ثورة «خالد سعيد»
(ليس المهم أن يموت أحدنا .. المهم أن تستمروا...)
غسان كنفاني
قبل أن يصلح «جون» ضوء المطبخ، التفت إليّ وإلى زوجي وسألنا:
– هل أنتم مصريون؟
وعندما قلنا له لا..تابع:
– طوبى للمصريين.. قلبي معهم. لا مكان في هذه الحياة للضعفاء.. الفقراء دوماً لا لسان لهم سوى حالهم.
وعندما سألته ماذا تعرف عن مصر، أجاب ضاحكاً:
– إنها بلد حكمه الفرعون «رمسيس الثاني» أكثر مما حكمه «مبارك» – حكم رمسيس الثاني مصر لمدة سبعة وستين عاماً- مما جعل «المبارك» يتمسك بكرسيه دافعاً بأبناء وطنه إلى الاقتتال، وكله ثقة بأنه سيحكم أكثر من الفرعون.
صمت قليلاً، ولمّا شاهدنا نستمع تابع:
-الفقراء هم من يقودون الثورات، ذلك لكي لا ينسى العالم معاناتهم.
نحن هنا إذا استمر الوضع هكذا- أقصد الأزمة الاقتصادية- سنفعل كما فعل المصريون.. فلن نقبل مطلقاً بمستقبل مليء بالديون لاطفالنا.
بدأ «جون» عمله، ومضيت أنا أراقب سترته الجلديّة وثيابه الأنيقة، وأسأل نفسي:
– يعد «جون» نفسه فقيراً، فهل يعتقد يا ترى أن الوضع الاقتصادي في مصر كالوضع في أمريكا ؟
على جميع الأحوال فلم تعنيني مقارنة الوضع الاقتصادي، بقدر ما عنت لي طريقة عامل التمديدات الكهربائية ذاك في التعبير عن رأيه الصريح أمام أناس لا يعرفهم ، وبكل ثقة.. حرية التعبير حقٌ كالتنفس يا ربّي فلماذا يُصادر؟ لماذا يذهب المختلف وراء الشمس؟ لماذا يعامل البشر كالقطعان؟ لماذا تلفظ الطبقة المتوسطة أنفاسها الأخيرة؟ والأهم من كل ذلك:
لماذا انعدم إحساس الإنسان بأخيه الإنسان؟
الحقيقة أن أخبار المنطقة العربية الحقيقية وغير الخاضعة للتزييف نُقلت برمتها من قبل التلفزيون المحليّ للولاية الأمريكية التي أقطنها، ونوّه المذيع الأسود المهيوب إلى أنه:
بإمكانكم الحصول على تفاصيل أكثر عن مصر و ثورتها عبر موقع قناة «الجزيرة الإنكليزية»، مما جعلني أحس للمرة الأولى في حياتي أنّ تلك البقعة العزيزة من الأرض تحتوي على إعلام حقيقي.
**********
ويبقى للأخبار على (الفيسبوك) نكهة أصخب و طعم مفعم برائحة الغضب والثورة والاختلاف ..يا الله ما أروع رائحة الاختلاف!
عندما قررت فتح حساب على الفيسبوك للتواصل مع القرّاء الأعزاء، الأدباء، الشعراء، والمفكرين مساهمةً مني في أول ثورة في القرن الحالي (ثورة الفيسبوك)، لم أكن أعلم أنني سأكون شاهدة على الثورة المصريّة، وأنني سأسمع صوت الحرية، وسأرى بأم عيني غلاء ثمنها.
لم أعرف أنك قد تقيّم الشخص من خلال كلماته و مقتنياته (الفيسبوكبة)، وتتعرف عليه جيداً لدرجة أنه قد يصبح صديقك فعلاّ، ويصبح حتى رفاقه أصدقاء لك .. على مبدأ صديق صديقي.. صديقي.
كم أقفر حسابي على (الفيسبوك) عندما خلا من كثير من الأعزاء المصريين...
منذ عدة أشهر كان حسابي المذكور يضج بأسماء كثيرة لأشخاص عرفتهم عبر كلماتهم ونشاطاتهم، للون المصري ظرفه وخفة دمه التي تجعله يفرض نفسه كسلطان على التعليقات والمداخلات، لكن منذ بدأت ثورة المصريين –وحتى قبل أن يقطعوا عنهم الانترنت- .. بدأت مداخلاتهم بالتناقص وأحسست أن حسابي على الفيسبوك قد فقد روحاً مميزة، ومما زاد في حزني تخيلهم وهم يُعتقلون من قبل أبناء وطنهم، ورؤى غيبيّة لعيونهم الشابة وهي تثمل حزناً ليس لكونها قد سجنت، بل لأنها لن تستمر في رؤية الثورة.
أسماء حفرتها في ذاكرتي عرّفتني على «خالد سعيد» الشاب الذي منح الثورة المصرية أسباباً قوية للاستمرار، ذكرى «خالد سعيد» شهيد الطوارئ والذي أعتقد أنه يفخرالآن- أينما كان- بجيله، و شعبه كانت و ستظل أقوى من جميع أساليب القمع و القتل.
كم أحسست بالخيبة عندما أطلقوا على تلك الثورة الحيّة التاريخية لقب ثورة اللوتس، فمع أني أحب الزهرة و الإسم، لكنني اعتقد بأن الثورات - وإن كانت تتسبب في إعادة إحياء الأزهار- لا تسمى إلا بأسماء الأبطال أو الدول، فمن الجميل أن أربط اسم الثورة بمصر، ومن الرائع أن أربط اسمها ب «خالد سعيد» الذي دفع شبابه ثمناً لكلمة حق، ومن العشوائية بمكان تسميتها ثورة الوردة "كذا"...
**********
بحكم عملي كطبيبة جلديّة أسفت على «مبارك» الذي شلّت حقن البوتوكس ضميره قبلما تشل عضلات وجهه، وصبغ السواد قلبه قبلما يصبغ شعره.
وتذكرت قولاً لأحد أصدقائي المصريين :
– مبارك يبدو أصغر سناً في كل شيء إلا في صحوة الضمير.
وددت أن أبرر خوفه من مصير كمصير «بن علي» الرئيس التونس المقتلع، لكنني لم أستطع...
دماء الشباب التي لم تجف بعد جرحتني، وزملاء (الفيسبوك) الذين اختفوا فجأة بعد أن كانوا يملؤون أيامي بوعيهم ومطالعاتهم أجبروني أن أشاهد حقن «البوتوكس» التي ملأت وجه العجوز الذي هرّب أولاده ونسي أولاد مصر.
**********
طوبى لكم يا أبناء البهية، دمتم دوماً يداً واحدة لا تفرقكم الأديان والطوائف، ولا تشتت جهودكم الكلمات المعسولة، ولا الخطابات التي مضى عليها ثلاثون عاماً.