نحن بأمس الحاجة إلى دستور يحفظ التوازن
الدكتور محمد عثمان الخشت:أستاذ فلسفة الدين والفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب- جامعة القاهرة، له واحد وعشرون بحثا علميا محكما منشور عربيا ودوليا، وسبع وخمسون كتابا، وحقق 25 كتابا من التراث الإسلامي، وأشرف على عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه، والمشرف على مشروع جامعة القاهرة للترجمة، ورئيس تحرير مجلة هرمس( مجلة علمية محكمة)، وحاصل على العديد من الجوائز، منها: جائزة التفوق العلمي في العلوم الإنسانية من جامعة القاهرة 2010.، وعشرات شهادات التقدير والدروع من جامعات ومؤسسات دولية وإقليمية ومحلية.
س ... هل نجحت الثورات العربية في إحداث تأثيرا كبيرا في العقل العربي؟
لا شك أن الثورات العربية أحدثت تأثيرا كبيرا في العقل العربي لأنها جاءت من الجماهير ولم تأت من النخبة لكي تعبر عن هموم الناس وعجز الأنظمة العربية عن تلبية طموحات شعوبها، وعلى غير المتوقع جاءت هذه الثورات ليست تعبيرا عن أزمة اقتصادية في رأيي- وإنما عن إرادة الشعوب في تحقيق الكرامة وحياة سياسية تستجيب لحقوق الإنسان.
لقد سئم المواطن العربي أن يكون أداة في يد الحكام وأراد أن يتحول إلى غاية، أن يتحول إلى وسائل وأدوات لتحقيق حياة كريمة للشعوب. هذه الحركة الفكرية تكشف عن حدوث تحول في جدل العبد والسيد. فقد صار المواطن هو السيد والحاكم هو العبد. المواطن هو الذي يختار وهو الذي يقرر والحاكم هو الذي يستجيب وينفذ.
هذا المنطق الجديد يضع الفكر العربي أمام ضرورة التغيير بحثا عن الإنسان وعن التاريخ. كما أن حركة الفكر سوف تتغير كي تكون تعبيرا عن هموم الوطن وهموم الناس وستتخلى عن كونها تنظيرا وتأسيسا للسياسات المستبدة. وهذه الثورات تطرح تحديا جديدا أمام الفكر السياسي العربي، حيث يتعين على المفكرين العرب أن يبحثوا عن نظرية سياسية جديدة تلبي تحديات إقامة الدولة وتحديات إقامة ديمقراطية تداولية وتشاركية تشاورية، وأعني بذلك أن لا تكون الديمقراطية تعبيرا عن حكم الأغلبية وإنما فضاء يتيح المشاركة والتمثيل والفاعلية للجميع بما فيهم الأقليات، حيث الشعب هو الذي يحكم من خلال تمثيل برلماني يعبر عن كل أطيافه وليس فقط عن الأغلبية.
كما يكون النظام السياسي نظاما يعبر عن الإنسان. (رجلا أو إمرأة ) وليس نظاما ذكوريا تغيب فيه النساء . ومن أكبر التحديات كذلك أمام المفكرين العرب إيجاد نظرية في الدين يتحول فيها من نظام لاهوتي ينحصر في الطقوس والشعائر والشكليات، إلى نظام يتوحّد فيه الديني بالمدني وتغيب فيه سلطة رجال الدين وتسيطر عليه مفاهيم العقد الاجتماعي والتفكير العلمي ويعيش فيه الإنسان من أجل الإنسان.
* ما الذي نحتاجه اليوم لإقرار الحريات ومنع ظهور ديكتاتوريات جديدة؟ وعلى ماذا يتوقف مستقبل مصر وتونس؟
نحن في مصر وتونس في أشد الحاجة إلى وجود دستور يحفظ التوازن بين السلطات وبين أفراد الشعب، دستور يقوم على مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات واحترام إرادة الناخبين وتحديد سلطة زمنية للحكم غير قابلة للتمديد تحت أي ظرف من الظروف، دستور يجمع بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني كي لا يستأثر الحاكم بكل السلطات، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، إضافة الى وجود برلمان منتخب ومعبر عن كل شرائح المجتمع وضرورة وعي الشعب بحقوقه والمطالبة بها.
* هل ترى أن مستـقبل مصـر وتونس مرهـــون بقـــيام دستـــورهما الجــديد؟
وكيف ترى هذا الدستور؟
إن مستـقبل مصـر وتونس مرهـــون بقـــيام دستـــورهما الجــديد بتـأكيد مــبدأ الفصـل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذيـة.
ولابد من انتهاج سياسـات عملية لمواجهة تغـول السلطات بعضهـا عــلي بعض والعمل علي التوزيع المنتظم للسلطات وجعلـها في دوائــر منـفصلة ومتـمايزة، وإدخـال إجـراءات تجعلها متوازنة، فلاسبيل إلي تحقـيق العـدالــة القانونية والمـساواة المستنيرة والقضـاء علـي التميـيز والتفرقـة ومـراكز القـوة وضمـان الحـريات العامة وترسيخ الطابع السلمي والحضاري للصراع، إلا بسيادة مبدأ الفصل بين السلطات ضمانا لفاعلية الديمقراطية.
ولابد من الحـد مـن هيمنـة الدولـة علي كـل القطاعات؛ إن الدولة إذا كان لديها الحرص علي أن يكون لها وجود في كل مكان، فسوف لا توجــد في أي مـكان. وأوضـح أن تدعيم سلطــة القضاء المستقـلة فريضــة واجــبة، وأؤكد علي ضرورة إخضاع المحاكمــات للأجهـزة القضائيـــة التي يجب أن تعمل باستقلال مطلق عن الحكومة.
* ما الضمانات التي تكفل استقلال القــضاء؟
بالنسبة الى استقلال القــضاء أرى ضرورة تشــكيل محاكم يظـل قضاتها في الوظيفة طالما ظـل سلــــوكهم جيـدا ومقبـــولا، وتمثيــل الشـعب في الســـلطة التشـريعية عـن طـريق مـمـثلي المـواطنين المـــنتخبين، مـــع التـأكيد علي أن السلطـة ذات السيـادة هـي السلطـة التشريعية، لأنها الإرادة الجماعية الموحدة للشعب التي تضع القوانين، وبالتالي فعندما يطيعها المواطن فإنه يطيع الإرادة العامة.
ما موقف الإسلام من الثورة؟
الإسلام مع فكرة التغيير وضد فكرة ثبات الأوضاع الظالمة، لذلك أندهش أن البعض بحجة الحفاظ على الاستقرار وبحجة ما يسميه بعض رجال الدين بالفتنة يرفض الثورة على الحاكم، فذلك يخالف قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» فكلمة الحق هذه هي كلمة الشعب.
* تعجّبك من رجال الدين الرافضين للخروج على الحاكم، هل يعني أنك ضد أراء الفقهاء؟
طبعا ضدهم لأن هؤلاء هم فقهاء السلطان الذين أفتوا بأن الثورة على الحاكم الظالم تفتح باب الفتنة لتبرير الأوضاع الظالمة ولضمان بقاء الحاكم في السلطة.
عموماً، مفهوم رجال الدين ليس موجوداً في الإسلام، بل اخترعته السلطات لوضع شخصيات معينة تبرر استمرارها وبقاءها في الحكم. من جهة اخرى، أؤيد من يقول إن أي تغيير تنتج منه أضرار، لكن هل بحجة الخوف من الأضرار لا أقوم بالتغيير ضد الظلم؟ بالطبع لا، فالإسلام من دون شك حينما جاء لإحداث عدالة اجتماعية أضر بمصلحة كثر من الناس. ففلسفياً يستحيل وجود فعل يشكل بجوانبه كافة مصالح فحسب، وهذا ما نسميه «فقه الموازنات»، فأي فعل فيه مصلحة أو فيه ضرر ونحن نقيس أيهما أكثر من الآخر، فما تغلب مصلحته على ضرره فهذا هو المطلوب فعله، والثورة تغلب الفائدة فيها على الضرر.
* ما موقف السنة النبوية من الثورة؟
السُنة من وجوه عدة حضت على التغيير وحق الاعتراض أبرزها قوله (صلى الله عليه وسلم): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، أيضا المقولة الشهيرة لأحد الخلفاء الراشدين «أطيعوني ما أطعت الله فيكم» أي إذا لم أطع الله فيكم بتنفيذ العدالة الاجتماعية والسياسية فلا تطيعوني، وسيدنا أبوبكر قال في بداية توليه الخلافة «وليت عليكم ولست بخيركم».
*ما رأيك في ما كان يفعله بعض الرؤساء العرب بتوزيع المناصب المهمة على أبنائه وأقاربه والمقربين من دون نظر إلى الكفاءة؟
تولية الأقارب تدل على عدم وجود عدالة والإسلام كله قائم على فكرة العدالة والسياسة، والديمقراطية قائمة على فكرة العدالة أيضاً. فالحاكم الذي يولي أقاربه يخرج على أول قاعدة من قواعد العدل وهي تكافؤ الفرص لذلك قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «مَنْ ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو لقرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين». وتولية القرابة تحّول الحكم إلى عصبية وقبلية والإسلام ضد القبلية ولذلك ما انهار حكم عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلا لأنه رفع أقاربه على سائر المسلمين وسيدنا عثمان صحابي جليل وعظيم وله دور رائع في الإسلام لكنه لم يكن صائباً في تولية أقاربه للولايات وهذه صارت ظاهرة في الحكم المعاصر حيث تجد أن حكام الدول التي هبت فيها الثورات سعوا الى توريث الحكم لأبنائهم وهو ما استفز الناس فثاروا عليهم.
* لماذا لم يثر المسلمون على معاوية عند توريث الحكم لابنه يزيد؟
لأن حكم معاوية كان مقترناً بالشدة وخاض حروباً مهدت له السيطرة على الناس واستطاع أن يستقطب قطاعات فكان التوريث مقابل ما أوجده من منافع لقطاعات كبيرة جدا وهذا أحدث توازناً كبيراً ونوعاً من التخفيف والتعادل لدى الناس.
* إذاً لماذا لم يخرج الناس على حاكم جائر مثل الحجاج؟
لنشوب الثورة لا بد من تضافر أسباب كثيرة. فالتوريث وحده لا يكفي وظلم الناس وحده مع أنه سبب، لكنه لا يكفي أيضاً. بل لا بد من أن تتآزر أسباب أخرى ويجب أن يكون الناس مستعدين للفعل الثوري. فقد قامت ثورات واعتراضات شعبية ضد معاوية والحجاج لكن القوة العسكرية مكنتهما من قمعها.
معنى ذلك أن القوة تمنع الخروج؟
لا طبعاً. الخروج واجب حتى إقامة العدل. مثلاً في سوريا، نجد قمعاً عسكرياً من بشار ضد الشعب وعليهم مواجهته حتى إقرار العدل ورفع الظلم، خصوصاً أنه ظلم بيِّن.
الفرق الإسلامية، ألا تعد مظاهر ثورية؟
لا أرى فيها أي نوع من الفعل الثوري، بل هي خروج عن السياق العام لأجل اختلافات فكرية وأيديولوجية. وغير مبرر الخروج الثوري بسبب خلاف فكري ففرق مثل الخوارج والأباضية وقاتلو بعض الخلفاء تواجدوا لمجرد الاختلاف الفكري أو العقائدي، ويدخلون في نطاق إحداث الفتنة. لذا لا يجوز الخروج على الحاكم لمجرد الاختلاف معه فكرياً.
* الثورة وفلاسفة الإسلام
لماذا تحاشى فلاسفة الإسلام التحدث عن الثورة على الحاكم؟
يؤسفني أن أقول إن فلاسفة مثل الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد كانوا فلاسفة للسلطان، فعلى رغم أن هؤلاء فلاسفة عظام قدموا إنجازات كبيرة في مباحث الفلسفة المختلفة إلا أنهم كانوا يمالئون السلطان ويقدمون أفكاراً تبرر أوضاعاً سياسية كانت موجودة آنذاك، ولم أر أي اسم من هذه الأسماء قد خرج على الحاكم في زمانه.
* ماذا عن أبي الحسن الماوردي وهو رائد الفكر السياسي العربي؟
لم يضع الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» أي نظرية ثورية، لكنه كان يبرر للأوضاع السياسية ونظم الحكم الموجودة في عصره. فقد كان ينظر إلى هذه الأوضاع بمحاولة توفيقها من الكتاب والسنة، لذلك في نظري أن المواردي ما هو إلا أحد فقهاء السلطان.
إلى أي مدى تتوافق الثورة مع مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد المبادئ المهمة جداً وهو أحد مبررات الفعل الثوري، وطالما أنه جاء في إطار مجموع الشعب فلا حاجة الا أن يخرج كل شخص لتغيير المنكر في المجتمع لأن ذلك يحدث حالة انفلات اجتماعي وأمني. وتحقيق الضبط الاجتماعي والاقتصادي والأمني هو دور الدولة، فلا ينبغي للأفراد القيام به إلا في إطار الإرادة العامة للشعب، فالأخير في هذه الحالة مأمور بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وحينما تخرج مجموعة من التظاهرات الكبيرة لتطبيق مبادئ تدخل في نطاق الأمر بالمعروف أو تنهي عن أفعال تدخل في نطاق المنكر إذاً نحن هنا أمام فعل ثوري.
* من الذي يحق له الخروج على الحاكم؟
الخروج يحق لأي شخص، فالدولة الحديثة تنظم عملية الاعتراض والتعبير عن الرأي بالطرق المشروعة مثل اللجوء إلى القضاء ومنابر أخرى للاعتراض مثل البرلمان ووسائل الإعلام.
* ما العمل إذا كانت هذه المنابر مسيّسة أو أبواقاً للحاكم؟
في هذه الحالة يقوم الشعب بثورة للتغيير مثلما حدث في مصر وتونس وغيرهما من دول عربية.
* ما رأيك في أحزاب المعارضة؟
لم يكن لها دور في الحياة السياسية فقد كانت معارضة شكلية وكانت أبواقاً للحاكم، ودورها كان غائباً. ولو كانت أحزاب المعارضة الموجودة قبل الثورة تقوم بدورها الحقيقي في التعبير عن الشعب والدفاع عن مصالح الناس وتحاسب الحكومة على أخطائها لما تفشى الفساد إلى هذه الدرجة.
* الملكية والجمهورية
أيهما أكثر احتراما للدستور والمصالح العامة الملكية أو الجمهورية؟
لا أؤيد عودة الحكم الملكي فأنا ضد فكرة توريث الحكم، لكن الحق يقال إن الحياة السياسية في مصر قبل ثورة يوليو عام 1952 كانت حياة أكثر ديمقراطية فيها الأحزاب والبرلمان ورئيس حكومة منتخب…
ما الوسائل التي تنصح بها في الخروج على الحاكم الظالم؟
التغيير يجب أن يكون سلمياً فالرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، فهنا الاعتراض بالكلمة وليس هناك تغيير بالسيف أو العنف ونلجأ إلى التغيير بالعنف في حالة واحدة فقط إذا هدد الحاكم حياة الناس وهنا يكون الأمر دفاعاً عن النفس.
* ما التأصيل الإسلامي للمعارضة السياسية وهل لذلك نماذج واضحة في التاريخ الإسلامي؟
لا شك في أن مبدأ المعارضة في الإسلام هو مبدأ مشروع تماماً وهو الذي تقوم عليه خيرية الأمة الإسلامية، إذ كيف تؤمن بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنت لا تؤمن بالمعارضة وهو الذي يفتح الطريق على مصراعيه أمام المعارضة. أما التاريخ الإسلامي فمليء بالحركات المعارضة، لكن المشكلة أن هذه المعارضة لم تعبر عن نفسها بالطرق الموجودة في الدولة الحديثة.
* لكن الشورى كانت موجودة، كيف تفسر ذلك؟
كانت شورى شكلية غير متوافرة في شكل مؤسسات مثل البرلمانات الحديثة كي تستوعب الحركات المعارضة، فعدم وجود هذه القناة الشرعية هو الذي حول حركات المعارضة إلى حركات عسكرية وهذا موجود حتى الآن. فالمعارضة إذا لم تجد طرقاً مشروعة للتعبير عن نفسها تلجأ مباشرة إلى الطريق العسكري أو طريق العنف أو العمل السري، لذلك فأكبر خطأ ارتكبه النظام السابق في مصر كان في الانتخابات البرلمانية الأخيرة حينما أقفل الطريق كلياً أمام المعارضة وهذا خطأ فادح ليس في مصلحة أي نظام، لذا يجب ترك مساحة للمعارضة للتعبير عن نفسها بشكل علني.
* فقهاء السلطان
ما هو الشكل الأمثل لنظام الحكم في التاريخ الإسلامي؟
التاريخ الإسلامي شيء والإسلام شيء آخر، لأن التاريخ الإسلامي فيه محاولات متعددة لتطبيق الإسلام بالطرق التي كانت تتفق مع مصالح الناس آنذاك. لذلك شهد نظماً متعددة للحكم، لكن الشكل الأمثل هو الدولة المدنية التي تقوم على أساس مفهوم الغالبية وتعبير الحكومة عن الشعب، ويتم ذلك في الدولة الحديثة في أوروبا عن طريق الديمقراطية، وفي الإسلام عبر الشورى. لكن فقهاء السلطان أوقعونا في فخ هل الشورى ملزمة أم ليست ملزمة لأنهم يريدون تحقيق مصلحة الحاكم، وفي النهاية يقولون إنها غير ملزمة.
* من وجهة نظرك، هل الشورى ملزمة؟
فعلاً ملزمة لأنها هي التي تحدد شكل الحكم في الإسلام، وهو دولة مدنية تقوم على الشورى الملزمة التي هي في المفهوم الحديث الديمقراطية التشاركية لا حكم الغالبية فحسب، بل فئات المجتمع كافة. حتى الأقليات مهما قل عددها تكون ممثلة في الحكم بنسبة وتناسب.
* كيف يكون التغيير والإصلاح في المجتمع وفق الرؤية الشرعية الإسلامية؟
ثمة وسائل كثيرة جداً في الإسلام لتحقيق هذه الغاية، مثل إتاحة التعبير عن الرأي لكل الناس وخضوع كل مسؤول، بداية من الحاكم إلى أصغر مسؤول، للمساءلة، وتطبيق مبدأ الشفافية التي تضع قيداً على كل فاسد. كذلك لا بد من تداول السلطة فلا يبقى حاكم في الحكم حتى وفاته، وأذكر هنا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يثبت أحداً على قيادة الجيش إلى درجة أنه ولى القيادة لأسامة بن زيد في إحدى المعارك وهو حديث السن وكان كبار الصحابة موجودين، ما يؤكد وجود مبدأ تداول السلطة في الإسلام.
* نجد أن بعض الصحابة ممن تولى الخلافة حكم حتى آخر حياته، فما رأيك؟
التمسك بالحكم حتى النفس الأخير خطأ ولن آخذ تاريخ الإسلام دليلاً على الإسلام نفسه، لأن التاريخ أفعال بشر والبشر يصيبون ويخطئون.
أشير هنا إلى أن فقهاء السلطان يخلطون بين التاريخ الإسلامي والإسلام كدين لتبرير أفعال السلطان. فلا آية في القرآن الكريم أو حديث نبوي يقول إن الحاكم يظل في الحكم حتى النفس الأخير.
* تراجع الشورى فجر الثورة
تراجع تطبيق الدولة لمبدأ الشورى أو ما يمكن تسميتها عصرياً بالديمقراطية، هل هو سبب اندلاع الثورات العربية؟
طبعاً، تراجع الممارسة الديمقراطية أو عدم وجودها أحد الأسباب القوية مع أسباب كثيرة أخرى نتج منها الفعل الثوري العربي، أبرزها عدم وجود ممارسات ديمقراطية حقيقية، فساد الأنظمة، الانحياز الكامل إلى فئة قليلة تملك الثروات كافة وجميع الشعب لا يملك جنيهاً. أضف إلى ذلك حجم البطالة المتفشية بين الشباب وتراجع مفهوم الكرامة لدى الأنظمة الحاكمة، لذلك نجد أن معظم هذه المشاكل كان موجوداً أثناء حكم جمال عبد الناصر ولم تقم ضده ثورة لأنه كان يؤمن بمفهوم الكرامة العربية وكرامة المواطن.
بالمناسبة، أحد أسباب الثورات العربية ضياع كرامة المواطن الفردية وهذه مسألة مهمة جداً. فالثورة في تونس سببها مسألة تتعلق بالكرامة التي أهانتها المرأة الشرطية عندما ضربت البائع بالقلم فحرق نفسه، فتحرك الشعب، ولذلك أرفض تسميتها بثورة الياسمين ولكن ثورة الكرامة.
* هل أصبحنا اليوم أشد حاجة إلى تطبيق مبدأ الشورى الإسلامية؟
لا أرى فرقاً بالمفاهيم بين الشورى الملزمة وبين الديمقراطية التشاركية التي تمارس بشكلها المعبر عن إرادة الناس، والفرق في الممارسة فحسب.
إذا أخذنا الثورة المصرية نموذجاً كيف يمكن برأيك الحفاظ على مكتسباتها؟
أريد أن أميز بين مرحلتين من الثورة المصرية، فالثورة منذ يوم 25 يناير وحتى تنحي مبارك يوم 11 فبراير هي أعظم أيام في تاريخ مصر لأنها كانت ثورة عظيمة، سلمية، منظمة فيها تحد ورغبة لا نظير لها بالتغيير. أما بعد يوم 11 فبراير فلا أدري ماذا حدث للمصريين إذ خرجوا على إجماعهم وكل واحد بدأ يفكر في مصالحه الشخصية فتفرقت الهموم بين الشعب المصري. ونشهد اليوم حالة من الانفلات الاجتماعي والأمني ومطالب فئوية ضيقة، وذلك يجعلني أخشى كثيرا على مستقبل الثورة المصرية.
كيف؟
إذا استمرت حالة الانقسام الموجودة بين الناس والصراعات على الهموم الفردية والمصالح الفردية فلن تحقق الثورة أغراضها. فالأخيرة نجحت لأن الناس التقوا على هدف واحد، ولن تستمر إلا إذا اجتمعوا أيضاً على هدف الواحد. فإذا قدرت لهم العودة إلى وعيهم وإعادة التفكير في ضوء ما نسميه فقه الموازنات وفقه الأولويات والتركيز على الأولويات فعلاً، وهي خطوات بمثابة إعادة بناء نظام سياسي جديد للدولة، ستنجح هذه الثورة.
* الشعب مصدر السلطات
ما رأيك في المناداة راهناً بعودة نظام الخلافة في الدول العربية التي أزاحت حكامها الفاسدين؟
ينبغي أن تكون المطالبة الآن بوجود دولة مدنية حديثة تقوم على مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، والتي تقوم على الشرعية الديمقراطية التشاركية وفيها الشعب هو مصدر السلطات.
* ثمة تيارات دينية تطالب بالدولة الدينية فهل الدولة الإسلامية دينية أم مدنية؟
لن أعلق على التيارات الدينية الموجودة الآن، لكن لا دولة دينية في الإسلام لأن الأخيرة هي دولة ثيوقراطية أي حكم رجال الدين، والإسلام ليس فيه شيء يسمى رجال الدين أساساً وهو مفهوم موجود في ديانات أخرى.
الدولة في الإسلام مدنية تقوم على الشورى الملزمة ويحكم فيها بشر قابلون للتقويم، لذلك قال عمر بن الخطاب: قوموني إذا أخطأت، والرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يختر أحداً لحكم المسلمين وترك الأمر لهم، وذلك دليل على أن اختيار الحاكم هو أمر يخص الناس.
* كيف نؤصل لمدنية عربية بمرجعية إسلامية بعيداً عن المدنية الغربية التي تختلف في ثقافتها وهويتها عن مجتمعنا العربي؟
النموذج لدينا جاهز ولا ينبغي أن نعيد اختراع العجلة، وهو النموذج التركي. فهو نموذج رائع للدولة المدنية التي تتحرك من خلفية إسلامية وفيه نوع من الوعي الشديد جداً، فقد استطاع تقديم أفضل وأنجح معادلة حتى الآن للحكم المدني الديمقراطي الذي يتحرك من خلفية إسلامية.
* كيف يمكن حماية الشارع الإسلامي من الفوضى أثناء الثورة أو بعدها؟
أفضل طريقة لضبط التيارات كافة إعادة هيبة الدولة وهذا لن يتحقق سوى بوجود دستور جديد وبرلمان ورئيس جمهورية يرعى مصالح الشعب، وإذا لم تعد هيبة الدولة سنخسر كلنا وتغرق المركب بمن فيها.
كيف تفسر فشل ديمقراطيات حديثة كثيرة في تكريس الحريات على أرض الواقع؟
الديمقراطيات لم تفشل في اليابان وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وإن كنت تقصد الأنظمة العربية فهذه الأنظمة لم تطبقها أصلاً وكانت تتعامل مع الديمقراطية باعتبارها ديكوراً للحكم فحسب.
ما واجبات الحاكم في الإسلام؟
إقامة العدل في المجالات كافة، والحفاظ على المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لكل الشعب، واحترام الحريات الخاصة ومنع طغيان سلطة على سلطة. كذلك أحد أهم واجبات الحاكم في الإسلام القيام بتحقيق الضبط الاجتماعي وعدم طغيان مصالح جماعة على جماعة أخرى.
في سطور:
د. محمد عثمان الخشت، مفكر ومحقق إسلامي، وأستاذ فلسفة الأديان والمذاهب الحديثة والمعاصرة في كلية الآداب في جامعة القاهرة. لديه مؤلفات عدة في مجال فلسفة الأديان والفلسفة الحديثة والمعاصرة، أبرزها «تطور الأديان، العقائد الكبرى، الحد الأدنى المشترك بين الأديان وفلسفات الأخلاق، حركة الحشاشين: تاريخ وعقائد أخطر فرقة سرية في العالم الإسلامي، فلسفة الدين».
أما أبرز مؤلفاته في المجال السياسي فهي: «المجتمع المدني والدولة، جدلية الدولة العالمية والدولة القومية، الخطاب الديني وموقفه من قيم وقضايا المجتمع المدني}. وأبرز كتبه في مجال التحقيق: «القول المفيد في الاجتهاد والتقليد، للشوكاني، الفرق بين الفرق، للبغدادي، كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة وكيفية مذهبهم وبيان اعتقادهم، لابن مالك اليماني».
كذلك نال شهادات تقدير ودروعاً عدة من جامعات ومؤسسات دولية وإقليمية ومصرية