الاثنين ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
الأديب والفيلسوف العالمي
بقلم رامز محيي الدين علي

جبران خليل جبران

في هذه المقالة أقف مع فيلسوف الفكر والأدب، جبران خليل جبران، وقفة تأمل وتفكر.. وأتابع ما بدأته في مقالة سابقة في ذكرى مولده، لعلني أضيء بعضا من جوانب فكره العبقري.. ولعلي أعبر عن نظراته الثاقبة في الحياة، وأعكس ظلالها على عالمنا الحديث اليوم.. وهو مثقل بالحروب والمآسي والظلم والاستبداد وامتهان حرية الإنسان وكرامته.. لكنه عالم لا يعرف الخجل ولا الوجل.. عالم مفعم بالتناقضات والصراعات والمصالح الذاتية التي تعكس أبشع صور الاستئثار والأنانية البغيضة.. متباهيا بأرديته الموشاة بكل لون.. متناسيا الأوبئة والأمراض الخبيثة التي تعصف بأحشائه وأطرافه!!
جبران..
بماذا أرد على نظراتك الإنسانية المفعمة بالمثالية، والمصوغة من أشعة الشمس الذهبية، حين أقول لك: لقد دخلنا في القرن الحادي والعشرين، ومازال بعض الآباء والأمهات يعاملون أبناءهم كالعبيد، ويستغلونهم في لقمة عيشهم، ويرون في مخالفتهم لآرائهم وأفكارهم كفرا وإلحادا وعقوقا يحرمهم من الجنة؟؟

وماذا أقول لك؟ وما زالت الأنظمة الدكتاتورية والقمعية في العالم تنظر إلى أبنائها نظرتها إلى الدواب والحشرات، أو تراهم رؤيتها للنفط الخام تبيع وتشتري بهم حسب
ملذاتها وشهواتها، وترمي ما يفيض عن حاجتها في مهاوي السجون والمشانق والزنزانات والمقابر الجماعية، لمجرد أنهم خالفوا آراءها، أو خرجوا على طاعتها الإلهية المقدسة؟؟
ماذا أقول لك؟ وبعض أطفال العالم سوق نخاسة لتجارة الأعضاء البشرية وقضاء الشهوات الحيوانية عند شذاذ الآفاق؟؟
ماذا أقول لك؟ وملايين الأطفال في العالم يموتون جوعا وفقرا تحت وطأة الأمراض الفاتكة، والعالم يتلذذ بالحروب وتجارة الأفيون، ولا يغفو إلا على أنغام الموسيقا وهدهدة حركات الراقصات في المواخير!!
ماذا أقول لك؟ وأنت تنظر إلى الشباب والأحلام نظرتك إلى الشمس عند مجيء الليل والقمر عند مجيء الصباح!! فتقول: (( الشبيبة حلم جميل تسترق عذوبته معميات الكتب وتجعله يقظة قاسية، فهل يجيء يوم يجمع فيه الحكماء بين أحلام الشبيبة ولذة المعرفة مثلما يجمع العتاب بين القلوب المتنافرة؟ )).
ماذا أقول لك؟ وقد صودرت أحلام الشباب وهي يرقات، وقد أسرت أفكارهم لمعميات الضحالة والتهميش وزنزانات الموت الزؤام.. وصاروا أسرى التلقين وتشجيع أبطال
الأجسام، والتصفيق لولادة آلهة الأرض ومناسباتهم الوطنية والقومية الخادعة، وبناء عروشهم الفرعونية على جماجم الفقراء والمستضعفين في الأرض، ومازال العالم ينتظر عودة المسيح ورجعة الإمام اللذان سينقذان العالم من الظلم والاستبداد والقهر، ويقيمان العدل بالسيف في مواجهة الصواريخ العابرة للقارات وأسلحة الدمار الشامل والأسلحة البيولوجية والكيماوية!!

ومن يتأمل فلسفة انتمائك إلى هذا العالم الغريب، يدرك أنك تحمل الإنسانية جمعاء بين جناحيك الهائمين بك في رحاب الكون الواسع.. وأنت تؤكد ذلك بعبارة أنصع من وجه الشمس في وضح النهار، فتقول: (( الأرض كلها وطني والعائلة البشرية عشيرتي، لأنني وجدت الإنسان ضعيفا ومن الصغر أن ينقسم على ذاته، والأرض ضيقة ومن الجهل أن تتجزأ إلى ممالك وإمارات.

أحب الأرض بكليتي؛ لأنها مرتع الإنسانية روح الألوهية على الأرض. )).
فما عساني أقول أمام فكرك الإنساني العظيم؟؟ وأنا أرى الكرة الأرضية فريسة تنهش بأطرافها وأحشائها وحوش آدمية تتسربل بأردية البشر، لكن أنيابها أشد وأعتى من أنياب الوحوش الكاسرة، وأحشاؤها لا تعرف حدا للامتلاء والارتواء!!
وماذا أقول لفكرك السامي النبيل؟؟ وأنا أرى الإنسانية تنتحر على مذابح همجيات وشرائع وقوانين وأطماع وأثرة لم تشهد لها مثيلا خلال تاريخها الغابر منذ انبثاق الكرة الأرضية من رحم الفضاء!!
ماذا أقول لانتمائك الإنساني الكبير؟؟ وأنا أرى الإنسانية بأسرها لا تنتمي لقبيلتها وعشيرتها، ولا أرى الإنسان يمت بصلة إلى عشيرة ذاته البشرية التي رفعها الله فوق
كل عشائر المخلوقات في الكون، فتهاوت إلى أقصى درجات الهاوية من الهمجية والحيوانية الدونية الرخيصة!!
ماذا أقول لك أيها الأديب الإنساني الذي أحببت الأرض بكليتك؛ لأنك وجدتها مرتعا للإنسان وروح الألوهية؟؟ وأنا أرى الأرض تضيق ذرعا بكائناتها البشرية وحقدها المدمر على هذا الكوكب الجميل، ولا أرى شيئا من الذات الإلهية العظيمة غير الدمار والزلازل والبراكين والفيضانات والعواصف والأعاصير والحوادث والقتل والظلم والاستبداد والقهر والخراب والهمجية والوحشية والبشاعة والبلاهة والوضاعة والحقارة والتفاهة وكل لعنات التاريخ!!
فهل ثمة ذات إلهية في الأرض تمحو الظلام والقهر والبشاعة ودموع الثكالى والأيامى والفقراء والبائسين والأطفال المشردين والمحرومين..؟؟ ولا حيلة لنا في أمرنا إلا أن نقول اللهم آمين..!!

وحين تتأمل أمم الأرض، تقذفها بالويلات إذ تراها غائرة في مجاهل التقهقر والضياع والخداع والانفلات والانقلاب العكسي في القيم والمثل والأخلاق، فتخاطبها خطاب الفيلسوف العالم بأحوالها:
(( ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين.
ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل وتشرب مما لا تعصر.
ويل لأمة تحسب المستبد بطلا، وترى الفاتح المذل رحيما.
ويل لأمة تكره الشهوة في أحلامها، وتعنو لها في يقظتها.
ويل لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد.
ويل لأمة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودعه بالصفير، لتستقبل آخر بالتطبيل والتزمير.
ويل لأمة حكماؤها خرس من وقر السنين، ورجالها الأشداء لا يزالون في أقمطة السرير.
ويل لأمة مقسمة إلى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه فيها أمة....)).

فماذا أقول لك أيها الفيلسوف الأخرس من وقر السنين، وروحك بعيدة عنا في سكون الكون، وجسدك راقد في رميم الأجداث، وفكرك مغيب في رفوف المكتبات وعالم النسيان؟!
إن ويلاتك الصارخة لا تصلح إلا لأمتك التي خرجت من رحمها؛ لأن جميع أمم الأرض قد تجاوزت هذه التحذيرات منذ زمان بعيد، ولم تبق أمة في الأرض بهذه الصفات والأخلاق التي حذرت منها إلا أمتك التي نسبتك إليها نواميس اللحم والدم والانتماء، بالرغم من أن أفكارك وفلسفتك تجاوزت كل حدود الأمم والقوميات!!
ماذا أقول لك أيها المفكر الإنساني؟؟ وليس في الأرض أمة فيها من الأديان والمذاهب والأولياء والأصفياء وعباد النجوم والكواكب والقبور والحجارة والتماثيل.. تشبه أمتك التي خرج فكرك من رحمها؟!
ماذا أقول لك وأمتك قد تورمت أيديها من التصفيق لحكامها وتحطمت الأعواد بين أصابعها.. وتمزقت جلود الطبول تحت ضرباتها.. واختنقت أنفاس الصفير في حناجرها.. وباتت مشدوهة الأفواه أمام تماثيل الرومان كيف عراها الزمان.. وحكامها لم يعتريهم أي ترميم.. فهم مخلدون.. يحكمون وهم أجنة.. ويسيطرون وهم أطفال.. ويستبدون وهم شبان.. ويسحقون وهم رجال وكهول وشيوخ.. ويغيرون ويبدلون وهم مقعدون على كراس متحركة.. فهل أمة في الأرض تشبه أمتك؟!

فهل من أمة في الأرض حكماؤها خرس من وقر السنين.. ورجالها الأشداء لا يزالون في أقمطة السرير.. إلا أمتك التي تغتال القصائد وتصطاد الكلمات في الدروب كما تصطاد البلابل في الحقول.. وكما قال فيلسوف المرأة والسياسة الشاعر الكبير نزار قباني حينما اغتالوا حبيبته وزوجته بلقيس:

قَسَمَاً بعينيكِ اللتينِ إليهما ..
تأوي ملايينُ الكواكبْ ..
سأقُولُ ، يا قَمَرِي ، عن العَرَبِ العجائبْ
فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ ؟
أم مثلنا التاريخُ كاذبْ ؟.
ها نحنُ .. يا بلقيسُ ..
ندخُلُ مرةً أُخرى لعصرِ الجاهليَّةْ ..
ها نحنُ ندخُلُ في التَوَحُّشِ ..
والتخلّفِ .. والبشاعةِ .. والوَضَاعةِ ..
ندخُلُ مرةً أُخرى .. عُصُورَ البربريَّةْ ..
حيثُ الكتابةُ رِحْلَةٌ
بينِ الشَّظيّةِ .. والشَّظيَّةْ
حيثُ اغتيالُ فراشةٍ في حقلِهَا ..
صارَ القضيَّةْ ..

وحين تتأمل الذات الإلهية العظيمة التي أبدعت الذات الإنسانية بأبهى صورها وحللها، ومنحتها كل خصال السمو والارتقاء، وغرست فيها قيم العدل والحرية والخير والمحبة والسلام.. فإنك ترى أن الذات الإنسانية قد خرجت على خصالها وخصائصها، حين تسلط عليها وحوش من جنسها، فشوهت كل جمال، وسحقت كل خير، وقتلت كل فكر، وطغت على كل حق، فأفرغت العالم من مضامينه الإنسانية النبيلة..

وكلامك هذا يعزز ما أقولُه لك وما ذكرتُه سابقا، وها أنت تعود لتقول للبشرية:
(( نعم إن أباكم السماوي هو الذي يقيم الملوك والأمراء، وهو القادر على كل شيء. ولكن هل تعتقدون أن أباكم الذي أحبكم وعلمكم سبل الحق بواسطة أنبيائه يريد أن تكونوا مظلومين ومرذولين؟
هل تعتقدون أن الله الذي ينزل السحاب مطرا، ويستنبت البذور زرعا، وينمي الزهور أثمارا، يريد أن تكونوا جياعا محتقرين؛ لكي يبقى واحد بينكم منتفخا متلذذا؟

ولماذا تخافون مشيئة الله الذي بعثكم أحرارا إلى هذا العالم، وتصيرون عبيدا للمتمردين على ناموسه؟
كيف ترفعون أعينكم نحو الله القوي وتدعونه أبا، ثم تحنون رقابكم أمام الإنسان الضعيف وتدعونه سيدا؟
كيف يرضى أبناء الله أن يكونوا عبيدا للبشر؟ أما دعاكم يسوع إخوة، فكيف يدعوكم الشيخ عباس خدما؟!
أما جعلكم يسوع أحرارا بالروح والحق، فكيف يجعلكم الأمير عبيدا للحيف والفساد؟
أما سكب يسوع النور في قلوبكم، فكيف تغمرونها بالظلام؟! ))..

وكلامك هذا ليس بعده كلام؛ لأنك أخرست جميع الكلمات والخطابات والشعارات والحكم والأمثال والأقوال المأثورة والأشعار والمسرحيات والروايات.. ولأنك بهذه الكلمات أطفأت جذوة كل فلسفة تدعو إلى الرضا والقناعة والإصلاح والأفكار المثالية التي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِن جُوعٍ!!
ولكنك تتفاءل بالإنسانية حين أنجبت الأبطال المنقذين لها من الضلال والغي، فتقول: (( الإنسانية امرأة يلذ لها البكاء والنحيب على أبطال الأجيال، ولو كانت الإنسانية رجلا لفرحت بمجدهم وعظمتهم.)).
ولا شك في ذلك أيها العبقري!! لأن الإنسانية أنجبت رجالا أبطالا.. منهم الأنبياء والمصلحون والمفكرون.. والأبطال الذين دحروا المستعمرين عن بلادهم وبنوا أمجاد أمتهم وحققوا كرامة وعزة شعوبهم.. وليس منهم واحد ممن شهر بطولته على شعبه وحقق أمجاده على ذل وقهر أبنائه.. وخط اسمه بين الفاتحين، ونصب تماثيله في أحلام ويقظة المقهورين.. ولم ينتصر يوما على عدو من أعداء أمته!!

وسرعان ما ينقلب التفاؤل في ذاتك إلى يأس، حين ترى الإنسانية ضعيفة، فتقول:
(( الإنسانية طفلة تقف متأوهة بجانب الطائر الذبيح، ولكنها تخشى الوقوف أمام العاصفة الهائلة التي تهصر بمسيرها الأغصان اليابسة، وتجرف بعزمها الأقذار المنتنة.)).

آه.. ثم آه.. على تلك الإنسانية الطفلة التي باتت هي الطائر الذبيح.. ولم تعد تتأوه حتى على نفسها.. ولم يعد يبالي بها لا الأغصان اليابسة ولا الأقذار المنتنة التي هصرت بها وجرفتها تلك العاصفة الهائلة!!
لقد ضاق يراعي ذرعا بين أناملي، وتأوهت الصفحات البيضاء تحت وطأة يدي، واختنقت الكلمات وتاهت العبارات، وأملت علي سطوة المقالة حدود المقال، لأعلن نهايتها بما قدمت.. أما جوانب فكرك وفلسفتك الأخرى أيها الفيلسوف، فسأدعها إلى مقالات أخرى.. وأفسح المجال للأقلام تبلي بلاءها، وتلقي الضوء عليها، وتضعها تحت مجاهرها تحليلا وتفسيرا وبيانا..

فتحيتي لروحك الزكية أيها المفكر والفيلسوف الكبير في ذكرى ولادتك.. ومحبتي وامتناني لأفكارك ونظراتك التي ملأت سماء الفكر شهبا وضاءة يهتدي بها التائهون، ويسير على هديها الباحثون عن الحقيقة والمعرفة والفكر والفلسفة والحب والخير والجمال والقيم والأخلاق والمثل العليا..

تلميذك الغريب الحائر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى