حوار مع الدكتور مراد قواسمي
بداية من هو الدكتور مراد قواسمي؟
من أصعب الأحاديث بالنسبة لي حديث الذات والحديث عنها ،لأنني مقتنع تماما أنه في إمكان الآخر أن يقول ذواتنا أفضل منا، ولهذا سأعرّف بنفسي على الطريقة الكلاسيكية. مراد قواسمي ذاك الشخص الذي اختار الفلسفة محتجا على العديد من المواقف الاجتماعية السائدة في البيئة المحيطة به عموما. شاء قدره أن يولد في شهر أفريل كما هوسرل الذي ولد في الثامن منه، و متعارف عليه في الجزائر يوم الفلسفة في السادس والعشرين. أنا من مواليد الثاني من هذا الشهر، الذي يعني في اللغة اللاتينيةaperire والذي يحيل إلى معنى التفتح، بمختلف معانيه: الطبيعي أي تفتح الورود والأزهار، أي في فصل الربيع بطبيعة الحال، والفلسفي أي تفتح العقول والألباب. إلا أن هذا الشهر يتميز أيضا بتقلب أحواله وتغيّر أجوائه وهو حالي، مما يؤثّر علي حتى في عالم الكتابة والبحث. بدأت حكايتي مع الفلسفة منذ سنوات الثانوي حينما اكتشفت مادة جديدة تدرّس وفيها الكثير مما يفتح الفضول على اللامتناهي. تحصلت على البكالوريا وكل شهاداتي من خلال دراستي بمدينة وهران، مسقط رأسي. أقوم حاليا بتدريس الفلسفة بجامعة ابن باديس، الواقعة في مستغانم، بالقرب من وهران، وهي إحدى المدن الساحلية بالجزائر. كان تكويني الأولي عبارة عن تدريبات وتمارين على نصوص المتمرّد على الميتافيزيقا الغربية : "فريديريك نيتشه" وهو ما وجهني نحو حب الكتابة الإبداعية المجانبة للأدب والشعر، وسرعان ما انتقلت إلى نوع آخر من الكتابات، أقصد الفينومينولوجيا من خلال أعمال هوسرل، التي أكسبتني مرونة التعامل مع النصوص بعقلانية تحاول التخلص من النزوع الانفعالي، ببرودة أعصاب، فالنص مارد يحب من يتطاول على سلطته.
باعتباركم من الباحثين في المجال الفلسفي ,مارايكم في المشاريع الفلسفية المطروحة ( مشروع الجابري رحمه الله والحنفي وطه عبد الرحمان..)؟
وكما ورد في موجز الإجابة عن سؤال الذات، فأنت ترى بأنني لم أذكر ما له علاقة بالفكر العربي أو الإسلامي منه، زيادة على أن عملية الإلمام بمجمل هذه المشاريع الكبرى مسألة تتطلب جهدا كبيرا، بل مسيرة حياة بأكملها، إلا أن هذا لا من يمنع إمكانية القول بأن هذه المشاريع وفي تعاملها مع التراث تعود في غالب الأحيان إلى ما يمكننا من التعامل مع الموروث إما بوصفه عقلا والعقل مجرّد تجريد، أو نقدا قائما على الإسقاط وهذا نزوع آلي، أو دعوة إلى الاختلاف من صلب الائتلاف، أي مم لا يقبل الاختلاف إلا بتأسيس أسبابه (أسباب الاختلاف)، فـ "العقل العربي" إنما هو عملية تجزيء لواقع وحالة كونية يستحيل التعامل معها في جزئيتها لأنها ليست قطعة مستقلة من سنفونية موسيقية، فحتى السنفونية تفقد متعتها إذا ما قمنا ببتر جزء منها، وأما علم الاستغراب فإنه يصبح عاجزا عند مجرّد افتراض، القول بهذا العلم، بعلم للاستشراق، لأنه ينطلق أساسا من الثنائية الجغرافية: شرق-غرب وبالتالي: استشراق-استغراب. هذا ما لا يمكنه إنتاج أكثر من نوع من الردود الآنية حول مضامينه، بينما إمكانية الاعتراف بحق الاختلاف من لب "فقه الفلسفة" فالعقلية هي نفسها، أي عقلية الفقيه الذي يأتي إلى الفلسفة. ليست الفلسفة بحاجة لفقهاء حتى ولو كان الأمر متعلقا مثلا بإعادة إنتاج كوجيتو عربي أو كوجيتو إسلامي أو غيره، فالمسألة تمتدّ إلى ضرورة اعتبار هذا العربي وهذا الإسلامي جزء من الكون، لا يقوم الكون إلا به، حتى نسمع السنفونية كاملة وممتعة، تتخللها اختلافات التوزيع الموسيقي، أقصد أن الاختلاف، والحالة، هذه نوع من الثراء والإضافة الخالية من الهزل لا نوع من الاقتطاع والعزل.
هل تتفقون مع الذين يقولون بأننا نعاني من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع فلسفية؟
انطلاقا من السؤال السابق يمكن القول بأن المسألة مرتبطة بطريقة في التعامل مع التراث، ونوع من الخصوصية في المنهج. المناهج موجودة، ولكنها لا تتلاءم مع خصوصية: العربي والإسلامي، ولكن إذا ما تم تغيير الرؤية، أي أصبح وجه النظر إلى الفكر على أنه يعكس الصورة الكلية بما هي حالة كونية فإن هناك إمكانية لتبني منهج يكون أقرب إلى فهم تراث الذات بمعان متفتحة ومختلفة. أما فيما يتعلق بأزمة المشاريع الفلسفية، فالأمر لا يعود لكون الفلسفة في أزمة، كما يتداول، وإنما الأمر مرهون بطريقة التعامل مع هذه الفلسفة، ولو نظرنا إلى إليها بما هي نص، بما هي رؤية للإنسان وبما هي رؤية للعالم لما كان لهذا السؤال أن يطرح أصلا، لأن الإجابة عنه ستغنينا عن حرج السؤال: ومعروفة طريقة التعامل معها (الفلسفة) بما هي نص، أي بما هي منطوق ولا-منطوق، بما هي علامات تقول وتسكت، بما هي إيماءات توحي، تحجب وتنكشف، لأجل التخلص من سلطة المفاهيم والثنائيات الميتافيزيقية كـ : عقل، استشراق/استغراب، فقه/فلسفة، وغيرها، لابد من إنجاز عمل جبار مرتبط أولا بتفكيك الذات لأجل تأسيسها على نوع من التاريخية العلمية والمنهجية التي تتضمن وعيا بكل ما يقال، التي لا تسمح بأن يقال شيء ما في غيابات الظلال، نوع من الوعي القصدي بكل ما يتم التعامل معه.
سيدي الكريم بعد الربيع العربي المبارك ,ما هو دور الفلسفة اليوم؟
يفترض أن نقوم بقلب سؤالك، لأن المنطق يقول بأن الفلسفة، أقصد التنظير العقلاني للثورة في هذه الحالة، يكون قبل الثورة، فالفلسفة ثورة نظرية على الفكر البالي والمتقاعس، كما أنها ثورة عملية على الأفكار السياسية والتي تجد انعكاساتها في الحياة العملية: الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، وهو ما يعني بأن الفلسفة تحمل المجتمع على هذا النوع من التمرّد والعصيان من أجل التأسيس، أي التفكيك، الذي يروم البناء. وأما إذا قمنا باتباع منطق سؤالك فإنه لابد من القول أنه على الفلسفة إنقاذ شرفها، فقد سبقها الشارع. لم تنزل الفلسفة إلى الشارع قبل الثورات العربية كما كان حالها في الثورتين الفرنسية والأمريكية، فقد كانت أفكار روسو تتداول على الملأ، وأصبحت شعارات وقواعد دولية حتى على المستويات الأممية، في حين كان البطالون هم أبطال الثورات العربية، إلى جانب المحرومين وحتى المتعلمين ولكن الذين لا يحملون قناعات فلسفية، بل قناعات اجتماعية وضغوطات نفسية بضرورة القلب والانقلاب، وعلى هذا فقد كانت الثورة نوعا من العفوية اللافلسفية. حتى تنقذ الفلسفة شرفها على الأقل عليها أن تحاول التنظيّر لهذه الثورات، أو على الأقل تحاول استدراك، ما فاتها من تفكير وتأمل في ما مضى، من خلال ما يحدث راهنيا في ما تبقى والتركيز على فهم آليات التأسيس السياسي والاجتماعي، وخصوصا الوصول إلى نظرية في أخلاقيات الثورة على الطريقة التونسية أو المصرية أو حتى السورية، والعمل على استخلاص نظرية للثورة.
بعد نجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية, فهل نحن قادرون على بناء دول ديمقراطية تعددية؟
لا يمكن الحكم على تنحي أو تنحية رؤوس الأنظمة العربية نجاحا للثورات العربية، لا بد لنا أن نتريث قليلا ونكون على حذر ووعي بما يجري حاليا. فلابد من القضاء على ظاهرة الفساد السياسي والاجتماعي وغيرها من تجلياته، حتى يتحقق إمكان التفكير في إرساء ما يسمى بـ: ديمقراطية تعددية. لا تنس بأن المجتمعات العربية وحتى الإسلامية، ومن وجهة نظر أنثروبولوجية، غير قابلة للحوار، لا تقبل التعدد إلا في الزواج، وعلى هذا فإن العقلية العربية عقلية لا تحكم إلا بـ"الاستبداد" والعصبية الجماعية بالخصوص، وهو ما يمكن أن يؤدي دوره، أما أن تقول لي ديمقراطية تعددية على الشاكلة الأوروبية فلحد الآن لا يمكن الحكم بهذا. على الأقل هذا ما تثبته عمليات المواجهة والمواجهة المضادة بين التيارات العلمانية والإخوانية وغيرهما، وكل ما يتعلق بإمكانية التعبير عن حق المواطن العربي. أتحدث هاهنا على أن المواطن العربي أصبح ضحية لعبة سياسية: أخف الضررين، أي أنه مجبر على تفادي أكبر ضرر فقط ولا يقوم باختيار ممثله عن قناعة وحرية تامة، وهو حال مصر مثلا في اختيار رئيسها، فلو كانت هناك إمكانية ثانية غير تلك التي وجدت في الانتخابات الرئاسية لكان من الممكن جدا أن تأخذ الأمور مجرى مخالفا تماما لما هي عليه.
لكن سدي الكريم هل من الممكن قيام دولة ديمقراطية بدون ثقافة سياسية حداثية ,تؤمن بقيم الاختلاف والتعددية؟
الإيمان بقيم الاختلاف لا يعني ضرورة قيام النظام الديمقراطي، كما أن الديمقراطية في صورتها الغربية ومثلما تروّج لها الدول والسياسيات التي أنتجتها ليست أبدا نموذجا يحتذى به، نظرا للاختلافات العرقية والجغرافية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية. أنت تتحدث عن مجتمعات لا تتسامح فيما بينها عند أبسط المواقف فكيف تتصور أنها تتسامح سياسيا وتنشر قيم الاختلاف، للأسف، رغم أن الاختلاف ضرورة فإن العقلية العربية لاتزال بعيدة عنه، بدلالة أن هناك الكثير ممن يكفّر ويرفض بإطلاق ويهمّش ويقضي والسياسة على رأس مؤسسات الرفض. لابد من إقصاء سياسات الإقصاء ومؤسسات التهميش حتى يتم التغلب على الإقصاء نفسه، وهذا لن يتأتى إلا بعد نشر قيم التسامح، قيم الأمير عبد القادر الجزائري والتصوف الإسلامي ونشر الفن والإبداع اللذان يعطيان النفس الإنسانية طمأنينتها وليونتها في التعامل مع الآخر. لابد من الاعتراف بالآخر مهما كان دوره في المجتمع ومهما كان موقعه في البلاد، يعني لابد من تكريس الاختلاف حتى يتم الاعتراف بقيمه.
في الأخير سيدي الكريم هل دخلنا في طور حضاري جديد؟
إذا كنت تقصد بهذا الـ"نحن" العرب أو المسلمون، أو العرب المسلمون فإن هذا النحن في مرحلة المخاض، يحاول أن يستوعب ذاته، ولكن المسافة لازالت بعيدة ومساراتها وعرة جبالها شاهقة، وما تسميه ثورة عربية ليس سوى أول دمعة من بحر التغير.