفصل بين ركنين متلازمين، وهنا – بالضبط- تكمن المفارقة، فهي تدعم الكلام في الوقت الذي تجعله يبدو كأنه مفكك.."( ناظم، ص 182 ).

أدت البنية الدرامية في القصيدة دوراً محورياً في نقل تجربة الشاعر إلى المتلقي وتجسيد الحدث، وتتنوع طرائق هذه البنية ما بين سرد وحوار درامي بنوعيه: الداخلي والخارجي، والقطع المشهدي، التكثيف والتنوير. فالأديب إبراهيم نصر الله يجمع في تجربته الإبداعية بين الشعر والرواية، فكان لتجربته الروائية انعكاس في شعره، إذ مال إلى توظيف عناصر الفن الروائي وتقنياته في إبداعاته الشعرية، "ذلك أن عدداً ضخماً من قصائده يتوزعها السرد والشعر بطريقة جذابة، بحيث تبدو كل واحدة من هذه القصائد خطاباً شعرياً كثيفاً من جهة، ولكنه من جهة أخرى مشبع بالسرد إلى حد كبير، دون أن يفقد طبيعته الشعرية المهيمنة، أي أن حضور العناصر السردية لا يكون عبئاً على الشعر"( العلاق، ص 162 ).

فقد اضطلعت الذات الشاعرة في بعض مشاهد القصيدة بمهمة السرد أو الحكي، إذ يسرد الشاعر الأحداث وتتابعها، وكأنها صورة حية مسجلة يعاد في عرضها من خلال عدسة تصوير تلتقط مشاهد متتابعة، ويظهر السارد محايداً كأنه خارج المشهد.
والمتأمل في مقاطع القصيدة الثمانية، يجد أن القصيدة فيها نفس قصصي متنامٍ، وإبداعات تتكئ على توزيع الصور لموقف أو لحالة، والنفس القصصي من شأنه أن يرسل الدرامية مشحونة في أفعال حركية – هي السبيل إلى بدء السرد والاستمرار فيه
وقد اعتمدت البنية السردية على الإمكانات الإيحائية للأفعال والأسماء في نقل الأحداث مقترنة بزمان حدوثه ومكانه، وينقل مشاهد سردية ذات طابع حركي، موظفاً تقنية التقطيع المشهدي، يقول(لأجلك غزة ص25):

يتأمّلُ طفلٌ أباه الذي لم يزلْ واقفاً تحت شجرةِ توت
 ومنذ سنينٍ يراه يموت
 كأنَّ الزّمانَ هنا واقفٌ شبحاً في الزمان
 يتأمّلُ حقلٌ ذبولَ خطى النهرِ فجرا
 ويُنشِدُ مرثيةَ الروحِ، صمتاً، بلا شفةٍ أو لِسان
 يتأمّل زرْعٌ هبوبَ الخماسين
 في أعينِ الناسِ والحيوان.
بأسلوب سردي رسم الشاعر بعض المشاهد مسلطاً عليها عين ساردة؛ لتنقل مفردات تتعلق بالإنسان وما يتصل به من مفردات المكان والطبيعة المبعثرة: من شجرة توت وحقل ونهر. وهو مشهد يستحق من الذات الشاعرة التأمل.

ومن الطبيعي أن يضفي استخدام الجملة الفعلية الحركة على صور المبدع الشعرية، وطبيعي أيضاً أن يحقق لها قدراً من الإيقاع، فقد نقل الشاعر في هذا النص صوراً قاتمة عبرت عنها الأفعال المضارعة: يتأمّلُ، لم يزلْ، يراه، يموت، يتأمّلُ، يُنشِدُ، يتأمّل، إن توالي الأفعال المضارعة التي أسهمت في تنمية الحدث وتحريكه والأسماء المتنوعة التي تشي كذلك بالحركة والتدفق، قد أضفي على النص جواً من الأسى الطاغي والحزن والتوتر؛ لِما آل إليه الإنسان العربي الفلسطيني في ظل الحرب المسعورة المدمرة على غزة، وأسهم توظيف التكرار أيضاً في تقوية البنية السردية في نسيج الخطاب الشعري وتعميقه، وفي تواصل النسق المعبَّر عنه، وجعلها تتسم بالتكثيف والتركيز، بعيداً عن الرتابة أو الجنوح للنثرية أو تميع الخطرة الشعرية.

ومن عناصر البنية الدرامية إلى جانب السرد الحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي لما له من دور في تطوير الحوادث أو تقوية عنصر الدراما فيها، وكذلك في رسم للشخصيات والكشف عن مواقفها من الحوادث.
وظف الشاعر في مطلع المشهد السابع الذي يحمل عنوان" أمومة" تقنية الحوار الخارجي، متكئاً في ذلك على استيحاء الموروث الشعري العربي الذي يتمثل في المقدمة الطللية للقصيدة العربية؛ ليقيم بنية حوارية بين البيت وصاحبه، يقول(لأجلك غزة ص29):

قالَ لي البيتُ:

سُوريَ عالٍ وكلُّ جدارٍ هنا قلْعَة

والنوافذُ تحرسُ سرَّ المكان.

تشير القراءة إلى أن الشاعر بدأ مشهده بداية مشابهة لما كان يبدأ به الشاعر العربي التراثي قصيدته، من وقوف على الأطلال والديار ومحاورتها، واصفاً ما حلَ بها من خراب ودمار ورحيل أهلها عنها، بيد أن الشاعر المعاصر لم يقف عند هذا التشابه في البداية؛ وإنما عمد إلى إدخال تحوير في دلالة النص، والانزياح به إلى فضاء مغاير، فجعل"البيت" / رمز الوطن هو الذي يحاور الذات الشاعرة/ صاحب البيت، ويعبر له عن معاني الصمد والثبات، ويشحن نفسه بمعاني الأمل والطمأنينة، ويدفع عنه الجزع والخوف، بالرغم مما حلّ بالبيت من خراب وهدم ودمار، وما أصاب قاطنيه من فزع وموت وتقتيل.

إن البنية الحوارية بين البيت وصاحبه تستمد مادتها وعناصرها من مفردات المكان/ البيت ذات الطابع الفلسطيني من سور ونوافذ وأشجار وزيتون ونبات الياسمين والقرنفل والبنفسج، ومن بحر ونهر وكل عنصر من هذه العناصر تمثل بوابة من بوابات فلسطين .
إن استدعاء الطللية التراثية أدى دوراً مهماً في إعادة إنتاج الدلالة، وتعميق المغزى الكامن وراء الدلالة، فضلاً عن أن تعدد الضمائر وتنوعها ما بين ضمير الغائب والمخاطب والمتكلم، قد أفضى إلى نمو الحدث وتدفقه، وأكسب فضاء النص الحيوية والحركة، وغدت صيغة" قال لي البيت" التي ترددت في النص الشعري ثلاث مرات لازمة شعرية، فشكلت بذلك رابطاً نفسياً وفكرياً معاً، فغدت بؤرة النص ومرتكزه الأساس، وأسهمت في تقوية بنيته.

أما بنية الحوار الداخلي، فقد أدت دوراً فاعلاً في كشف توتر الذات وصراعها، فعندما أحس الشاعر بحدوث التناقض الحاد بين مفردات الواقع المعيش الذي يتسم أحيانا بالظلم والجبروت وضياع نسق بعض القيم والمثل العليا، وبين الذات وطموحاتها في الوصول إلى عالم أفضل يسوده العدل والخير؛ فإن الهروب إلى الذات كملاذ يصبح شيئاً أساسياً فى تكوين رؤية الشاعر وموقفه؛ حتى تتمكن الذات من تعويض ما افتقدته فى ذلك العالم المرفوض، يقول الشاعر وقد جرد من نفسه إنساناً آخر يناجيه(لأجلك غزة ص21):

انتظرني إذن فيَّ
سوف أوافيكَ بعد قليل
خرجتُ صباحاً لألقاكَ فيك
ولكنني لم أعُد بعدُ
اجلِسْ هنا واستعِرْ دفتري ودواتيَ واكتبْ قصيدتكَ الآن
عن حُلُمٍ ذاهبٍ للقائك.

لعل الانكفاء على الذات يبدو من مطالعة المتلقي لعنوان المشهد الثاني" ذاهب للقائك
"بما يوحى به ضمير المخاطب الذي يتساوى دلالياً مع ضمير المتكلم –أنا-، هذا التوحد مع الذات يتبدى كدالة أساسية فى كل جوانب المشهد. هذا الانكفاء على الذات مرجعه إلى الإحساس بمرارة الواقع وقسوته والصراع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.

وقد كشفت الأسطر السابقة عن صراع نفسي عميق يحتدم داخل الذات ويلصقها بواقعها، بل إنها تتوحد وتندمج مع الشخص الذي تناجيه، "ربما لهذا أتت الحوارية الدائرة في المشهد أقرب إلى المناجاة التي يخاطب الإنسان فيها ذاته، ولعل هذا يؤكده وحدة الصوت المحاور، إذ الصوت الآخر لم يرد طوال المشهد.. وكأن الذات اشتقت من نفسها أنيساً تتجه إليه بالحوار، وتفضي إليه، أو كأن العنوان" ذاهب للقائك" يكشف عن ذات تبحث عن ذاتها في ذاتها"(خفاجي).

  ويأتي الهروب أيضا أحد وسيلة من وسائل الذات فى مواجهة الواقع المعيش، إنه هروب إلى التضحية والفداء وبذل المهج الغالية في سبيل الوطن، فالفلسطيني هو الذي يتحتم عليه أن يبذل روحه في سبيل تحرير وطنه وصد المعتدي الغاشم. يقول الشاعر في ختام مشهده(لأجلك غزة ص23):

انتظرني هنا فيَّ،

سوف أوافيكَ بعد قليل

أنا ذاهبٌ كي أموتَ مكانَك.

وعلى مستوى الضمائر، فإن الشاعر تمكن من أن يتحكم الشاعر في تقنية الالتفات، فينتقل من المتكلم (الذات (إلى المخاطب(الغير)، من أجل خلق تواصل درامي قوامه التعاطف والمعايشة الوجدانية المشتركة.

ج - الصورة الفنية:

شغلت الصورة عند الشاعر إبراهيم نصرالله حيزاً واسعاً ومهماً من التوهج والتكثيف، فهو يوظف عناصر عدة في صياغة لوحاته وتشكيلها: كالارتكاز على الطبيعة التي هيمنت مفرداتها ودوالها على خيال الشاعر؛ لأنها الأم الرءوم التي ولد الفلسطيني في أحضانها ورضع قيمها ومثلها، وترعرع في جنباتها، فهو يعي كل تفاصيلها ومعالمها؛ الأمر الذي أتاح له استقصاء مفرداتها وصورها ومشاهدها وتتبع جزئياتها الدقيقة التي لا يلتفت إليها إلا ابن فلسطين، فطبيعة فلسطين هي النبع الثر الذي تنهل منه الذات الشاعرة مشاهدها وصورها، وهي ترفده بزاد وفير من الأخيلة، يقول الشاعر في أحد مشاهده(لأجلك غزة ص30):

ثَمَّ بحرٌ أنيسٌ يُعلِّمُ أطفالَنا العَوْمَ في ساعةِ الظُّهر
يحْمي النّوارسَ من كلِّ شر
ويعرفُنا في الليالي الطّوالْ
ويفهمُنا كالنّدى والظِّلالْ
خلْفَ بيّارةِ الموزِ نهرٌ صغير
يُغنّي لطفلٍ على خشبِ الصَّلْب
يغسِلُ أرجلَهُ بالبنفسج
جبْهتَه ببياضِ القُرنفل والياسمين
ويهمسُ: كنْ قمراً للجَمال.

تكشف هذه اللوحة المتكاملة والمكونة من عدد من الصور الفنية الجزئية عن علاقة اندماج وانصهار وتوحّد بين عالم الشاعر وعالم الطبيعة، وقد اعتمد في بناء لوحته على تقنية الانزياحات البلاغية التي تتحول فيها الكائنات الحية والجامدة إلى عناصر إنسانية أضفى عليها الحياة والحركة، فغدا البحر إنساناً أنيساً يعلم، ويحمي النوارس، ويعرف أهل شاطئه، ويفهمهم، ويتعاطف معهم، إنه يمزج بين رؤيته ومواقفه وعنصر البحر والنوارس والندى والظلال مزجاً رائعاً، ويوحّد بينها على نحو يشي باقتداره ومهارته في رسم مشاهده.

لقد أدت الصورة اللونية أيضاً دوراً مكملاً في تشكيل صوره وتجسيد تجربته وتعميق الإحساس؛ بوصفها من المفاتيح المهمة في فهم التجربة والوصول الى المغزى الكامن وراء النصوص.

والمتتبع للصور اللونية في هذا المقطع يلحظ غلبة اللون الأبيض بدلالته المباشرة وغير المباشرة، كما يتضح من هذه الشواهد:" البحر، النوارس، الندى، بياضِ القُرنفل، الياسمين، القمر" وهذه الدوال ترمز إلى الطهارة والنقاء والنورانية والضياء والحب الإنساني، وقد يقترن اللون الأبيض باللون الأخضر" الظلال، بيارة الموز" بما يوحي به من خير وخصوبة.

إن توظيف اللون الأبيض وما يثيره من رموز وإيحاءات ينسجم مع الجو النفسي والفكري الذي يريد الشاعر التعبير عنه، حيث تبرز المفارقة بشكل واضح جلي، حين يدرك المتلقي أن هذا العالم المفعم بالضياء والنقاء والنور قد تحول على يد المعتدي في حرب غزة إلى قتامة ودمار وكراهية وبغض، إنه قتل للروح الإنسانية حتى في الزهور والقمر، وبذلك تجسد الصورة ثنائية الصراع بين الخير والشر.

ولعب التضاد اللوني بين اللونين الأبيض والأسود دوراً مهماً في ترسيخ تجربة الشاعر والمغزى الذي يرمي إلى التعبير عنه وهو إبراز الفرق بين عالمين متناقضين، عالم الغرب بما يعج به من ظلم وقتل ودمار وقتامة وقيم مهترئة، وعالم الشرق بما يشع به من سلام وخير وعدل وحضارة، يقول الشاعر(لأجلك غزة ص32 ):

خُذيني إلى الشرقِ، يهتفُ حلْمٌ لقُبَّرةٍ لا تحبُّ الضّباب
خُذيني إلى ما تبقَّى هنالكَ من أبيضٍ،
للنّوارسِ يهتفُ هذا الغراب.

المتأمل في توظيف الشاعر للألوان، يجد أنه قد وزعها على حقلين متعارضين في سياقات تقابلية، هما: اللون الأبيض والأسود، ليبرز تناقض الواقع، وما فيه من ثنائيات، فدال" أبيض النوارس" يشيران إلى الشرق والحب والخير والسلام، أما الضباب والغراب الأسود، فيعكسان صورة العالم الغربي بما فيه من شرور ودمار وخراب، وقد اختار الشاعر رموزه من عالم الطيور:" القبرة، النوارس، الغراب" لأنها تحمل دلالات الرحيل والتنقل والسفر، وجاء استثماره لهذا التضاد اللوني متماشياً مع رؤيته الخاصة للواقع الفلسطيني المعيش في ظل الحرب الهمجية على غزة، إنه يمتاح رموزه من الواقع، ويضيف إليه وينميه.

لقد تمكن الشاعر من خلال استخدام تراكيبه اللغوية وصيغه الأسلوبية من سبر أغوار الألوان كلها، وامتصاص قدرتها في تجسيد حركة الصراع الفلسطيني عبر الزمان والمكان؛ بغرض الحصول على الحرية وفك الحصار الظالم الخانق على أهل غزة الذي يعزلهم عن العالم الخارجي، ويعزل المدن والقرى عن بعضها بعضاً، بحيث يغدو التنقل بين هذه المدن والقرى يمثل معاناة حقيقية للسكان المدنيين الفلسطينيين.
ويعول الشاعر في بناء عالمه الشعري ورسم صوره على عنصر"الحلم" هرباً من الواقع الذي يفيض بالظلم والعدوان وإلغاء كل ما هو معقول، يقول الشاعر في صور حلمية متتابعة(لأجلك غزة، ص30):

قالَ لي البيت:
لا ترتعِدْ إن رأيتَ سماءً مُعلَّقةً من ضفائرها
تتدَلَّى من السَّقف
أو إن رأيتَ ذراعَ فتى - ليُعيِدَ السماءَ إلى نفسها- يتسلَّقُ في الليلِ جذْعَ النّخيل
أو رأيتَ غزالاً يُطلُّ من النَّعْش
أو نجمةً تتعثَّرُ كالطّفلِ خلْفَ دليل.

هذه اللوحة تجذب المتلقي ببنائها التصويري الأخاذ، وهي تبدو أشبه بصور حلمية ممتدة وغير مألوفة تمتاح عناصرها وجزئياتها من الواقع الدامي للإنسان العربي الفلسطيني في غزة في ظل الحرب، وتكشفه وتعايشه، وتضعه أمام ذاكرة المتلقي، وتستمد مادتها أيضاً من عالم الطبيعة المحسوس، ولكن الشاعر يعيد تشكيل هذه العناصر وفق رؤاه الحلمية. إن هذه الصور التي وظفها الشاعر دالة برموزها النفسية واللونية، وتعبر عن رغبة الذات الشاعرة في التخلص من الحصار وواقعها المتناقض، وهي في ذلك لا تنفصل عن الواقع المعيش، وإنما تبدو مرادفة ومعادلاً ًله.

اتكأ الشاعر في رسمه لعدد من المشاهد في القصيدة على توظيف الصورة الحركية التي تشكل العنصر الأساس في تلك اللوحة، فقد تقاطرت الأفعال المضارعة؛ لتعكس الواقع المأساوي الذي يعيشه الشاعر مثل:" علّق، تتدلي، تقيد، تتسلق، يطل، تتعثر"، إن هذه الصورة الحركية تنسجم والجو العام السائد في النص ، وهي تبعث الحياة وتبث الحركة في الوجود والأحياء.

اعتمد الشاعر في أبنيته على عنصر التضاد الذي يؤدي دوراً نشطاً في ترسيخ "المفارقة" وتأكيد ثنائية"الخير" و"الشر" في إبراز تناقضات الواقع أو على المقابلة بين عناصر الواقع في شيء من السخرية الدامعة التي تقود إلى النقد اللاذع للضمير الإنساني الذي أغمض عينيه عن هذه جرائم الصهاينة البشعة، وغدا فيه العالم الغربي منحازاً للمحتلين، يدين الضحية ويبرئ القاتل، يقول الشاعر في قصيد "مفارقات" (لأجلك غزة ص26):

هنا أُفقٌ عالقٌ بسحَابة
طريقٌ هنا عالقٌ بخطى هِرَّة
ومحيطٌ بصنّارة
رجلٌ محترم عالق بإشارة
وفلسفةٌ ببقايا بِشارَةْ!
ونسْرٌ بأرنبة
وثلاثونَ طيراً محلقةٌ بجناحِ ذبابةْ!

تحققت الثنائية والمقابلة في هذا المقطع من خلال تعويل الشاعر على عنصر التضاد الذي تتولد منه التقابلات القائمة على التوهم، وهي تتجسد في كثير من المشاهد التي يبصر فيها الشاعر انكسارات الواقع المعيش و يعيد بناءها؛ ليعمق إحساس المتلقي بفداحة هذه الجرائم. فقد رسم الشاعر صوراً للواقع الذي يغصّ بالتناقضات العجيبة من خلال التقابلات التصويرية التي تكشف الواقع وتعريه.

ازدحمت في هذا المشهد الصور الفنية التي كشفت واقع الإنسان العربي في غزة في ظل العدوان الظالم متناقضاته وسلبياته، وتشابكت الدلالة المروعة التي أضفاها الشاعر على الواقع الراهن وهو يعيد روايته، وفي بنية شديدة البساطة، بالغة الكثافة والتركيز جسد الشاعر المغزى الكامن في قصيدته، إنها الثنائية الكبرى التي تواجهها المخلوقات كلها: ثنائية الخير والشر، الحق والباطل.
تبين من هذه المفارقات موقف الشاعر الذي غدا رافضاً للواقع المرير، و تحولت صوره إلى شهادة تدين هذا العصر لاسيما تلك الدول والمنظمات التي صمتت عن جرائم المعتدين، وسوغت لها.

وفي مشهد آخر يعمد الشاعر الى امتياح مادة لوحاته وصوره من الواقع اليومي المعيش للإنسان العربي الفلسطيني في ظل الحرب، فهو يعرض صوراً متتابعة متلاحقة للجرائم البشعة التي اقترفها المعتدون الصهاينة في حق الأبرياء من: الشيوخ والشباب والأطفال والنساء، ومحاولة قواته العسكرية إذلال الشعب الفلسطيني وإهانته، فقابيل الأحمر في كل مكان، بل إن في كل بقعة في غزة جريمة قتل، يقول الشاعر(لأجلك غزة ص32 ):

هنا في خُطى القُبَّراتِ على خيْطِ نُورٍ،
هنا في حقيبةِ تلميذةٍ،
فوقَ مَقْعَدِ درْسٍ، على صمتِ شُبّاكِ صفٍّ تَعلَّمَ اسمَ الصباح
فصادقَ شمساً وعشرينَ طائرَ دُوريْ قتيل
هنا في الأغاني، القصائدِ، في لوحةٍ حَلَّقَتْ حينما التهموا البيتَ قَبلَ الغروبِ قتيل
هنا في لقاءِ سنونو بظلِّ الفراشةِ فوقَ المياهِ قتيل
هنا في ابتساماتِ عاشقةٍ تتساقطُ مثلَ الخريفِ قتيل.

من يتأمل الصورة التي رسمها الشاعر، يكتشف أن صورة القتل الوحشي لكل عناصر الحياة في غزة لم تفارق مخيلته، وإنما ظلت تلازمه وتحاصره بتفصيلاتها المؤلمة، وهو بذلك يكشف عن بشاعة المحتل وجرائمه، إذ إن جميع صور القتلى الذين ذكروا هم من المدنيين الأبرياء، قد تواجدوا في أماكن مدنية، وليس ثمة مكان منها يشير إلى أنه مكان عسكري أو قاعدة أو موقع مسلح، وهو بذلك يدحض مزاعم العدو وأكاذيبه التي سوغ لنفسه أمام العالم قصف تلك الأماكن بالأسلحة المحرمة دولياً.
ويعمد الشاعر في رسم لوحاته الفنية إلى استعارة تقنيات فن السينما، فيستخدم آلة التصوير في نقل مشاهده المتتابعة المتلاحقة، ففي قصيدة" تأملات" تتحول الريشة فى يده إلى آلة التصوير ترصد كل لحظات المشهد؛ ليأخذ النص طابعه الإنساني فى لحظات القوة والضعف، الأمل واليأس، الموت والبعث، فتنفتح عدسة آلة التصوير التي يدعها الشاعر تتكلم وتنقل الواقع المعيش في ظل الحرب بجزئياته ومفرداته من خلال توالي المشاهد وتتابعها، بدون أن يتدخل في رسمها تدخلاً مباشراً، إنه السارد المحايد الذي يظل خارج الصورة، يقول في لوحة" تأملات" (لأجلك غزة ص24):

يتأمّلُ غيمٌ بلاداً على حافَّةِ الهذيانْ.

ثم تنتقل عدسة المصور/ السارد إلى مشهد آخر من المشاهد التي تربطه بالثيمة المحورية للقصيدة، فيقول(لأجلك غزة ص24):

تتأمّلُ عاشقةٌ نافذة
لم تجدْ أفْقَها منذ عامينِ في عَتَمَاتِ المكانْ
يتأمّلُ طفلٌ أباه الذي لم يزلْ واقفاً تحت شجرةِ توت
ومنذ سنينٍ يراه يموت
كأنَّ الزّمانَ هنا واقفٌ شبحاً في الزمانْ.

ويغلق المصور/ الشاعر عدسة آلته بمشهد من المشاهد المتعددة التي التقطتها؛ ليجسد ملامح تجربته الإنسانية، فيقول(لأجلك غزة ص26):

تتأمّلُ حربٌ حقولاً من الموتِ لا تنتهي
ونساءً بلونِ السَّواد
يَسِرْنَ على خطِّ دمعٍ رفيعٍ ويذبلْنَ قبل الأوان
تتأمّلُ عصفورةٌ كلَّ هذا
ولكنّها لا تكفُّ عن الطيرانْ!

وعلى الرغم من تعدد المشاهد واللوحات التي التقطتها عدسة المصور التي أكدت رؤيته في رصد الواقع المؤلم المحاط بالانكسار والضياع وانقلاب الموازين، فإنه لم يفقد الأمل، ولم يدب اليأس إلى نفسه، فأخذ يشحن النفوس بالإيمان بحتمية تجدد الحياة، والثقة في الانتصار والاستمرار في المقاومة والتحدي، فالعصفورة التي تعد رمزاً للإنسان العربي الفلسطيني في غزة ما تزال قادرة على التحليق في سماء النصر والثورة والقوة والعزة.
 المتتبع للتصوير الفني في هذه القصيدة، يتبين له أن أهم سمة من سمات النص الحديث تتجلى بوضوح فى هذا الديوان هى "المشهدية" التى ترتكز على خلق مشهد كامل بجميع تفاصيله الدقيقة اعتمادا على التفكيك ليتحول اليومي والمعيش وتفاصيل الحياة اليومية البسيطة والهامشية الى حجر زاوية فى بناء النص الشعري من ناحية، وتشكيل المعجم الشعري من ناحية أخرى؛ ليجد المتلقي نفسه أمام مجموعة كبيرة من المشاهد المختلفة تجتمع فى إطار واحد هو وجود الذات وحضورها.

د ـ البنية الإيقاعية:

تناغمت البنية الإيقاعية مع غيرها من الأبنية في الإيحاء بجو التجربة وما صاحبها من صراع محتدم بين الخير والشر، فقد أسهم التشكيل الإيقاعي إسهاماً فاعلاً في إثراء أسلوبية الإيقاع الشعري من خلال التنويعات والتداخلات الإيقاعية، فالنصوص الشعرية في القصيدة غنية بالصور الصوتية والإيقاعية.

وقد تشكلت البنية الإيقاعية في هذه القصيدة من عناصر متنوعة منها الإيقاعات المتولدة من تفعيلتي بحر المتدارك( ستة مقاطع) بتفعيلته المتكررة " فاعلن"، والبحر المتقارب (مقطعان) بتفعيلته المتكررة" فعولن"، ولا يختلف هذان البحران في بنيتهما الموسيقية، فهما ينتميان الى دائرة عروضية واحدة ، حيث تتردد تفعيلة " فاعلن" بصورها المختلفة (فعلن، فعَل ، فعلن، فعلان) وتفعيلة" فعولن" بصورها المتنوعة" فعولُ، فعو، فعولْ. إن مثل هذا التنوع والتعدد قي أشكال التفعيلة يتيح للمبدع حرية أكثر للتعبير عن انفعالاته الحسية، يقول الشاعر(لأجلك غزة ص25):

يتأمّل زرْعٌ هبوبَ الخماسين
في أعينِ الناسِ والحيوان
تتأمّلُ هذي الدُّمى طفلة
فوق ذاكَ الرصيفِ تُشير بجبهتِها نحوَها
واليدانِ مقطَّعتان
يتأمّلُ جسمٌ بقاياه في السجن
كيفَ تلاشى
ولم يبقَ من كلِّ أوصافِهِ غيرُ شكْلِ الرّمادِ وطعمِ الدُّخان.

أوحت تفعيلات بحر المتدارك بحركاته المتلاحقة والمتتابعة بما يضطرم في نفس الشاعر من أحاسيس الغضب والألم والقلق، وتوافقت أيضاً كثرة زحافاته وما يلحقها من اضطراب عروضي مع جو الاضطراب المهيمن على أجواء الحرب على غزة، وتجاوبت مع الإيقاع الحركي المصاحب لتلك الأجواء.
إن هذا الثراء النغمي يرجع الى الإمكانات الإيقاعية التي تنبثق من الصور المتعددة لتفعيلة المتدارك المتدفقة عبر الأسطر الشعرية التي تجسد حالة التوتر للذات الشاعرة عندما تتراءى لها مشاهد الألم والعذاب، وهي تنسجم أيضاً مع حالة الاضطراب التي يعانيها الشاعر(لأجلك غزة ص20):

خُذيني إلى السَّفح، يهمسُ بابٌ لنافذة
منذ عامين تؤلمني العتباتْ!
خُذيني إلى زرقة ليس فيها انحناءٌ، يقولُ لقافلةٍ
تعبرُ الدَّربَ منهكةً في الظلامِ، النّخيل
أعدْني لبيتيَ، يهمسُ للموتِ، طفلٌ قتيل.

أدى إيقاع بحر المتقارب أيضا دوراً بارزاً في تأسيس البنية الإيقاعية في النص، ذلك أن تكرار تفعيلة فعولن وتتابعها يأتي متماوجا مع تماوج النفس الشاعرة وتتابع هذه الصورة من التفعيلة لا يحدث نتوءاً ولا نشازاً في الإيقاع الموسيقي، وإنما يتحقق لون من الانسجام والتوافق حسب السياق الشعري والتدفق الشعوري.

