خارج سياق «حليبي»
بداية:
كان المارة من حوله يشاهدونه ولا يروه، شاهدته بأم عيني، ورأيته أيضاً..
هو بقدميه الصغيرتين المزرقتين من البرد، و(شحاطة) بلاستيكية أكبر من ساقه بكلّها، وليس فقط أكبر من قدمه.. يحمل في عينيه امتنان الدنيا كله للصدفة التي جعلت يده تتلقف بضع كعكات من كيس الكعك خاصتي...
في مكان ما بين مستشفى المواساة، ومستشفى الأطفال في دمشق الحبيبة..كان «نديم» يجلس محتضناً صندوق مسح الاحذية، ونادي على كل من يمر.. (رجّع صباطك جديد.. بعشرة وإذا بدك بخمسة..كل شي بيطلع من خاطرك منيح..).
مازلت أذكر يديه المسودتين المتشققتين، وهو يشير لي:
رح امسحلك بالبلاش..
بس أنا مابدي امسح (الكندرة).. يمكن ينزل مطر بعد الظهر.. بيرجع بيتوسخ..(وابتسمت)..
بدي اعرف أنت ليش عم تشتغل هون.. ماحدا بيمسح (كندرتو) وهو داخل على المستشفى (مو)!
صمت قليلاً وهو ينظر إلى الكعك فتلمع عينيه، ثم قال:
– فيه بس قلال، أنا أصلاً بشتغل بالكراجات، بس أخوي هلا بمشفى الأطفال.. قالتلي أمي اشتغل هون هيك بضل جنبو..
– ليش شبو أخوك مريض!
– لا..دعستو سيارة..
– كيف؟
بحركة لا إرادية شمّ " نديم" الكعكة، و بلع ريقه:
– طلع من البيت الظهر على وقت طلعة الموظفين ليشتغل.. دعستو سيارة (مفيمة).. و هربت..
– ليش أخوك شو بيشتغل؟
– بيبيع محارم...
– أكبر منك ؟!
– لا أصغر مني بسنتين...
بعد عدة خطوات قطعتها مبتعدة عنه، التفتُ لأراه يأكل الكعك .. المشهد في ذاكرتي حتى هذه اللحظة يلعن غالبية مثقفي الوطن.
المفصل:
عندما كتبت الرائعة" ريما فليحان" بيان الحليب.. كانت آخر فرصة ليقف الشعب السوري في صف واحد ضد الظلم ويطالب بإدخال الإعلام المستقل لقلب الحدث.. فينقذ الوطن.
لكن الرافضين لما جاء في البيان ممن وضعوا أطفالهم فوق رؤوس أطفال درعا.. وضعوا الوطن و أطفالهم في دوامة انقسام المجتمع السوري التي سيدفع الجميع ثمنها.
و بدلاً عن إعلام مستقل في قلب درعا.. ظهر الإعلام السوري الرسمي في (الاستديو) و استدعى( ما تيسر له ممن وقع على البيان ) في جلسة مهينة تشبه محاكم التفتيش.. كانت بداية الصرخة:
الإعلام السوري كاذب..كاذب.. كاذب
خارج السياق:
الاختلاف في الرأي لا يجب أن يُفسد للود قضية، و هذا يحدث فعلاً إن كان الودّ موجود.. أمّا من يدير ظهره لك لرأي ما فهو لا يملك لك من الودّ شيئاً.. فلتشكر الأزمة التي جعلته يرمي قناعه جانباً، و انهض بصدقك...
لطالما احتقرنا من يظهر عكس ما يبطن، يحمل لسانه الذي طعن في ظهرنا البارحة، و يلعقنا به اليوم.. مقرف هو و لسانه.. لعابه لايجب أن يسيل على طيبتك...
هذا ينطبق على الأشخاص و الحكومات.. و الأنظمة.. أما أنت أيها الشعب الثائر فتشبه كل صدق الدنيا.
ليست نهاية:
لا يختار الإنسان اسمه، كما لا يختار عائلته، هذه كلها تأتيه كما لون عينيه.. من حيث لا يدري، لكنها لا تشبه العينين من حيث قدرتها على قصقصة الأجنحة، و تمزيق القلب.
و ل "جوى" عينين بنيتين تحاكيان مزيجاً من القهوة و العسل.. و لعائلتها كسل القهوة، و غنى العسل...
" جوى" ابنة أحد (العلويين) أصحاب النفوذ و المال، و سليلة تلك الشريحة الرقيقة من تلك الطائفة التي اختلط اسمها بالسلطة (عن سابق اصرارا و ترصد من قبل السلطة ذاتها)، فذهب بالأغلبية إلى هامش الصيت الجائع، و جعل معظم الطائفة العلويّة تبلع (الموس) على الحدّين.. تخاف إن اعترضت من تهمة طعن النظام في ظهره، و تخاف إن صمتت من طعن الحقيقة في عينها.
العلويون في (بلاد البعث ) ليسوا أوفر حظاً من غيرهم إطلاقاً، و من يعتقد غير ذلك فحتماً هو لا يعلم أن القلّة المستفيدة منهم أهانتهم و استغلتهم قبل غيرهم.
كانت و مازالت "جوى" مختلفة.. دراستها للطب البشري في "حلب" بعيدة عن سيارات أبوها و تفاصيل حياة عائلتها.. أو ربما هو حب المطالعة و السفر المتكرر ما جعل "جوى" بعيدة عن عائلتها و لا تشبهها.
صوتها الباكي مازال في مخيلتي، كلامها غير المترابط.. المتهدج كصوتها، و قلة استقرارها تظهر في كلمة (بس) تطل بين جملة و أخرى..قالت لي:
– (سكرت بوجهي.."هبة" .. قالتلي أنتم من قتل أخي.. ربما معها حق ما بعرف!!.. و لا بعرف شو عم يصير بسوريا، (بس) ما بفهم بالسياسة.. كل ما قرأته من كتب في حياتي يقول: من حق السوريين أن يثوروا، (بس) أنا بحب أهلي و بموت إذا صار عليهم شي..( بس) اللي عم يموتوا إلهم أهل كمان.. موهيك.. شوفي أخو "هبة" ليش ليموت.. صحي علقانة بين السنة و العلويين!!.. (بس) فيه عالم عم يقولوا النظام بدّو يعلقهم...
بحس أحياناً إنو لازم انزل اتظاهر ..بس بخاف إنو يعتقلوني، مو خوف من السجن .. لا و لا من التعذيب.. بخاف على أهلي من محيطهم و من شو رح يعملو فيهم، بتعرفي شو يعني تكوني محسوبة على شيخ القبيلة و تثوري ع القبيلة، هادا ثمنه غالي.. بس نحنا ماعدنا بزمن القبائل.. لا..لا .. بس يلعن أبو الخوف..).أولاد عم أبوي عم يطلعوا ع المظاهرات و مو فارقة معهم .. أبوهم عم يطلع معهم كمان..(بس) أهلي أنا غير..
( فعلاً الجبناء لا يصنعون المستقبل).
هذه ليست هي النهاية .. صدقوني...
يتبع...