ما زال النقد العربي في أغلبه أدبيا
الدكتور محمد بوعزة
ناقد وباحث أكاديمي في النظرية والخطاب. صدر له: (هيرمينوطيقا المحكي: النسق والكاوس في الرواية العربية، دار الانتشار، بيروت،2017) و(الدليل إلى تحليل النص السردي، المغرب، 2007) و(إستراتيجية التأويل: من النصية إلى التفكيكية، بيروت، 2011)، و(تحليل النص السردي، بيروت، 2010)، و(حوارية الخطاب الروائي، تونس، 2012)، بالإضافة إلى مشاركتي في كتب جماعية، وأشغال ندوات عربية ودولية، ومتابعتي للحركة الثقافية عبر عضويتي في الهيئات العلمية الاستشارية لبعض المجلات العلمية (البحور الألف، العبارة، مبدأ، كتابات معاصرة)، والعضوية في مراكز بحث علمية أكاديمية.
ناقشتم في أطروحتكم الجامعية «هرمونيطيقا المحكي النسق والكاوس في الرواية العربية» فما هي الإشكالية المركزية لهذه الأطروحة ؟ وما هي الخطوط العريضة لها؟
ما حاولت اقتراحه في تجربتي النقدية هو صياغة مقترح معرفي موسع للخروج بالسرديات من مأزقها البنيوي. وهو الاقتراح الذي انبنت عليه أطروحة كتابي "هيرمينوطيقا المحكي: النسق والكاوس في الرواية العربية، دار الانتشار بيروت، 2007) بتقديم تصور معرفي يدرج السرد ضمن أنساق شمولية، معرفية وثقافية وتأويلية تتجاوز البعد البنيوي المحدود. وذلك من منطلق فرضية نظرية تسلم بتجاذب الاستطيقي والثقافي، وجدليات المتخيل والقوة، ووديناميات الكتابة والرغبة. وبالتالي كان من الضرورة الابستيمولوجية أن أعيد النظر في مفهوم السرد، بمحاولة صياغة تحديد جديد يضع في الاعتبار هذه المرجعيات المعرفية و الثقافية التي تولي الأهمية لدور النسق في تشكيل وظيفة السرد، وآلياته في انتهاك هذا النسق وفرض استراتيجياته. فكان أن اعتبرنا السرد تشكيل عالم متخيل تحاك ضمنه استراتيجيات التمثيل، وصور الذات عن ماضيها، وتشتبك فيه أوهام المتخيل وأهواء القوة، حفريات الرغبة وسياسات السرد. هذا ما تؤكده الرواية عبر العالم، في الرواية الكولونيالية و وما بعد الكولونيالية، و "آداب العالم الثالث"، وكتابات "الأصلاني " في الدول التي تعرضت شعوبها الأصلية للمحو (أستراليا، أمريكا..)، وكتابات المنفى والمهجر والشتات، والكتابة النسوية، وروايات التابع. وهذا ما عبرت عنه الرواية العربية باقتدار جمالي عال منذ نشأتها، حيث عبرت عن رغبة الفرد في الحرية والتحرر من كافة أشكال القمع والتسلط، سواء كانت ذات مرجعية ثقافية أو دينية أو سياسية أو تراثية.
ما تؤكده هذه التجارب أن السرد له جانب استطيقي يتعلق باستراتجيات الكتابة، وجانب ثقافي دنيوي يتعلق بديناميات القوة والرغبة، والقدرة على الحكي. وتؤكد التشكلات النصية ت جدليات العلاقة بين هذين المستوين، عبر تشابك البؤر والمسارات و الاستراتيجيات. لذلك نعتقد أن القراءة الدينامية هي التي تبني إستراتيجيتها في تفاوض هذين المسارين وتجاذباتهما. بقدر ما تستكشف جماليات السرد و آلياته السردية، فإنها تفتح عالم الحكاية على فضاءات نصية تأويلية أوسع، تسمح لها بتفكيك بؤر إنتاج المعنى و زحزحة مراكز إنتاج الصور والتمثيلات، باستكشاف مضمراتها الثقافية الإيديولوجية المبثوثة بشكل واعي أو لاواعي، حيث يتم استحضار سياقات الهوية و اشتباكات المتخيل والقوة، وتفاوضات الذات والسلطة.
باعتباركم من الناقدين الكبار في العالم العربي , ما هو وضع النقد العربي اليوم؟
لعل أول ما ينطوي عليه النقد العربي اليوم هو درجة عالية من الوعي الابستيمولوجي، ذلك أنه منذ أواخر السبعينات، انخرط في مشروع البناء المنهجي الذي يتخذ صورة نظرية معرفية، بحيث أصبحت ممارسة النقد مبنية على وعي منهجي مؤسس على مرجعيات نظرية واضحة . وعي يؤكد البناء المعرفي للنقد كخطاب منهجي، يمارس وظيفته بصفته فعلا ينتج المعرفة عبر الاشتغال على النصوص.
يترجم هذا الوعي نفسه في حركة نقاش منهجي، لا يكف عن استنطاق وظيفة النقد وأشكال مقارباته، من حيث مراجعة استراتيجياته وإعادة النظر في نماذجه، بقصد تحسين أدائه، والارتقاء بوظيفته إلى مستوى ممارسة معرفية ملائمة لها صفة نسق مبني بمرجعية محددة، تمتلك شرعية الانتساب إلى نظرية معينة أو منهج نقدي. ومن ثمة نلاحظ خلال هذه الفترة سيادة واضحة نسبيا لخطاب التنظير الذي يشتغل على النقد بإستراتيجية إنتاج معرفة جديدة بصورة " نسق" يستجيب لشروط الملاءمة السوسيو ابستيمولوجية. ومن هنا نفهم أيضا ما تشهده هذه الفترة من دينامية نقدية تتغذى من استلهام المناهج والنظريات الحديثة. وهذا ما ساهم في اقتحام الخطاب النقدي آفاقا جديدة من التحليل والمقاربات والقراءات، بنيوية وسيميائية وتفكيكية وتأويلية... ما أتاح للنقد إزاحة الإشكاليات القديمة، وطرح أسئلة جديدة،و إعادة صياغة الإشكاليات بمنظور جديد.
وعلى الرغم مما فرضته المثاقفة من توترات ابستيمولوجية وشروخ ثقافية، فقد استطاع النقد العربي في نماذجه الجيدة أن يتمثل أهم المناهج والنظريات الحديثة. هذا لا ينفي أن تفاعله أحيانا كان مشوشا بصور التجزيء والانتقاء. ولكن الجانب المهم في هذه العملية أن تاريخية الممارسة وما تنتجه من تراكمات خطية تنبثق عنها تحولات لاخطية، هي التي تتيح للوعي النقدي أن يتعمق في تطوير إستراتجيته النقدية في سياق شروط فهم تاريخي واع بإشكالياته النظرية والثقافية، لا يتوقف عن المساءلة وإعادة النظر.
وإذا كان البعض يرى في تعدد المناهج علامة دالة على التيه والضياع، بحكم رؤية تقنية لمفهوم المنهج تعزله عن سياقات تكونه الثقافية والتاريخية، فإننا نؤكد أن تعدد المناهج الذي أنتجه سياق النقد الحديث، قد أسهم في وسم الخطاب النقدي بخاصية الانفتاح التي مكنته من الإحاطة بهوية النص في تعدد مرجعياتها وتداخل أبعادها، و من الحرص على استقصاء القيمة الاستطيقية للأعمال الأدبية، ومستويات بنائها واستراتيجيات تلقيها وتأويلها.
ومن منظور تاريخي، فإن ما عرفه تاريخ النقد الحديث من تعدد مقاربات واختلاف نماذج، كان لفائدة تطوير معرفة مركبة بالطبيعة المعقدة للنص، على اعتبار أن كل واحد من هذه المناهج والنظريات قدم إضافات واجتهادات واقتراحات كشفت جوانب معينة من هوية النص. وبالتالي فالأمر لا يتعلق بعلاقة إلغاء ونفي، ولكن بجدل دينامي تتولد عنه معرفة مركبة.
هل تتفقون على أن النقد العربي في العالم العربي, يعاني من أزمة منهج؟
لا أتفق مع ذلك، لأن من يقول بالأزمة ينطلق من منطلقات إيديولوجية قومية، حيث الأحكام جاهزة ومسبقة، والأسئلة الحرجة مؤجلة غير مفكر فيها، أو ينطلق من منطلقات صورية تختزل المنهج في صورة إجراءات وأدوات تقنية، تعزله عن سياقاته الثقافية والتاريخية. لذلك هنا ينبغي الحذر ووضع الإشكال في سياقه الثقافي المعقد:
أولا، ينبغي تفادي خطر التعميم الذي يؤدي إلى التدمير. ففي حالة الخطاب النقدي لا يتعلق الأمر بممارسة متجانسة أو بخطاب أحادي، بل بأشكال خطابية متعددة في استراتجياتها ورهاناتها، فلا يمكن في الحكم على النقد العربي أن نساوي بين النقد الجامعي والنقد التعليمي مثلا، بين خطاب البويطيقا والتفسير والتعليق، بين خطاب التنظير وخطاب النقد الصحفي...لابد من استحضار هذه التمييزات وما تفرضه من مستويات منهجية مختلفة ومتباينة تستدعي مقاربات مختلفة، لأن أحكام القيمة التي يطلقها البعض جزافا لا تفرق عادة بين هذه الخطابات، وبالتالي تبني أحكامها على تعميمات عمياء، تغفل القواعد والمعايير التي تحدد نظام كل خطاب. ما يحدث عادة أن ناقدا يصدر حكما على أحد هذه الخطابات، فيعممه على كل الخطاب النقدي العربي بمختلف أشكاله المتعددة. لهذا نؤكد أن الوعي بنظام الخطاب، مع مراعاة ما يتطلبه التحليل الابستيمولوجي من معايير استدلال وفق رؤية ثقافية تاريخية، يمثل شرطا معرفيا لكل مقاربة ابستيمولوجية لإشكالية المنهج في الخطاب العربي.
ـ ثانيا في سياق تفكيك إشكالية المنهج في النقد العربي، ينبغي تجاوز التصور التقني الذي يختزل المنهج في صورة إجراءات وتقنيات مستمدة من مرجعية معينة أومن سياق آخر، واعتماد رؤية ثقافية تنظر إلى المنهج كفعل سيرورة وعي خاص يتكون ويتطور في دينامية سياقات ثقافية متعددة (الثقافة، المعرفة، العلم، الإيديولوجيا، السلطة، المؤسسات..) تؤثر في نظام ذلك الخطاب وحدوده وفاعليته.
وبالنظر إلى مسألة المنهج بهذا المنظور الثقافي، نلاحظ أنها تمثل صيرورة دينامية معقدة تعكس مجموع اجتهادات ومشاريع لا يلغي بعضها البعض بدأت منذ أواخر القرن 19 وبداية القرن20 مع جيل طه حسين وسلامة موسى. بل يتوضح من خلال هذا التاريخ أن كل تجربة من تلك التجارب قدمت منظورات ورؤى في رحلة البحث عن المنهج لا يمكن إلغاؤها أو تجاهلها بالنسبة لمن يريد أن يؤرخ للنقد العربي الحديث. هذا يؤكد الامتداد التاريخي لإشكالية المنهج، التي تفترض رصد مسارات الامتدادات والانتقالات التي توضح طبيعة التطور على صعيد النظرية والممارسة. وهذه الصيرورة هي التي توضح بأن وضع المنهج في النقد العربي هو وضع إشكالي في سياقات تكونه وتأسيسه وممارسته من عدة جوانب:
ـ إشكالي في سياق تكوينه، حيث أن النقد العربي الحديث ارتبط في تكونه بإشكالية المثاقفة، التي وضعته في مواجهة إشكاليات الاختلاف الثقافي وتجاذبات الهوية والآخر وسياسات النهضة.
ـ إشكالي في سياق علاقته بالتراث، ذلك أن الكيفية التي نقرأ ونؤول بها التراث النقدي، تصوغ فهمنا ومنظورنا للنص في الحاضر.
ـ إشكالي في السياق الابستيمولوجي لإنتاج المعرفة، حيث أن النقد العربي الحديث في عملية بناء خطابه، يتأرجح في وضع المابين: بين النموذج والنص، بين التراث والحداثة، بين النظرية والسياق، بين العلم والثقافة، بين المعرفة والإيديولوجيا.
وبالتالي فإن أي فهم لإشكالية المنهج في النقد العربي، من حيث معايير الملاءمة والإنتاجية، ينبغي أن يبني شروط مقاربته انطلاقا من هذا الوعي بالسياق الثقافي، الذي يمكن من توضيح القوانين المؤثرة فيه والرهانات المحركة لخطابه.
وفق هذا المنظور السوسيو ثقافي، لا ينبغي النظر إلى ما يصاحب صور التلقي الثقافي من تحديات ابستيمولوجية و تصدعات عبر ثقافية على أنها ظواهر سلبية، بقدر ما ينبغي تحليلها بوصفها شروطا سياقية تؤثر في نظام الخطاب. فلكل صيرورة تجاذباتها الدينامية وتوتراتها الجدلية. وفي هذا الجدل الصدامي بين الضرورة والحرية تختبر فاعلية الفكر وقدرته على تخطي الحدود واستشراف الآفاق الممكنة.
سيدي الكريم هناك من الباحثين من يعتبر أن النقد العربي والتنظير له متقدم جدا في المغرب العربي (كيليطو، برادة، مفتاح، بارة...) على عكس ما هو موجود في المشرق هل هذا صحيح؟
ثمة أكثر من مؤشر يدل على الوضع المتقدم للنقد في المغرب، سواء على مستوى الإنتاج أو الحضور المغربي في المحافل الثقافية العربية، أو على مستوى المتن النقدي الذي تحول بفعل هذه الصيرورة الدينامية إلى مرجعية متميزة يصعب على أي باحث أو مؤرخ تجاهلها. وهذا ما انتبه إليه النقاد الأشقاء في الوطن العربي. ويرجع ذلك إلى عوامل تاريخية وثقافية، من ذلك انفتاح الجامعة المغربية في وقت مبكر، منذ الستينات على المناهج والنظريات الغربية الحديثة، مما ساهم في تكوين جيل جديد من النقاد الأكاديميين.
ثانيا أن المناهج والنظريات الحديثة في الغرب انطلقت من فرنسا، في إطار ما يعرف بالمدرسة الفرنسية (البنيوية وما بعد البنيوية) خلال الستينات، وهذا ما ساهم في تسهيل عملية المثاقفة، بحيث شكل الوضع المتميز للغة الفرنسية في نظام التعليم المغربي أداة مساعدة ومباشرة في اطلاع الباحثين المغاربة على المناهج والنظريات في أصولها الفرنسية. ثالثا، إن تطور مجال الإنتاج المعرفي بالمغرب في وقت مبكر في بعض حقول العلوم الإنسانية خاصة في مجال التاريخ مع عبد الله العروي، ومجال علم الاجتماع مع عبد الكبير الخطيبي ومجال اللسانيات، شكل مرجعية معرفية استفاد الخطاب النقدي منها في تجديد استراتجياته م و تطوير مفاهيمه و تحديث مقارباته.
الجزء الثاني:
شهدت الدراسات ما بعد الكولونيالية تطورا هاما على صعيد الكم والكيف حيث برزت أسماء وازنة على سبيل المثال هومي بابا وادوارد سعيد...فما موقعها في المشهد الثقافي العربي؟
في هذا السياق يحضرني ما عبر عنه إدوارد سعيد من خيبة أمل في مقدمة كتابه (الثقافة والإمبريالية)، وهو يتساءل عن الأثر المحدود لكتابه( الاستشراق) في الفكر العربي، خاصة وأن هذا الكتاب يعتبر بحق المرجع المؤسس للنقد ما بعد الكولونيالي: لماذا ساعد الاستشراق في باكستان والهند وإفريقيا واليابان وأمريكا اللاتينية وأوربا والولايات المتحدة على إطلاق العديد من استراتجيات الخطابات الجديدة وأساليب التحليل الجديدة، وحركات مراجعة وإعادة تأويل للتاريخ والثقافة والتراث، فيما ظل تأثيره في العالم العربي محدودا؟
وأعتقد أن الوضع لم يتغير بالصورة الجذرية التي تجعل هذا التأثير عميقا وجذريا. ما زال النقد العربي في أغلبه أدبيا، ولم يتجاوز تفاعله مع النقد الثقافي المستوى الإجرائي، الذي يتمثل في استعارة بعض مفاهيميه وتوظيفها في سياق التحليل الاستطيقي الأدبي، بحيث لم يستطع أن يقتحم الإشكالات والمناطق الخطرة للنقد الثقافي وما بعد الكولونيالي، مثلما نجد في الاستشراق أو الثقافة والإمبريالية، وفي تحليل للخطاب في سياق أوسع للسيطرة والمقاومة، وحول التاريخ والجغرافيا، وحول توظيفات الثقافة في صراع القوة ومشاريع التفكير بالتحرير وتفكيك الاستعمار والهويات القومية القاتلة، والتحليل الدقيق لاستراتجيات السلطة،كما للتواريخ الجديدة والسرديات البديلة. ولذلك لم يستطع النقد العربي مثلا أن يطور مدرسة في النقد ما بعد الكولونيالي، مثلما حدث الهند، في العمل الناجم عن تفحص الثقافة الهندية والآسيوية في جماعة (دراسات التابع) بإدارة المؤرخ «رانا جيت جوها» أو في جنوب آسيا، في الجهود التي تقوم بها نشرة الباحثين الأسيويين المعنيين.
ولذلك يمكن الحديث في النقد العربي فقط عن أسماء تستفيد من النقد الثقافي وليس عن مشاريع أو حركات أو جماعات، أذكر من هؤلاء عبد الله الغذامي، عبد الله ابراهيم، عبد الوهاب المسيري..
أحيانا يتم الخلط بين النقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية فهل من تمييز علمي لهما؟
لا يخلو مصطلح "ما بعد الكولونيالية" من التباس. ويرجع ذلك في بعض جوانبه إلى الاستخدام الواسع للمصطلح نفسه في مجالات عديدة متسعة باتساع مجالات الثقافة وتواريخ وجغرافيات الكولونيالية، حيث يتم توظيفه في وصف تشكيلة هائلة من الممارسات الثقافية والاقتصادية والسياسية على نحو يصعب تقييد المصطلح ضمن حدود قارة. فهو يفهم أحيانا بمفهوم ضيق يشير إلى نوع من التحليل يهتم بالثقافة الوطنية بعد رحيل الاستعمار. وفي البدايات المبكرة استعمل للتمييز بين مرحلة ما قبل الاستقلال ومرحلة ما بعد الاستقلال،فيما يتصل ببناء الثقافة الوطنية. ومع التطورات اللاحقة أصبح يستخدم ليشمل كل ثقافة تأثرت بالعملية الإمبريالية منذ اللحظة الكولونيالية حتى يومنا الحالي.
ما نستتجه من هذا السياق التاريخي لظهور مصطلح ما بعد الكولونيالية أنه نشأ وتأسس كنقد للثقافة الوطنية، بمعنى أنه بدأ "نقدا ثقافيا". ولذلك يعتقد البعض (بيل أشكروفت، غاريث غريفت، هيلين تيفن) أن مصطلح ما بعد الكولونيالية هو الأكثر ملاءمة بوصفه مصطلحا للنقد عبر الثقافي الذي ظهر في السنوات لأخيرة. وبهذا المعنى الثقافي يوظف بيل أشكروفت مصطلح ما بعد الكولونيالية للاهتمام بالعالم كما كان موجودا أثناء فترة الهيمنة الإمبراطورية الأوربية، وبتأثيرات تلك الفترة في الآداب المعاصرة. وهو الأمر الذي نجده حاصلا عند "وليام هارت" في كتابه النقدي عن إدوارد سعيد، حيث يتحدث عنه بصفته ناقدا ثقافيا، مع العلم أن كتاب الاستشراق لادوارد سعيد يعد أهم مرجع مؤسس للنظرية ما بعد الكولونيالية. هذا التداخل نجده أيضا في منظور "هومي بابا " أحد أبرز مفكري ما بعد الكولونيالية في الوقت الراهن إلى جانب "غياتري سبيفاك"، حيث يتحدد موضوع النظرية ما بعد الكولونيالية عند "هومي" في موضوع " الاختلاف الثقافي " الذي فرضته تواريخ الكولونيالية. لكن الإضافة بالمعنى الديريدي في تصور "هومي" هو المنظور الذي يتم منه تفكيك " الاختلاف الثقافي، في السياق ما بعد الكولونيالي. فبدلا من موقع النظرية الغربية المتمركزة عرقيا، تطرح النظرية ما بعد الكولونيالية موقعا ثوريا جديدا، هو موقع "التابع" بمفهوم "دراسات التابع"، الذي يعاد من منظوره كتابة تاريخ الحداثة، وتواريخ الكولونيالية والاضطهاد والاستعباد والاستغلال.
بهذا المعنى تمثل النظرية الكولونيالية عند (هومي بابا) تغييرا في موقع الخطاب، عبر عملية إزاحة لموقع النظرية الغربية المتمركزة، وإحلال موقع "الأقلوي" الذي يفصح من خلاله "التابع"، أي المستعمرون (بفتح الميم) والمضطهدون السابقون عن التباينات الاجتماعية التي فرضتها تواريخ القوة الكولونيالية.
وبحسب طبيعته وسياقه الثقافي، يمثل المنظور ما بعد الكولونيالي موقعا هجين وبينيا، يفلت من التقاطبات المانوية (الغرب/ الشرق، التراث/ الحداثة، العبد/السيد...) حين يتحرر من أسر الديالكتيك المانوي، ويكشف عن فضاء للاختلاف لا تكون فيه الهويات محددة بسمات ثقافية متعينة م
هكذا، يتوضح أن النقد ما بعد الكولونيالي بدأ نقدا ثقافيا، غير أن التطورات التاريخية اللاحقة لمرحلة الاستقلال، وما ترتب عنها من نظم عالمية جديدة للهيمنة بعد انهيار منظومة الحرب الباردة، والتحاق أوربا الشرقية بأوربا الغربية وتسارع وتيرة العولمة في فرض صور وتمثيلات ثقافية أحادية تنميطية للثقافات، يمكن أن نقول أن النقد ما بعد الكولونيالي في سياقها المعقد لم يعد مقيدا بالتمفصلات الزمانية للمصطلح التي تقيده بالكولونيالية وما نشأ عنها من بنيات ثقافية وسياسية. بمعنى أن منظور النقد الثقافي توسع في الاستقصاء، بحيث لم يعد مجرد تفكيك لبنيات البلدان الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، بل استكشاف لديناميات السلطة والقوة والتحيزات الثقافية، وبذلك أصبح ينطوي على نوع من العمومية المتحررة من الإرث التاريخي لمصطلح ما بعد الكولونيالية.
ولذلك، فالأمر لا يتعلق بخلط بالمعنى السلبي، بل بتداخل وامتدادات في توظيف المصطلح. تداخل فرضته سياقات تاريخية ونظرية.