ومن خصائص بحر المتقارب الغنائية قدرته على الكشف عن التجارب الذاتية التي تميل الى التأمل والاستبطان، لقد اضطلع إيقاع كل من بحر المتقارب دوراً محورياً في تعميق الإيقاع النفسي وفي خلق نغمات وإيقاعات أخرى تتوافق مع الإيقاع الخارجي.
وأسهم التدوير أيضاً في الاقتراب من تحقيق البناء العضوي المتكامل، إذ يقوم بناء النص الإيقاعي على بنية التدوير التي تجعل القصيدة دفعة شعورية واحدة، وتحقق الانسجام بين الإيقاعيين النفسي والنغمي.

أما القافية شبة المنتظمة التي تعد عنصراً جوهرياً من عناصر الإيقاع النغمي عبر الأسطر الشعرية فقد اضطلعت بدور بارزً في إثراء الموسيقي، يقول الشاعر(لأجلك غزة ص25):

تتأمّلُ هذي الدُّمى طفلة
فوق ذاكَ الرصيفِ تُشير بجبهتِها نحوَها
واليدانِ مقطَّعتانْ
يتأمّلُ جسمٌ بقاياه في السجن
كيفَ تلاشى
ولم يبقَ من كلِّ أوصافِهِ غيرُ شكْلِ الرّمادِ وطعمِ الدُّخانْ
يتأمّل وجهٌ ملامحهُ في المرايا
ويبكي: المرايا كما الناس ذاكرةٌ من ضباب
ويسألها هاذيا
أين ريحي وقامتُها
أينَ ذاكَ الحصانْ؟!
تتأمّل أغنيةٌ خطْوَها في ارتعاشةِ حنجرةٍ يَبِسَت وكَمانْ.

من يتأمل القيم الإيقاعية المتولدة من القافية، يجد أنها غالبا ما تنتهي بصوتين ساكنين مثل:" مقطعتان، الدخان، الحصان، كمانْ"؛ الأمر الذي جعل الصوت فيه بارزاً وواضحاً في السمع من ناحية، بالإضافة إلى أن تردد صوت النون وهو صوت مجهور متوسط بين الشدة والرخاوة، ولعل تواصل ذبذباته وترددها عبر السطر، بالإضافة إلى ما للتنوين من دور فاعل قد شكل إيقاعا نغميا ثراً، وأسهم في رفد موسيقي القافية، وغناء التجربة، وقد جاءت الإيقاعات المنبعثة من القافية متناغمة مع حالة الشاعر النفسية الحزينة، والمغزى الكامن وراء الدلالة.

وفي مشهد آخر أدت القافية دوراً في خلق موسيقى خاصة تلاءمت مع المغزى الذي أراده الشاعر، حيث إن الصوت كما يرى( بوب) يجب" أن يبدو صدى للمعنى"( ياكسون،ص 54 )، يقول الشاعر في المشهد الثالث"سلام"(لأجلك غزة ص23):

سألقي السلام على كلِّ شيء لأنيَ فيه
على قاتلي المطمئنِّ الأنيقْ
وعينِ الصديق التي تترقَّبُ زهرَ خيانتهِ يتفتَّحُ
ما إن تسيل هنا في الممرِّ دماءُ الصديقْ!!!

استثمر الشاعر الطاقات النغمية التي تكتنز بها أصوات القافية(القاف المقيدة المسبوقة بحرف المد الياء )، وهو صوت انفجاري شديد يحتاج النطق به إلى جهد عضلي يزيد على حاجة أي صوت آخر(أنيس، ص 66)، وقد جاء الإيقاع النغمي للقافية متسقا مع ألفاظ القصيدة، متناسقاً مع مشاعر التوجع والألم الممزوجة بالسخرية المرة من ممارسات المحتل الوحشية، ومنطوياً على غير قليل من التبرم والغضب والانفعال والتأثر، واعتماد صوت (القاف) المقيدة الروي يثير تردده جواً من التوتر الحاد، ويوحي بارتفاع نبرة التهديد والوعيد لأولئك الذين يتخذون من العدو صديقاًً، ويخونون دينهم وأمتهم.
ومن تقنيات النغم التي استثمرها الشاعر في تشكيل إيقاع خطابه الشعري إلحاحه على تكرار الدوال التي تعتمد على الصوائت الطويلة ( الألف، الواو، الياء ) داخل التشكيل الموسيقي للوزن والقافية؛ بهدف إثراء البنية الإيقاعية، وتحقيق الاكتناز النغمي، والوضوح السمعي للنص من أجل التأثير في الذات المتلقية، يقول الشاعر(لأجلك غزة ص31):

هنا في هدوءِ الرَّصيفِ قتيل
هنا في انطِفاءِ الزّهورِ قتيل
هنا فوق عَتْبةِ بيتٍ يُهدْهِدُ ساكِنَهُ كي ينامَ قتيل
هنا في الأغاني، القصائدِ، في لوحةٍ حَلَّقَتْ حينما
التهموا البيتَ قَبلَ الغروبِ قتيل
هنا في لقاءِ سنونو بظلِّ الفراشةِ فوقَ المياهِ قتيل
هنا في ابتساماتِ عاشقةٍ تتساقطُ مثلَ الخريفِ قتيل.

قامت أصوات المد والمماثلة والتوازي اللفظي في هذا المقطع بإضفاء نغمات إيقاعية على المشهد الشعري الذي ينساب منه نغم شاعري متولد من تكرار بعض الوحدات النغمية الناتجة عن التفعيلات العفوية التي حققت بعضاً من التناسب الهرموني للنص الشعري. وهذا التكرار الصوتي ساعد على غنى البنية الإيقاعية، ووضوح الجرس الموسيقي من ناحية التكرار، وإنتاج الدلالة وتعميقها من ناحية أخرى .
ومن الظواهر الصوتية التي أدت دورها في تعميق الإيقاع الصوت؛ تكرار صوت واحد غير مرة في السطر الواحد مكوناً بذلك ما يشبه الضفيرةِِ الصوتية، ويشيع ذلك في الأصوات الحزينة كتردد صوت النون، مثل قول الشاعر(لأجلك غزة ص27):

الطيورُ التي لم نكنْ في القديمِ نراها هنا

فوقَ أسطحنا وحوافِّ نوافذنا تتقافزُ باحثةً عن رقائقَ كانت تُسمّى البطاطا

على بُعْدِ شبرينِ منّا تحدِّق في وجهنا

وتُغنِّي لنا.

لم تعُدْ خائفة!!


اتكأ الشاعر في هذا المجتزأ على تكرار صوت النون غير مرة، وهذا التكرار إلى جانب التماثل النغمي المنبعث من التنوين الظاهر الذي يسمح بنوع من الترجيع النغمي يسهم في غني البنية الإيقاعية، ويشكل إيقاعا ثراً يتناغم والجو النفسي، ويكسب الإيقاع جرساً خاصاَ ونغمات إضافية.

وتشير القراءة إلى أن الإيقاع النغمي الذي يشيع في جسد القصيدة إيقاع متدفق، غير مضطرب, ولعل سبب هذا التدفق والانسجام هو حرص الشاعر الشديد والواعي على انتقاء المفردات، وتنظيم توافقها داخل النص.

وعلى هذا النحو تآزرت الأبنية والتراكيب بمستوياتها المتنوعة في الخطاب الشعري للشاعر إبراهيم نصر الله وتناغمت ؛ لتجسيد تجربته الإنسانية المؤلمة، وتحديد موقفه من الحرب على غزة، والكشف عن طبيعة الصراع المحتدم بين "صناع الحياة" و"صناع الموت"، وإيمانه بحتمية النصر على المعتدين المحتلين.

المصادر والمراجع:

 إمام، إمام : معجم ديانات وأساطير العالم، مكتبة مدبــولي بالقاهــرة، المجلدات( 1-3)، ( د. ت).
 حماسة، محمد عبد اللطيف،: منهج التحليل النصي للقصيدة تنظير وتطبيق، مجلة فصول مجلد 15 عدد الثالث 1996، ص 121 ، 122 .
 لأجلك غزة، ديوان الشعراء العرب في معركة الفرقان 2009 م ، جمع وإعداد د. موسى أبو دقة ، ط أولى، منشورات منتدى أمجاد غزة، 2009 .
 ناظم، حسن: البنى الأسلوبية (دراسة في أنشودة المطر للسياب)، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1 / 2002.
 القراله، زياد: التشكيل اللغوي وأثره في المعنى، دراسة تطبيقية ، مجلد 17 ،عدد 1 ، 2009
 النقاش، رجاء،1973: شعراء المقاومة، ط3،المؤسسة العربية للدراسات، ببيروت .
 فضل، صلاح: أساليب الشعرية المعاصرة، ط أولى، دار الآداب، بيروت، 1995 .
 زايد، عشري:استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط،1 ،1978 م.
 المتنبي: ديوان المتنبي، تحقيق عبد المنعم خفاجي وآخرون، مكتبة مصر ، القاهرة، 1964.
 ياكسون، رومان. ( 1988 ). قضايا الشعرية. ترجمة محمد الولي، ومبارك حنون. دار توبقال. المغرب.
 أنيس، إبراهيم: الأصوات اللغوية،مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة ( د . ت ).
 العلاق، جعفر، الدلالة المرئية، دار الشروق، عمان 2000 .
 مفتاح ، محمد: عتبات النص ـ المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء ـ المغرب ـ ط1 ـ 1987.
 خفاجى، عبدالجواد: من العتبة إلى مضمرات النص (مقاربة سيميائية لقصيدة «تحت زيتونة تشتهي أن تعيش» للشاعر الفلسطيني إبراهيم نصرالله):

السيرة الذاتية للشاعر إبراهيم نصر الله

للشاعر إبراهيم نصر الله

[1(Genette, ,p: 12).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى