الاثنين ٢ آب (أغسطس) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

حوارٌ منطقيٌّ

بعدَ أن أنْهى الفلَّاحُ حراثةَ حقلِه، وجلسَ يتناولُ غداءَه، وأطلقَ سراحَ الحمارِ والثَّورِ اللّذينِ كان يَحرثُ عليهِما، وقدْ شعرَا بالنَّشوةِ بعد أن امتلأتْ أحشاؤُهما بالماءِ والكلأِ، وسَرَت في خاطرِهِما هُنَيهةٌ من تبادلِ المشاعرِ وأحاديثِ المودَّةِ!

• فانطلقَ نهيقُ الحمارِ: هههههههاااااااا.. وبشعورٍ فيهِ نكهةُ التَّعالي والانتِصارِ والتَّهكُّمِ منَ الثَّور: إنّني أُشفِقُ عليكُم معْشرَ الثِّيرانِ؛ لأنَّكم تُذبَحونَ كما تُذبحُ الخِرافُ، أمّا نحنُ - معشرَ الحميرِ - فلا يَجرُؤ أحدٌ من الوحوشِ الآدميَّةِ على ذبْحِنا؛ لأنَّ لحُومَنا مُرّةٌ على أفواهِهم وسمومٌ على أحشائِهم.. إلّا إذا كانَ الجزَّارونَ لصوصاً منَ الطِّرازِ الرَّفيعِ، فيَمزجُون لحومَنا باللُّحومِ الأخْرى، ويكتُبون على المعلَّباتِ (فخرُ الصِّناعةِ العالميَّة) وفوقَها علامةُ تسويقِ الطُّمَأنينةِ (حَلَال).

• الثَّورُ: خااااااخاااا: مساكينُ يا معشرَ الحميرِ! صحيحٌ ما تقولُ! ولكنْ لا تنسَ أنّنا نُذبَحُ قرابينَ على مذابحِ ابتهالاتِ السَّماءِ وفي ميادينِ الحُرّيّةِ.. هكذا أرادَتْ مشيئةُ السَّماءِ! وهذا ليسَ ذنْبَنا! أمّا أنتُم فمساكينُ مغلُوبونَ على أمرِكُم، يَمتَطيكمُ الرَّائحُ والغَادي وعابِرو السَّبيلِ.. ويَنقلُونَ بضائِعَهم على ظُهورِكم، ويَجرُّون عليكُم عرباتِ النَّقلِ والبيعِ.. وصِرتُم مَضربَ المثلِ في الاحتِقارِ والاستِهجانِ لأصواتِكم المُنكَرةِ، ألَمْ يَصفِ اللهُ تَعَالى صوتَكم بقولِه: ﴿إنَّ أنكرَ الأصواتِ لَصوتُ الحميرِ ﴾ (لقمان الآية 19).. أولَمْ يصفِ اللهُ الأقوامَ الّذينَ لا يَفقهُون شيئاً بكُم حينَ قالَ: ﴿مثلُ الّذينَ حُمِّلُوا التَّوراةَ ثمَّ لمْ يَحمِلُوها كمثَلِ الحمارِ يحمِلُ أسفاراً..﴾ (الجمعة: الآية 5)؟! أولَم يَرِدْ في الحديثِ الشَّريفِ قولُه (ﷺ): "إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ؛ فإنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وإذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فإنَّهُ رَأَى شيطَاناً.". (الرّاوي: أبو هُريرة -المحدّثُ: البُخاريّ).. أولَم يحتقِرْكُم هؤلاءِ البشرُ في كلِّ طالِعةٍ ونازِلةٍ.. في كلِّ حماقةٍ وفي كلِّ رذيلةٍ.. في كلِّ أنواعِ الغباءِ البشريِّ ابتداءً من الخدَمِ ووصولاً إلى التّيجانِ المرصَّعةِ بالألماسِ ونياشينِ النَّصرِ المزعومِ، لتَفِيضَ ألسِنةُ المتهكِّمينَ بكُم شلَّالاتٍ منَ الازدِراءِ (يا حِمارُ!).. ووصلَتْ بهِمُ المبالغةُ في احتِقارِكم إلى القولِ لأحدِهم إذا فشِلَ في أداءِ عملٍ أو مَهمَّةٍ: (يخرُبْ بيتَكْ ما أجحَشَكْ!).. وامتدَّ استِهجانُكم إلى استِخدامِ صفاتِكُم للإيقاعِ بأحدِهم حينَ قالُوا: (انفُخَه شوفْ ما أجحَشَه!).. حتّى وصلَتْ بهِمُ الحالُ إلى إخفاءِ بشاعاتِهم باستِخدامِ عمليَّاتٍ جراحيَّةٍ تجميليَّة عديدةٍ، مرَّةً بالشَّفْطِ أو النَّفخِ.. ومرّةً أُخرى يتلاعبُون بأعضائِهم كمَا يتلاعبُ النَّحويُّون واللُّغويُّون بمواقعِ كلماتِهم رفْعاً أو خَفْضاً.. تقديماً أو تأخيراً.. تصْغيراً أو تكْبيراً.. فتْحاً أو ضمَّاً.. تحريكاً أو تسْكِيناً..!!

هلْ سمِعتُم أحداً من هؤلاءِ البشرِ يَحتقِرون أصاغرَهُم بكلمةِ (ثَوْر)، بلْ على النَّقيضِ من ذلكَ، فقدْ صِرْنا رمزاً للغزَلِ، ألَم تَسمعْ قولَهم حينَ يَودُّونَ الغزلَ والدَّلعَ الرُّومانسيَّ يقُولونَ: (إذا كانَ حبيبُك ثَوْراً فالبَسْ لهُ الأحْمرَ)؟!

ألَم نَضْحَكْ على هؤلاءِ الأغبِياءِ منَ البشرِ حينَ جعلُونا مَيداناً يُصارعُونَنا فيهِ حامِلينَ بأيديْهم راياتٍ حمراءَ؛ لأنَّهم يَعلَمُون أنَّنا نعشقُ اللَّونَ الأحمرَ.. وفي زعْمِهم أنَّ هذا اللَّونَ يُعْمي أبصارَنا على مَبدأِ (حبُّكَ الشَّيءَ يُعْمي ويُصِمُّ).. وتَجتمِعُ الأممُ ليُشاهِدُوا حفْلةَ انتصارِ الحيوانِ البشريِّ علَيْنا، لكنَّنا نُخيِّبُ آمالَهم، فنَسحَقُهم سحْقَ الذِّئابِ للدَّجاجِ!

أمَّا أنتُم -معشرَ الحميرِ- فلا يتسابقُ عليكُم إلّا الصِّبْيةُ حينَ عودتِهم معَ قطعانِ الأبقارِ منَ المراعي وقتَ الأصيلِ، ولا يَحمِلُون في أيديهِم لوناً منَ الألوانِ؛ لأنّهم يُدركُون بالفِطرةِ انعدامَ أحاسيسِكم بأيِّ لونٍ مِنها.. ولا يَحملُون في أيديْهم سِوى العيدانِ المبريَّةِ تَخِزُكم كإبَرِ النَّحلِ، ولا تملِكُون من ردَّةِ الفعلِ سِوى الرَّفسةِ والضِّراطِ واللَّبطِ بالمنْفرِدةِ.. أو المزدوِجةِ إنْ ظلَّتْ فيكُم شأْفةٌ منَ الهِمّةِ أو مسْحةٌ من كرامتِكُم المهدورةِ!

• ثمَّ قُل لي ابنُ مَنْ أنْتَ.. أقُلْ لكَ ابنُ مَن أَنا..؟!!

• الحمارُ: ههههههههههااااااااا ... ههههههه اااااااااا.. ههههه ااااااا ها..ها!

• الثَّورُ: أَعرِفُ أنَّكَ لا تستطيعُ الإجابةَ إلّا بالنَّهيقِ.. ولكنَّني أُجيبُكَ بالأدِلَّةِ: أنا ابنُ البقَرةِ الّتي كانتْ وما زالَتْ تَحتلُّ مكانةً مرمُوقةً في التَّعظيمِ والتَّقديسِ! أليسَ هناكَ مَنْ يَعبدُ أُمّي.. ومِن أجلِ تقديسِها حرَّمُوا أكلَ اللُّحومِ؟ ألَم يُطلِقِ القرآنُ الكريمُ اسمَ أُمّي على أطولِ سُوَرِهِ؟!

فتَفضَّلْ يا حمارُ بذكرِ مَحفَلٍ من محافلِ تكريمِكُم في العالمِ! هل رأيْتَ أو سمِعْتَ بمَقامِ تكريمٍ لكُم غيرَ الّذي رأيْناهُ عندَ الغَجرِ (النَّوَر) حينَ يتَجوَّلُون بكُمْ لبيعِكُم أو المبادَلةِ بكُم رأساً برأسٍ آخرَ معَ دفعِ عُمُولةِ الفرقِ في المواصَفاتِ معَ شيءٍ من حِذقِ المهاراتِ.. أو يَتجوَّلُ بكُم صانعٌ مِن صنَّاعِهم لبيعِ الخناجرِ، أو تركيبِ أسنانِ الذَّهبِ الّتي لا تُشبِهُ الذَّهبَ إلّا في لمعانِها.. ولا يَبْرزُ جمالُها إلّا ضِمنَ صفٍّ منَ الأسنانِ المهدَّدةِ بالانِقراضِ!!

• الحمارُ مكابِراً: هههههااااااااا ولكنْ لا تنسَ أنَّني قائدٌ مُبجَّلٌ تَنْضحُ علاماتُ القيادةِ مِن مِشيَتي حينَ أنطلقُ إلى المراعي وتَتْبعُني قطعانُ المواشِي كالجيوشِ حينَ تَستعْرضُ قِواهَا في ساحاتِ البطولةِ؟! أسيرُ بثقةِ القادةِ، ويَتبعُني كبشُ المرياعِ يسيرُ مِن خلْفي وحناجِرُ أجراسِهِ تَصدحُ وتُكبّرُ لي، وكأنَّ قرنيْهِ مربوطانِ بشَعرِ ذيلي! قلْ لي أينَ قيادتُكم، وأينَ ميادينُ براعتِكُم مِن براعتِنا في قيادةِ القِطعانِ إلى المراعي؟!.. بأمرٍ مِن نَهيقِي يتقدَّمُ القطيعُ أو يتراجعُ.. وبإشارةٍ منْ طرفِ ذيلي تنامُ الماشيةُ أو تستَيقِظُ.. وببعْقةٍ واحدةٍ مُذبذَبةِ النّغْمةِ تَثْغُو الأغنامُ أو تَخرَسُ!

• الثَّورُ: خااااا خااااااا: صحيحٌ ما تقولُ يا صاحِبي! ولكنْ لا تنسَ أنَّ الّذينَ صنعُوا منكَ قائداً يَضحكُونَ عليكَ، فيُزخرِفُون ظهرَكَ بالبَرْدَعةِ المزرْكشةِ المطرَّزةِ بشتّى الألوانِ الّتي حرَمَكَ اللهُ منَ التَّمييزِ بينَها، وقدْ يُعلِّقُون على عُنِقِكَ الطَّويلِ بعضَ الخَرزِ الزَّرقاءِ ردَّاً للعُيونِ الحاسِدةِ؛ كيْ لا تطالَ القطيعَ بحسَدِها.. وقدْ يُكْرمُونكَ بنِعالٍ منَ الحديدِ تحتَ حوافرِكَ؛ كي يسيرَ المرياعُ على أنغامِ ضرَباتِها على حَصَى الأرضِ..

صحيحٌ أنّكَ قائدٌ تقودُ المواشيَ بانتِظامٍ نحوَ المراعي.. ولكنْ لا تنسَ أنَّ على ظهرِكَ راعِياً يَقودُكَ بسوطِهِ، وهوَ يُغنّي مواويلَ الرُّعاةِ، أو يَعزِفُ على شبَّابةٍ تَفهمُها الماشيةُ فتَسيرُ مُنتشيَةً نشوةَ المخمُورينَ في المواخيرِ.. ولا تنسَ دورَ الكِلابِ الّتي تُرافِقُكَ، وتُحيطُ بالماشيةِ من كلِّ صوبٍ، وتَجعلُها تَعُدُّ أنفاسَها باللَّحاقِ بكَ.. فأينَ براعتُكَ في القيادةِ يا صاحِبي غيرُ ما يَشْتَهي الرّاعي، وغيرُ ما يَبْتغِيهِ صاحبُ الماشيةِ مِن دَرٍّ ولحُومٍ وأصْوافٍ وجلُودٍ ورَوثٍ لتَسمِيدِ مواسمِ إنتاجِهم الزِّراعيِّ؟!

ثمَّ قلْ لي: أينَ براعتُكم حتّى في الحِراثةِ؟! لقدْ أقْحمُوكُم جهْلاً في هذهِ المهَمَّةِ! لأنَّ الحراثةَ للثّيرانِ، وليسَتْ للحميرِ! وإنْ أردْتَ الدَّليلَ، فعُدْ إلى معاجمِ لغَاتِهم.. ستُدرِكُ أنَّ الحراثةَ ثورةٌ مُشتقَّةٌ منْ اسْمي (الثَّور).. وكذلكَ ثورةُ الشُّعوبِ لقلبِ الأنظمةِ الاستِبْداديَّةِ مُشتقَّةٌ منْ اسْمي! ففي مُعجَم (لسانِ العربِ) لابنِ مَنظورٍ، وهوَ أهمُّ معجمٍ في لغتِهم العربيَّةِ، ولمْ أذكُرْ لكَ مُعجمَاً لغويّاً مُعاصِراً مَشبُوهاً.. نجِدُ أنَّ المصْدرَ لكلمةِ ثَوْرة هيَ (ثَوْر)، وهوَ اسمُ الذَّكَرِ مِنّا، وتَجِدُون صِفاتِ الثَّورةِ وملامِحَها في المعَاني المتَداولةِ والمترادِفةِ الّتي وردَتْ في (لسانِ العربِ) لكلمةِ (ثَوْرة)، ومَصدرُها (ثَوْرٌ) وفِعلُها (ثارَ). وفيهِ نجِدُ أنَّ صفاتِ الثَّورةِ وملامحَها في اللُّغةِ العربيَّةِ؛ وكأنَّها تأْتي في صفاتِ مصْدرِ الكلمةِ وهي (ثَوْر)، وتشْملُ: الهِياجَ، والغضَبَ، والإثارةَ، والظُّهورَ والسُّطوعَ، والانتِشارَ، والقوَّةَ والشِّدَّةَ، واللَّونَ الأحمرَ أو الاحمِرارَ...

كمَا تستَطيعُونَ إدراكَ فعلِ الثَّورةِ في المعجمِ ذاتِه: ثارَ الشَّيءُ ثَوْراً، وثُؤُوراً وثَورَاناً. (وأرضٌ مُثارةٌ)، إذا أُثيرتْ بالسَّنِّ، وهيَ الحديدةُ الّتي تُحْرَثُ بها الأرضُ، أيْ قَلْبُها على الحَبِّ بعدَما فُتِحَت أوّلَ مرّةٍ، وقالَ عزَّ وجلَّ (وأثارُوا الأرضَ)،أيْ حرَثُوها وزرعُوها واستخرجُوا بركاتِها بحصَادِ زرعِها.

وبهَذا يَكونُ معْنى الثَّورةِ في اللُّغةِ العربيَّةِ أشبهَ ما يكونُ بحرْثِ الأرضِ وزراعتِها وجَنيِ ثمارِها، كأنَّها ثلاثُ مراحلَ مُتتاليةٍ مُتكاملةٍ..

وبهَذا المعْنى اللُّغويِّ لكلمةِ (ثوْرة) وصفاتِها تكونُ الثَّورةُ عمليَّةً مُمتدَّةً تحتاجُ زمناً لإنجازِها، وجهداً للمحافظةِ علَيها لإنجاحِها، والانتِقالِ إلى واقعٍ جديدٍ يَختلِفُ عمّا قبلَ الثَّورةِ، وكأنَّهُ الانتِقالُ من أرضٍ جَدْباءَ غيرِ ذي زرعٍ إلى واحةٍ فيحاءَ ذاتِ ثمارِ.

وبالمعْنى السِّياسيِّ: الثَّورةُ هيَ التَّغييرُ الشَّاملُ في نظامِ المجتمعِ السِّياسيِّ والاقتِصاديِّ والاجتِماعيِّ عنِ الوضعِ السَّائدِ قبلَ الثَّورةِ... وهذهِ كلُّها معانٍ اشتُقَّتْ من أسمائِنا وصفاتِنا وأفعالِنا! فمَا علاقتُكُم بالحراثةِ أو الثَّورةِ أيُّها الحميرُ؟!! باللهِ عليكُم اخجَلُوا منْ أنفُسِكم قبلَ أنْ نَدخُلَ في مُتونِ المعاجمِ الفلسفيَّةِ وكتبِ فلسفةِ التَّنويرِ لكبارِ الفلاسفةِ الّذينَ صنعُوا مفهومَ الثَّورةِ والعَقدِ الاجتماعيِّ والحُرّيَّةِ والعدالةِ والحضارةِ!! فاخرسُوا واعرفُوا حدودَكُم الّتي رُسِمَتْ لكُم!!

وانقضَتِ المناظرةُ، وتمَّ النَّصرُ للعقلِ والأدلَّةِ، وانهزمَ التَّبجُّحُ بالقيادةِ، وانقشَعَتِ الغَطْرسةُ، ونامَتْ نهْقَةُ الحميرِ في الكِبرِ والتَّعَالي.. ويظلُّ خُوارُ الثَّورِ يشُقُّ الأفهامَ كمَا شقَّ وجهَ الأرضِ لاستنِباتِها بالحِراثةِ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى