الثلاثاء ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم نور الدين علوش

حوار فكري مع المفكر الإسلامي زكي الميلاد

بداية من هو المفكر زكي الميلاد؟

كاتب وباحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة، إلى جانب الاهتمام بالدراسات الحضارية، متفرغ للعمل والبحث الفكري، نشرت حتى هذه اللحظة ما يزيد على ثلاثين كتابا، أكتب مقالة أسبوعية في صحيفة عكاظ السعودية منذ سنة 2003م، ونشرت مئات المقالات، وعشرات الدراسات، وشاركت في عشرات الندوات والمؤتمرات والملتقيات العربية والإسلامية والدولية، وأتولى رئاسة تحرير مجلة الكلمة الصادرة سنة 1993م، وهي مجلة فصلية فكرية تعنى بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجدد الحضاري.

باعتباركم من رواد النهضة والتجديد الفكري، ما هو رأيكم في المشاريع الفكرية والفلسفية العربية المطروحة: (الجابري، مالك بن نبي، أبو القاسم الحاج حمد، الشهيد محمد باقر الصدر، محمد حسين فضل الله)؟

في مارس 2003م نشرت مقالة في صحيفة عكاظ بعنوان (المشروعات الفكرية وصلت إلى نهايتها والعالم العربي لم يتغير)، أردت فيها القول إن ثقل الأزمة التي يعاني منها العالم العربي، وتراكم هذه الأزمة وتوطنها وتشعبها وتمددها، أصبحت أكبر من فاعلية وتأثير المشروعات الفكرية التي ظهرت ومرت على العالم العربي منذ ثمانينيات القرن العشرين.
مع ذلك فإننا لا يمكن التنكر لهذه المشاريع الفكرية، وعدم الاعتراف بها، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، ومهما كانت صورة ونوعية هذا الاتفاق وهذا الاختلاف.

فهذه المشاريع على تعددها وتنوعها وتعاقبها كانت لها إضافاتها وتأثيراتها، وتركت بصماتها على الواقع، وألهمت الحياة الفكرية والثقافية حيوية ودينامية، ومثلت محطات مهمة يؤرخ لها في تاريخ تطور الفكر والثقافة والمعرفة في هذه المنطقة.

وعند فحص هذه المشاريع يمكن القول إن الدكتور الجابري كما هو واضح يعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبهوا إلى ضرورة نقد العقل العربي بنية وتكوينا وتجليا، وأقام مشروعه الفكري على قاعدة العلاقة بين العقل والنهضة، متخذا من نقد العقل سبيلا إلى النهضة.

ومالك بن نبي يعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة، وأعاد الاهتمام بفكرة الحضارة في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.
وأبو القاسم الحاج حمد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبهوا لفكرة العالمية الإسلامية الثانية في إطار جدلية العلاقة بين الغيب والإنسان والطبيعة.

والشهيد الصدر يعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبهوا وأسسوا لبناء صورة ذهنية كاملة عن الإسلام بوصفه عقيدة حية، ونظاما كاملا للحياة، ونهجا خاصا في التربية والتفكير.
والسيد فضل الله يعد كذلك من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبهوا لفكرة العلاقة بين الإسلام والحركة، وضرورة أن يتحول الإسلام إلى حركة، وأن لا تنفصل الحركة عن الإسلام من أجل إعادة الإسلام إلى الحياة من جديد.

اكتفيت بالأسماء التي وردت في السؤال، وكما يعلم الجميع فهناك أسماء أخرى كثيرة هي في منزلة هؤلاء، والأسماء المذكورة ما هي إلا نماذج لا غير.

والمشكلة الحقيقية في هذه المشاريع كانت ومازالت تتحدد في أمرين أساسيين، الأمر الأول يتحدد في عدم الاتصال الفعال بين هذه المشاريع، بالشكل الذي يظهرها وكأنها مشاريع مفككة ومنفصلة عن بعضها، وغير متعاضدة ومتكاملة.

والأمر الثاني يتحدد في عدم البقاء الفعال لهذه المشاريع، بالشكل الذي يظهرها وكأنها مشاريع منقطعة، وفاقدة للتواصل الفعال.

والتحدي الذي ينتظرنا هو في مدى قدرتنا نحن في بلورة وبناء مشاريع فكرية كبيرة ومؤثرة، تمثلا امتدادا لتلك المشاريع من جهة، وتجاوزا لها من جهة أخرى، فأين هي مشاريعنا نحن؟

هل تتفقون مع الذين يقولون بأننا نعاني من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع فكرية وفلسفية؟
من يقول بأننا نعاني من أزمة منهج لعله يستند على أن المشاريع الفكرية الكبرى الفعالة والمؤثرة التي ظهرت في الأزمنة الوسيطة والحديثة، وعلى الصعيدين الإسلامي والأوروبي، بدأت من المنهج، وعرفت وتميزت وتقومت بالمنهج.

وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى ثلاثة مشاريع فكرية معروفة ومؤثرة، اثنان منها ينتميان إلى المجال الإسلامي وهما مشروعا ابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي، وابن خلدون في القرن الرابع عشر، والثالث ينتمي إلى المجال الأوروبي وهو مشروع ديكارت في القرن السابع عشر.

بالنسبة لمشروع ابن رشد، والذي مثل أحد أبرز وأهم المشاريع الفكرية والفلسفية حضورا وتأثيرا ماضيا وحاضرا، وعلى الصعيدين الإسلامي والأوروبي، فإن هذا المشروع استند على ثلاثة مؤلفات عدت جميعها على أنها مؤلفات في المنهج، وهي كتاب (تهافت التهافت) الذي دافع فيه عن المنهج الفلسفي أمام منتقديه، وكتاب (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) الذي انتقد فيه منهج المتكلمين، وكتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) الذي وفق فيه بين المنهجين الديني والفلسفي.

وبالنسبة لمشروع ابن خلدون، المشروع الذي نال من المدح والتبجيل والثناء ما نال، من الأوروبيين قبل المسلمين، وعد فتحا لحقل الدراسات الاجتماعية والتاريخية، فإن هذا المشروع استند على مقدمة عدت كتابا في المنهج.

وهكذا بالنسبة لديكارت الموصوف في الأدبيات الأوروبية بأبي الفلسفة الحديثة، وبفضله انتقل الفكر الأوروبي من الأزمنة القديمة إلى الأزمنة الحديثة، فإن ديكارت بدأ مشروعه الفكري بكتاب في المنهج يعرف من عنوانه، هو كتاب (مقال في المنهج).

ومن جانب آخر، فإن القائلين بهذا الرأي قد يستندون أيضا على قول يعتبرون فيه أن الاختلاف الأساسي مع أصحاب المشاريع الفكرية من المعاصرين، أمثال أركون والعروي والجابري وحنفي وآخرين، هو اختلاف في المنهج مع هؤلاء.

ومن هذه الجهة، فإن هذا الرأي يعد مقبولا وصحيحا، وبالاستناد عليه يمكن القول أن أزمة المنهج تتقدم على أزمة المشروع.

وفي الجهة الأخرى، فإن علم الأصول والذي يعرف بعلم أصول الفقه، ويعد من أشرف العلوم، وليس له نظير لا عند أهل اليونان والرومان في الغرب، ولا عند أهل الصين والهند في الشرق، وقيل عنه وعن أهميته وقيمته ومنزلته ما قيل قديما وحديثا، فإن هذا العلم في جوهره وحقيقته هو علم في المنهج.

وقد نال هذا العلم قديما وحديثا من الأهمية ما نال على مستوى التأليف والتدريس والتدقيق، فهل استطاع أن يعالج مشكلة المنهج في حقل الدراسات الإسلامية، وحقل الدراسات الاجتماعية عند المسلمين!

وهل استطاع هذا العلم أن يولد أو ينهض بمشاريع فكرية! وهل اتصلت به المشاريع الفكرية التي تكونت ونهضت عند المسلمين في الأزمنة القديمة والحديثة!

ومن هذه الجهة، فإن هذا الرأي يعد مقبولا وصحيحا، وبالاستناد عليه يمكن القول أن الأزمة ليست في المنهج فحسب.

وعلى هذا الأساس، وبالاستناد على هذا التحليل، يمكن القول إن الأزمة التي أصابت المسلمين في مجال المعرفة الإسلامية، هي أزمة فكرية وحضارية مركبة، أصابت المنهج من جهة، وأصابت المشروع من جهة أخرى.

عرفت مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحولات مهمة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا في حين عجز الفكر الإسلامي على مواكبة هذه التحولات، فما هي الآليات والوسائل القمينة بتحديث هذا الفكر وجعله أكثر راهنية؟

هذه واحدة من أهم وأكبر وأصعب المهمات التي تنتظر الفكر الإسلامي المعاصر، وقد عالجت هذه القضية في كتاب (الإسلام والتجديد.. كيف يتجدد الفكر الإسلامي؟) الصادر سنة 2008م، في هذا الكتاب اعتبرت أن تجديد وتحديث الفكر الإسلامي بحاجة إلى العناصر الآتية:

أولا: إيقاظ روح التجديد، فالتجديد يبدأ منذ لحظة انبعاث روح جديدة متطلعة إلى التجديد، ومع انبعاث هذه الروح يتوثب الفكر نحو التجديد، والبحث عن التجديد والتحديث في الفكر الإسلامي هو لإيقاظ هذه الروح، ومن دونها لن يكون للتجديد فاعليته المنتظرة، ولن يصل إلى مداه الذي يحقق فعل التجديد.

ثانيا: استعادة منطق الاجتهاد، المنطق الذي به استطاع العلماء المسلمون في عصرهم الأول تأسيس العلوم، واكتشاف المناهج، وابتكار النظريات في مختلف ميادين العلم والمعرفة، وبهذا المنطق يتحرر الفكر الإسلامي اليوم من أصنام التقليد والتبعية والجمود، ويتخلص من أوهام الرهبة والهيبة والشعور بالضعف، ويكتسب شجاعة النظر، وعزيمة الكشف، وقو الابتكار.
ثالثا: علاقة تجديد الفكر بتقدم الحياة، إن تقدم الحياة يمثل شرطا موضوعيا مهما لتجديد وتحديث الفكر الإسلامي، بمعنى أن هذه المهمة بحاجة إلى بيئة متقدمة.

رابعا: علاقة تجديد الفكر بتقدم العلم، ويمكن البرهنة على هذه الفكرة من خلال المقولة التي اشتهرت عند المفكرين الأوروبيين، وهي مقولة (لولا نيوتن لما وجد كانت)، أي أن التقدم العلمي العظيم الذي حققه إسحاق نيوتن في عصره، هو الذي ساعد الفيلسوف الألماني الشهير كانت للتوصل إلى فلسفته في العقلانية النقدية التي غيرت مسارات الفكر الأوروبي.

خامسا: تعميق المعرفة بإشكالية التراث والحداثة على قاعدة الاجتهاد في اكتساب علوم العصر.

لكن إذا كان الفكر الإسلامي في العالم العربي يعاني من غياب الإبداع والاجتهاد فإنه في إيران مزدهر بفضل حضور رموز فكرية حاضرة بقوة في المشهد الفكري والفلسفي هناك، فلماذا انقطع التواصل الفكري والفلسفي بين إيران والعالم العربي؟

إذا أردنا أن نعطي هذه القضية بعدا تاريخيا، يمكن القول إن الحركة العقلية التي تعثرت وتراجعت في مرحلة ما بعد ابن رشد في القرن الثاني عشر في المنطقة العربية، فإن هذه الحركة العقلية والفلسفية ظلت مستمرة ومزدهرة في إيران.

ويعد المستشرق والفيلسوف الفرنسي الشهير هنري كوربان أحد أكثر الغربيين دفاعا عن هذا الرأي، وبذل جهدا واضحا ومتماسكا في البرهنة عليه، وقد وجد أن مدرسة أصفهان الفلسفية في القرن السادس عشر الميلادي، مثلت ظاهرة لا نظير لها في مكان آخر من العالم الإسلامي، وحسب رأيه إذ كان يعتبر أن باب الفلسفة قد أغلق منذ أيام ابن رشد، واعتاد المؤرخون أن يروا في الرشدية الكلمة الأخيرة في الفلسفة العربية، في حين تقدم لنا الفلسفة الإسلامية في الشرق، وعوضا عن ذلك معينا لا ينتهي من المناهل والثروات الفكرية.

هذا عن الماضي أما عن الحاضر، فإن من الصحيح القول إن الفكر الإسلامي في المجال العربي يفتقد إلى تلك الحيوية والدينامية التي يتسم بها الفكر الإسلامي في إيران.
وإشكالية التواصل لها بعد أعم، لا تنحصر وتتحدد في إيران، فهناك انقطاع عن التواصل مع المعرفة في الهند وفي الصين، وحتى في تركيا.

وهذه الإشكالية تكشف عن ضعف وقصور في الفكر الإسلامي في المجال العربي.

هناك أزمة يعانيها المثقف الإسلامي وهي ضعف التواصل بين الجناح السني والشيعي، أي لا يستفيد كل طرف من الإنتاج الفكري للطرف الآخر؟

هذه واحدة من تجليات الأزمة الثقافية عند المسلمين، وكان المفترض من المثقف الإسلامي أن يتعالى على هذه الأزمة، ويكون ناقدا لها، ومفككا لبنيتها المفاهيمية والسلوكية، ومقوضا لجذورها وأساسياتها الفكرية والتاريخية، ومنبها لخطورتها، ومبصرا بتداعياتها، وداعيا لتجاوزها والتخلص منها.

وذلك بحكم أن المثقف في صورته الحقيقية، يفترض فيه أن يتسم بنزعة نقدية، وحس انفتاحي، وبعد نظر، وتمسك بكل ما هو جامع، وإدراك للمشكلة الحضارية في الأمة.
هذا عن الجانب المفترض، أما عن الجانب المجسد، فإن الواقع يقدم صورة مغايرة عن حالة المثقف الإسلامي، وبالأحرى يقدم أكثر من صورة عن حالة المثقف الإسلامي، حتى لا نقع في إشكالية التعميم غير المحبذة عادة علميا وموضوعيا.

فهناك المثقف الذي ينغلق على ذاتيته المذهبية السنية أو الشيعية، وهذا النمط من المثقفين لا يحمل عادة الهم الحضاري للأمة، وهناك أيضا المثقف الذي ينفتح على المذهبيات الإسلامية، وهذا النمط من المثقفين هو الذي يحمل الهم الحضاري للأمة، وهو النمط الذي تحتاجه الأمة حقا.

مع ذلك يمكن القول في الانطباع العام، بأن المثقف الإسلامي الشيعي هو أكثر انفتاحا وتميزا من هذه الجهة.

لماذا لا نجد مؤسسات فكرية وثقافية مشتركة تكون بوابة للتواصل والتعاون؟

هذا ما نحتاجه فعلا، وهذا ما ينبغي العمل به، والتأكيد عليه، والسعي العملي والجاد لأجله وفي سبيله، وعلينا أن نمارس النقد من هذه الجهة على المؤسسات الفكرية والثقافية القائمة والموجودة، وندعوها إلى تدارك هذا النقص، وهذا الضعف، وهذا الخلل، الذي ينتقص من صورتها وهيبتها، ويحد من تأثيرها وفاعليتها، ويقلل من منزلتها ومكانتها.

وعلينا أن نعلم أن الأمة بحاجة إلى مؤسسات فكرية وثقافية تعكس صورة الأمة الجامعة، لا صورة الأمة المنقسمة على نفسها.

والمؤسسات التي تحمل هذه الروح وتتمثلها ينبغي دعمها، والدفاع عنها، والعمل على إنجاحها، ولفت النظر إليها.

تعتبر مجلة الكلمة من بين المجلات الإسلامية الأكثر حضورا في الساحة الثقافية الإسلامية، حدثنا عن قصة التأسيس والمسار؟

في الحديث عن قصة تأسيس مجلة الكلمة، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أطوار أساسية، هي: طور ما قبل التأسيس، وطور التأسيس، وطور ما بعد التأسيس.

طور ما قبل التأسيس، يلفت النظر إلى طبيعة المقدمات والأرضيات التي هيئت وساعدت على انبعاث فكرة تأسيس المجلة، وتحدد هذا الطور في التواصل الذي كان قائما مع المجلات الفكرية التي تصدر من بيروت بشكل خاص، إلى جانب التواصل مع مراكز الدراسات هناك، فقد كنا على تواصل مع مجلة (الاجتهاد) التي كان يصدرها الدكتور رضوان السيد مع الدكتور فضل شلق وتوقفت سنة 2003م، ومع مجلة (منبر الحوار) التي كان يصدرها الدكتور وجيه كوثراني وتوقفت سنة 1999م، ومع مجلة (المستقبل العربي) التي تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ومازالت مستمرة، إلى جانب مجلات ومراكز أخرى.

هذا الانفتاح والتواصل وضعنا في قلب البيئة الثقافية، وعرفنا على المجال الثقافي الحيوي الذي ينبغي أن نتحرك فيه، ونعوم في داخله، وأفادنا في التعريف بأنفسنا في الوسط الثقافي، وهذا ما شجعنا على العمل بتأسيس مجلة الكلمة.

طور التأسيس: تأسيس مجلة الكلمة جاء كتعبير على ضرورة الانتقال بالنسبة إلينا من حالة الكسب إلى حالة العطاء، ومن حالة التلقي إلى حالة الإنتاج، ومن حالة الشعور بالقدرة عند الآخرين إلى حالة الشعور بالقدرة عند أنفسنا.

وعملنا منذ البداية في أن تكون لمجلة الكلمة شخصيتها الذاتية التي تميزها عن باقي المجلات الأخرى، بمعنى أننا أردنا من الكلمة أن تكون مجلة لا تكرر نفسها قدر الامكان في المجلات الأخرى، ووضعنا هندسة داخلية لأبواب المجلة تؤكد هذه الشخصية الذاتية الخاصة والمستقلة.

وسعيا وتحقيقا لهذا الغرض عملنا على تكوين مكتبة خاصة بالمجلات والدوريات الفكرية الشهرية والفصلية، وكنا نتابع بصورة مستمرة ما يقارب أربعين مجلة تصدر في مشرق العالم العربي ومغربه، إلى جانب مجلات أخرى تصدر في خارج العالم العربي مثل إيران.

وكان أملنا منذ البداية أن ننجز عملا ثقافيا بامكانه أن يكون متابعا ومقروء في مصر والمغرب العربي، وأن يتخطى الحواجز المذهبية، ويصبح ساحة ومنبرا للتواصل الفعال بين النخب الثقافية السنية والشيعية.

وأظن أننا قطعنا شوطا كبيرا بشهادة الكثيرين في هذا الدرب، فالكلمة اليوم تتابع في المغرب العربي أكثر من أي مكان آخر، وأما تخطي الحواجز المذهبية والتواصل الفعال مع النخب الثقافية من الفريقين السني والشيعي، فإنني أستطيع القول وبشهادة الكثيرين أيضا، أن الكلمة من أنجح المجلات الثقافية الراهنة في هذا الشأن.

وأما طور ما بعد التأسيس: فإن الكلمة قد تجاوزت مرحلة الاختبار الزمني، وتمكنت من البقاء والاستمرار، وهي اليوم تشارف على اكتمال عقدها الثاني، كما أنها تجاوزت مرحلة الاختبار الثقافي وتمكنت من الوفاء والحفاظ على مسلكها الثقافي الذي يتخذ من الأمة الجامعة إطارا ومسلكا، ولم تبدل وتغير في مسلكها مع كل العواصف ورياح الفتن المذهبية السوداء التي مرت على الأمة ومازالت تمر بها.

والكلمة اليوم ينظر لها على أنها تمثل حالة ثقافية تعرف وتميز بها في المشهد الثقافي العربي والإسلامي المعاصر، ومازالت تؤدي رسالتها، وتشق طريقها، بوعي ونضج، ونسأل الله العافية.

ماذا أضافت لكم مجلة الكلمة؟

مجلة الكلمة هي من أهم الأعمال الثقافية التي أسهمت بإنجازها، ومثلت محطة مهمة في أطوار تجربتي الثقافية، فهي المنبر الأساسي الذي من خلاله عرفت بكتاباتي ودراساتي الفكرية والثقافية، وفتحت لي أفقا واسعا للتواصل مع شريحة كبيرة من الكتاب والباحثين في مشرق العالم العربي ومغربه، ومن الفريقين الإسلاميين في الأمة.

لماذا تنعدم المجلات الفلسفية والفكرية في العالم العربي مقابل تكاثر المجلات الأدبية والفنية؟

يكشف هذا السؤال عن أحد ملامح المشهد الثقافي الراهن في العالم العربي، وكيف يتقدم ما هو حسي وعاطفي وذوقي وخيالي، على ما هو ذهني وعقلي وفكري وفلسفي، وكيف يتفوق ما هو ربحي واستهلاكي، على ما هو معنوي وبنائي، وكيف يتغلب ما هو خالي من قوة المعنى والمضمون، على ما هو حاوي من قوة المعنى والمضمون، وكيف أن منطق السوق بات مسيطرا، في حين أن منطق الفكر بات مستضعفا.

كما أن التراجع الفلسفي والانحدار الفكري في المجال العربي يصلح أن يكون عنصرا مفسرا، لهذه القلة، أو لهذا الانعدام للمجلات الفلسفية والفكرية، وبسبب هذا التراجع والانحدار تفتقد هذه المجلات إلى البيئة الخصبة، وإلى المجال الحيوي، الذي يزود هذه المجلات بعناصر ومقومات الحياة والبقاء.

كيف تنظر إلى إشكالية العلاقة الثقافية بين المشرق والمغرب؟

لا بد من التأكيد أولا أن النظر لهذه الإشكالية، إنما يأتي في سياق البحث عن المجال العربي الكلي، والمتصل بين أجزائه وعناصره ومكوناته، وذلك حذرا وتجنبا من تحويل هذه الإشكالية إلى أداة تقسيم وتجزئة، أو أداة بث للفرقة والانقسام، أو أداة لخلق التعالي والكبرياء.

ولعل منشأ هذه الإشكالية هو الشعور الذي حصل عند أهل المغرب بالتفوق الفكري والثقافي، أو لا أقل بالتكافؤ الفكري والثقافي مع أهل المشرق، أو بضرورة التخلص من التبعية والشعور بالدونية، أو بأي صورة من صور الانتقاص تجاه أهل المشرق.

وهذه الحالات بكل صورها من حق أهل المغرب الشعور بها، والتعبير عنها، ولا ضير في ذلك على الإطلاق، ولا حذر ولا خشية في ذلك، والشعور بهذه الحالات لم يأت من فراغ، كما لم يأت من مجرد التعبير عن رغبة لا أساس لها ولا واقع، وإنما هو شعور يستند على واقع حقيقي، ويصدقه الواقع الفعلي من خلال الأعمال والمنجزات الفكرية المميزة.

لكن الذي حور هذه الإشكالية وحملها فوق ما تحتمل، هو الدكتور محمد عابد الجابري حين وضع هذه الإشكالية في إطار ما اسماه بالقطيعة المعرفية، وأعطاها بعدا تاريخيا يرتد إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية، وبالشكل الذي يفصل بين ابن سينا وابن رشد، وبالطريقة التي يتجنى فيها على ابن سينا بتلك التهم والانطباعات والتحليلات والتفسيرات الغاضبة والمنفعلة والمتحيزة، والتي يغلب عليها الطابع الأيديولوجي الباهت والمضلل، كما شرحها وتوسع في شرحها في كتابه (نحن والتراث).

فكرة القطيعة المعرفية عند الجابري هي التي وضعت إشكالية العلاقة الثقافية بين المشرق والمغرب، في إطار الانفعالات النفسية، وفي السياق الجدليات المنفعلة عند أهل المشرق خاصة.

اسمح لي أن انتقل بكم إلى سياق الربيع العربي، ما قراءتكم له؟

العالم العربي بصورة كان بحاجة إلى التغيير، وهي المهمة التي تأخرت وتأجلت، وظلت تتأخر وتتأجل باستمرار، حتى وصلت الأمور في هذه المنطقة من العالم إلى وضع لا يطاق، وكانت على حافة الانفجار، وذلك بعد أن ظلت لفترة غير قصيرة تعيش على صفيح ساخن.
والتغيير السياسي الذي حصل في هذه المنطقة، سيظل لفترة من الزمن في دائرة الضوء والفحص والنظر، حتى تتكشف حقيقته، وتنجلي صورته، ويرفع الستار عن الخبايا التي كانت تقف ورائه.

وخلال فترة قصيرة من حصول هذه الموجة من التغيير السياسي، ظهر الاختلاف والتباين في توصيف هذه الموجة، هل هي ثورات عربية! أم انتفاضات عربية! أم صحوة إسلامية! أم هي ربيع عربي! أم هي تحولات ديمقراطية! إلى غير ذلك من توصيفات.
لكن القدر المتيقن عندي أن هذه الموجة لا يصدق عليها وصف الثورات، إلا أن نقول عنها أنها ثورات تحت السيطرة، أو أنها ثورات غير مكتملة، وفي هاتين الحالتين لا يمكن إطلاق وصف الثورة، لأن من شروط الثورة التحرر من القوى الأجنبية، والشعور بالاستقلال الكامل عن القوى الأجنبية، وهذا ما لم يحصل على الإطلاق.

ما تصوركم لمستقبل الديمقراطية في العالم العربي بعد الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية؟
لأول مرة منذ نصف قرن يتنسم العالم العربي عبير الديمقراطية، وحان الوقت الذي نقول فيه أن موجة الديمقراطية قد وصلت إلى العالم العربي، بعد طول انتظار، وبعد زمن من الشقاء والعيش المر، وبعد أن كاد الاستبداد يسلب منا الأمل.

والديمقراطيات التي ظهرت في العالم العربي مازالت ديمقراطيات ناشئة، بحاجة إلى فترة من الاستقرار حتى تترسخ وتتجذر، وتعطي أكلها.

ولهذا فإن العالم العربي بحاجة اليوم إلى مراكز تعنى بمراقبة هذه الديمقراطيات، كما تعنى أيضا بترشيد مثل هذه الديمقراطيات الناشئة، وتشجع العالم العربي على التحول الديمقراطي، والدفع به نحو تقبل الديمقراطية، وذلك لأن لا مستقبل للعالم العربي من دون الديمقراطية التي تضمن حق المشاركة السياسية للأمة على قاعدة المواطنة المتساوية، وفي ظل مرجعية الدستور، وحاكمية القانون، وعلى أساس احترام حقوق الإنسان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى