الأحد ٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
بقلم جورج سلوم

تنقيب..في منجم الحب

لم أكتب شيئاً في أدب المناجم..

أصلاً لا أعرف ما هو أدب المناجم.. إذ أنني لم أتلقَّ دراسة أكاديمية في الآداب.. لكن الأمر ليس معقداً.. فالوعاء ينضح بما فيه

ولو حاولتَ الولوج مثلاً إلى أدب السجون.. فلا داع لأن تُسجن أولاً..فقلبك مسجونٌ بين الضلوع.. وكلماتك مسجونة خلف قضبان الرقابة..

أما الأدب الساخر فما هو إلا نوعٌ من العضّ على الجرح.. لذا غالباً ما يكون مؤلماً..

والإيروتيكي تنطلق به من فراش الذكريات.. والكتابة فيه أشدّ إيلاماً على وسادة فارغة.. أو بجانب حمّالة صدر منسيّة قصداً على سريرك..

فهل يتوجّب عليّ الدّخول إلى أحد المناجم لأستلهمَ أدبياتٍ أكتبها؟

هذا ما سِرْتُ إليه..

لذا هِمْتُ يومها في الأرض على غير هدى..باحثاً عن منجمٍ أصوغ من هديه كلماتي..ويكون مبتدأ لخَبَري

هذه حفرة قد تكون مدخلاً لمنجمٍ ما..مظلمة وتؤدي إلى سرداب عميق..لا أصواتَ معاول ولا ضجيجَ للعمال.. هدوءٌ مخلوطٌ بخوف المفاجآت..وظلامٌ يستجدي النورَ كبصيصٍ للأمل.. ماهذه العظام البشرية تفترش المكان؟...وأجابني ملاك الموت ساخراً:

 هذه مقبرة قديمة أيها المستكشف.. هنا ستتعلّم أدب الجماجم وليس المناجم.. وهو أيضاً جديد عليك!.. نكتبه نحن ملائكة الموت على صفحاتٍ سرمدية.. نقرؤها للديّان الأعظم في محكمة النقد الأزلية..

كان الهروب من باب أولى..والاعتذار من استضافة ملاك الموت جاء من باب التأجيل فقط..إذ وعدته بأنني قادمٌ إليه لا محالة..

لذا عاودتُ الضرب في الأرض على غير هدى

هذا مدخلٌ لمنجمٍ قديم محفور في الصخر..وهذه بقايا سكة الحديد التي كانوا يحملون عليها الأحجار..قد يُفضي إلى مقلعٍ للأحجار الكريمة أو كنز من الذهب والفضة..هيا بنا نغوص في غيهب المكان..والنور الكشّاف في يدي لم يكن كافياً لاستجلاء كلِّ الخبايا في المنجم المهجور فالظلمة الداخلية أقوى من أشعته الصنعية..لكني كنت أتقي بواسطته الجرذان تتقافز بين قدمي فلا أدوسها..وحيث توجد الجرذان توجد الأفاعي حتماً..

وفجأة ثار الغبار من الجدران الداخلية..وبدأت أجنحة الخفافيش العمياء ترتطم بوجهي في طيرانها العشوائي..

أين سكانك أيها المنجم القديم؟

جرذانٌ وأفاعٍ وخفافيش؟!..الأدب عندكم لا يعدو أن يكون وسوسة وهسهسة وحفيفاً وصريراً..في ظلمات الخوف..أهذا هو أدب المناجم؟

وكان الهروب أيضاً من باب أولى..

واستمرار البحث من باب عسى ولعلّ..

حتى رأيت مغارة محفورة في كتف الجبل..عالية وطريقها وعرة مفروشة بجلاميد الصخر..أيُعقل أن تكون مدخلا لمنجمٍ ما؟...

منظرها البعيد لا يوحي بأنها من صنع البشر بل من إرهاصات الطبيعة وانهداماتها وانكسارات طبقاتها..وكأنني لمحت حركة عند ثغرها..قد تكون حيواناً برياً أو وحشاً خرافياً
وبالتالي كان الهروب أيضاً من باب أولى..لولا أن استوقفتني اللولا !

 من هناك؟..

هكذا صِحْت..ولا من مُجيب ولا صوت أنسيٍّ يدنيني ولا جني يبعدني..وكررت السؤال بصوت أعلى وكان الصدى مسموعاً هذه المرة

بدأت خطواتي بالابتعاد عن المغارة لولا أن سمعت بكاءً ينبعث منها..استوقفني وأمرني بالعودة..وحبّ الاستطلاع أعطاني دفعاً لتسلق الصخور الصلدة وصولاً إلى فم المغارة..

 ماذا تريد..ومن أنت؟

قالت بنبرة التحدّي على أرضية إجهاشات الدموع..

كنت أرى عيونها فقط من خلف صخرة كبيرة..يبدو أنني لم أخيفها - وهي الخائفة من الوحدة - لذا انتظرَت تسلّقي الحذِر إليها..سمِعَتْ مني كلاماً مطمْئِناً..ولم أكُ على علاقة بمَن هرَبَتْ منهم..وسمعتُ منها قصة الهروب من زواجٍ جائر واللجوء إلى ذلك الغار المعزول
وهكذا قضينا الليل بما يشبه قصة إيروتيكية!

في صباح اليوم التالي..قالت مبتسمة:

 اليوم قد تكتب قصة عن أدب الكهوف..أيضاً جديد عليك

وغداً.. قد تكتب عن أدب الهروب..

وبعدها.. ستكتب عن أدب الوشاية عندما تشي به لإخوتي وبني عمي

ثم.. يداهمونني على حين غرّة..وقد تكون أنت معهم..لتصف أدبيات الإعتقال والسوق مخفورة وذليلة إلى شيوخ القوم

وأظنك – كفضولي – ستحضر القصاص مني..وتكتب عن أدب الشرف المُهراق بسكين أخي أو ابن عمي في ساحة القرية

وبعد أن ينفصل رأسي عن جسدي المثخن بالخطيئة..عندها سيكتب عني ملاك الموت مقالة في..أدب الجماجم

قلت:

 رويدكِ..ما جئت إلا باحثاً عن أدب المناجم..وقد وجدتُ منجماً للحب..ولم أستكشفْ بعدُ أسرارَه..ولم أسبرْ أغواره..وقد وضعت يدي على الكنز الدفين فهل تعتقدين أنني سأتخلى عنه؟
أنت ثروة باطنية للحب أغلى من كل كنوز الأرض..والتنقيب في مجاهلها وطبقاتها ومفاتنها ومتاهاتها ألذّ وأسمى وأجمل من كل مناجمهم التي تغصّ بالعمال..فأنا العامل الوحيد في هذا المنجم..وأنا سيّده ومالكه وربُّ عمله..أستخرج درره ولآلئه..أستمتع بها..وهي ليست للبيع

استرْخَت..وقد أغراها الوصف..وأحسّت بالأمان مع عاشقٍ ارتضى الهروب معها إلى مناجم الحب..وقالت:

 أوَترضى بالظروف الصعبة التي يعيش بها عمال المناجم؟..أوترضى بالعزلة المفروضة عليهم في ليالي الحر والقر؟..ألم تسمع بعمال المناجم الذين ماتوا بين الأنقاض المتهدمة في أوكار الخيبة..وكأنهم في مقبرة جماعية؟

 بلى والله.. فالكنز له ثمن..وصائد اللؤلؤ قد يموت في القاع..وعندما ستداهمنا

الفرسان..ونسمع صهيل الخيل وسنابكها تدق صخور الجبل..سنخرج لهم..وأعلن لهم امتلاكي لهذا المنجم شرعاً وقانوناً..وأتابع التنقيب فيه على رؤوس الأشهاد..ألا هل بلّغت؟


مشاركة منتدى

  • نعم ، قد نسبق البصيص ؛ عندما تكون المناجم اكثر امنا من واقعنا لا نتريث في اللحاق بأنفسنا فهي أملنا الأخير في الوصول الى الحقيقة ، يستطيع المرأ ان يخلع الزيف والوهم أمام نفسه ولن يجد انسب من المناجم ليتعرى فيها كما تعرت فيها انفس تنفست جشعا وطمعا وماتت فيها اجساد خوفا ووجسا ولتحفت من برودة السقف ارواح لم تعرف كيف تغادر المكان؛ تلك النقوش التي على الجدران وتملئ المكان عفوية وكأن لم يكن لها غاية هو نوع من الفن المبقور من بطون السخور بآلة كلاسيكية تعزف بكاء الانام على السخور ، المناجم مع حلكتها لا تشبه القبور لا تشبه اليأس وان كانت تجر الانسان من الايمان في لحظات مشوشة تنساب خارج الوجدان تحاول الانفصام من الزمن ، ليس من عادة الرأسمالية ترك فج او مص ولا من ذكاء العمال نخر فجوة في الصقف تدخل منها الهواء ولا من عادة الأفاعي ترك المناجم المهجورة بسهولة ، اكاد اجزم ان الشمس تبغض المناجم لا الكهوف فهي من صنع البشر اختراق للطبيعة من اجل الطليعة تفاقم في معايير لم تتفهم المعادلة الكونية ، لا تأبه بكينونية ابعاد الامور ، لسلطة الحب وان وجد الحب مخبأ أمن في تلك الظلمة الموحشة فحال القلوب الحرة كحال خيول المروج ان اصطيدة تعيش مكسورة مقتولة بلا كيان وحينها يصبح لها حلم واحد ومطلب اخير واحد هو النسيان ؛ اظن ان المنجم حيلة للإختفاء عن الشمس كما ان الوحدة أثر من بقاية الأمس وان الحواس اذا فقدت الهمس لن يغنيها الشعور بالمس مهما كانت الاسطح ناعمة ، لا يعي الانسان ما يفتقده في دجى من صناعة نفسه ان كان ذلك ناجم عن فجوة فيه ، ولكن بحدسه المثير الذي يشتعل في غور المناجم ....يستطيع ان يشعر مع الزمن انه استرجع ما فقد ولكن بشعور آخر ومنطق مختلف كتغير الدموع وحرارة دفئها حينما تتنفس العيون القسوة .

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى