الأربعاء ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٢٤
بقلم رامز محيي الدين علي

دروبُ المعرفةِ

حينَما يبحثُ الإنسانُ عن شعاعٍ بين خيوطِ النُّور يَتوهُ في نسيجِ تلك الخيوطِ، وعندَما يبحثُ المرءُ عن زهرةٍ بين الزُّهورِ في حديقةٍ غنّاءَ تتقاذَفُه الأهواءُ، فيضيعُ بين الجميلِ منها والأجملِ فالأجملِ، وحينَ يغوصُ الصّيّادُ الماهرُ في أعماقِ بحرٍ زاخرٍ باللّآلئِ ليصطادَ بعضاً منها، تتردَّدُ يدُهُ بين البهيِّ والأبْهى والأثْمنُ، وحينَما يسعَى الآدميُّ وراءَ رزقِه في بحرٍ لُجّيٍّ من الخيراتِ تَعْمى بصيرتُه، ويذهلُ فكرُه في طريقةِ قطفِ تلكَ الثّمراتِ، وحينَ يغوصُ الفكرُ في محيطِ المعرفةِ بين الكتبِ لا يَدري كيف يقرأُ وكيف يجمعُ لآلئَ المعرفةِ، وحينَما يُبحِرُ الكاتبُ في بحارِ كتابتِه باحثاً عمّا يُعزّرُ رؤاهُ، تنفتِحُ أمامَه أبوابُ السّماءِ، فتنهمرُ عليه قطراتُ الثّقافةِ غيثاً مدراراً، فيضِلُّ في ضبابِ المعرفةِ في أيّةِ فكرةٍ يكتبُ أو في أيّةِ زاويةٍ يَخطُّ، ولا سيَما أنّ دروبَ المعرفةِ الحديثةِ أضحَتْ كلَمحِ البصرِ بين شبكةٍ عنكبوتيَّةٍ لا يَدري إن وقعَ فيها متَى أو كيفَ يَخرجُ منها دون أن يُشبِعَ نهمَه في جميعِ قطوفِ الثّقافةِ والفكرِ.

ولو أنّ دروبَ ثقافةِ اليومِ توفّرتْ لأجدادِنا الأوائلِ بهذا الكمِّ الهائلِ الزّاخرِ السّريعِ من المعرفةِ اللّامتناهيةِ، لتركُوا لنا حضارةً مدنيّةً وأخلاقيّةً ومعرفيّةً وإنسانيّةً يعجزُ فكرُنا المعاصرُ المشوَّهُ بأشراكِ التّكنولوجيا وجلَبةِ الحياةِ اليوميّةِ عن فكِّ طلاسمِ معرفتِهم، ولكنْ بالرّغمِ من شُحِّ مصادرِ المعرفةِ ووعورةِ دروبِها في أزمانِهم، فقد خلّدُوا لنا إرثاً فكريّاً عظيماً نظلُّ تلامذةً يافعينَ لا نستطيعُ أن نفقَهَ جزءاً يسيراً ممّا خطَّتهُ أناملُهم من فنُونِ وعلومِ المعرفةِ!

فأينَ نحنُ اليومَ من هؤلاءِ الأساطينِ في عمقِ التَّفكيرِ والتَّأمُّلِ والبحثِ وعبقريّةِ أساليبِ الكتابةِ والتّأليفِ والإبداعِ والابتِكار؟!
لعَمري إنّهم سلكُوا دروباً وعِرةً من دروبِ المعرفةِ وأبدعُوا فيها أيَّما إبداعٍ وإن شحَّت مصادرُ العلومِ الإنسانيّةِ أمامَ دروبِهم، ومع ذلكَ غامرُوا في اكتشافِها وخاضُوا في غمارِها، فأضاؤُوا مغاورَها وكهوفَها بأنوارِ فكرِهم، ورسمُوا لنا معالمَ الدُّروبِ الّتي تُفْضي إلى أعماقِها، فتركُوا لنا مفاتيحَ البحثِ عن أبوابِها في عالمٍ يعجُّ بدياجيرِ المجاهيلِ الّتي يعجزُ الفكرُ عن فكِّ رموزِها وتفسيرِ طلاسمِها، ويذهلُ الخيالُ في سبرِ أغوارِها والوصولِ إليها، لكنّهم بفكرِهم الثّاقبِ وقرائحِهم الملتهِبةِ بالعبقريّةِ وإرادتِهم المؤجَّجةِ بأُوارِ التّحدّي والإصرارِ رسمُوا لنا معالمَ البحثِ، وشقُّوا لنا دروباً سالكةً تُفْضي إلى تلك العوالمِ والطلاسمِ والأسرار.

ففي عالمِ الفلكِ أطلقُوا العَنانَ لفكرِهم وخيالِهم، فرسمُوا معالمَ الكونِ، وصوّرُوا لنا الكواكبَ والنّجومَ، فأدركُوا حركاتِ دورانِها، وسمعُوا أصواتَ رنَّاتِها بما مهرَت أدواتُهم من الخرائطِ والإسطرلاباتِ وقرائحُهم من التَّأمُّلِ والملاحظةِ والاستقراءِ والاستِنتاج، فعرفُوا الأنواءَ ومواقعَ النُّجومِ وحركةَ الرّياحِ واتّجاهاتِها، ورسمُوا معالمَ الغيومِ ومنابعَ المطرِ ومصادرَ البروقِ ومكامنَ الرّعودِ، فتركُوا لنا الأسسَ العلميَّةَ السّليمةَ في البحثِ والاكتِشاف.

وفي عالمِ الحياةِ لم يألُوا جهداً في البحثِ عن بدايتِها وتصوُّرِ مسيرتِها وتأمُّلِ نهايتِها، فسلكُوا دروباً ودروباً في البحثِ والتّأمُّلِ والاكتشافِ، استطاعُوا من خلالِها أن يضعُوا لنا أسسَ النّظريّاتِ العلميّةِ الحديثة الّتي أفضَتْ إلى هذا الكمِّ الهائلِ من المعرفةِ بالرّغم من أنّ الحياةَ لم تسلِّمْ قيادَ معرفتِها اللّانهائيّةِ لمخلوقٍ آدميٍّ مهما بلغَتِ العبقريّةُ الإنسانيّةُ من ذُرا الإبداعِ والاكتشافِ والاختراع.

وفي عالمِ الإنسانِ رسمُوا خرائطَ الجسدِ البشريِّ، وأبحرُوا بمراكبِ فكرِهم إلى أغوارِ النَّفسِ البشريّةِ، فاكتشفُوا كثيراً من العِللِ والأمراضِ الّتي كانت تقضُّ مضاجعَها، فاخترعُوا العقاقيرَ النّاجعةَ من الطَّبيعةِ لسلامةِ الجسدِ البشريّ ومقاومةِ العللِ ومعالجةِ الآثارِ النّاجمةِ عنها، وبحثُوا في طلاسمِ الرُّوحِ الّتي أعيَتْ فكرَهم وفكرَ البشريَّةِ منذُ الأزلِ في فكِّ سرٍّ من أسرارِ وجودِها واستمرارِها ونهايتِها، فسلَّمُوا أمرَها لمبدعِها العظيمِ، ووصفُوا لنا النّفسَ وخصائصَها وطبائعَها، وتركُوا لنا دروباً ودروباً للوصولِ إلى أغوارِ ها السّحيقة.

في الكونِ والحياةِ والإنسانِ وفي كلِّ مخلوقٍ دروبٌ ودروبٌ لا يعلمُ أسرارَها غيرُ الخالقِ العظيمِ، ولن يستطيعَ الإنسانُ أن يسلكَها جميعاً ولن يتأتّى له الوصولُ إليها إلّا إذا امتلكَ مفاتيحَ المعرفةِ الكاملةِ، وهذا ضربٌ من الخيالِ والمُحال؛ لأنَّ المعرفةَ التّامّةَ مَنوطةٌ بالمبدعِ العظيمِ الّذي بيدِه مفاتيحُ الغيبِ، ولكنّ ذلك لا يَعني أن يستسلمَ الإنسانُ أمامَ جبروتِها، وإنّما عليهِ أن ينفُذَ إلى أسرارِها بما امتلكَ من سلطانِ العلمِ والمعرفةِ والتّكنُولوجيا.

وها هيَ البشريّةُ قد سلكَتْ دروبَ العباقرةِ الأوائلِ عبرَ تاريخِها الطّويل، وتسلَّحَت بشتّى أنواعِ المعرفةِ والعلومِ التِّقْنيَّةِ، فأضحَت تلكَ الدُّروبُ طرقاً واسعةً معبَّدةً سهَّلَت لها طرقَ البحثِ والاكتشافِ من خلالِ اختراعِ الوسائلِ الحديثةِ وتسخيرِ طاقاتِ الطَّبيعةِ للارتقاءِ بتلك الوسائلِ والتّقْنيّات للوصولِ إلى أعماقِ الأرض واستنضاحِ خيراتِها وثرواتِها، والغوصِ إلى أعماقِ البحارِ والمحيطاتِ لجَنيِ مواردِها وعطاياها، والتّحليقِ في الفضاءِ لاكتشافِ كواكبِه ومجرّاتِه ومعرفةِ أسرارِه.

وقد تفرّعَ من تلك الدُّروبِ دروبٌ ودروبٌ، فأضحى لكلِّ جُزيءٍ صغيرٍ دروبٌ تقودُ إلى كوامنِه الدّقيقةِ، وأصبحَ للذَّرّةِ المتناهيةِ في الصّغرِ دروبٌ ودروبٌ حتّى غدَت علماً قائماً بذاتِه، وغدَت قوّةً هائلةً تهدّدُ بها الدُّولُ أعداءَها والمتربّصينَ بها، إلى جانبِ الموادّ المشِعَّةِ والكيماويّة الّتي باتَت تقضُّ مضاجعَ العالمِ وتؤرّقَ فكرَه في السّلمِ العالميّ.

وهكذا بقيّةُ العلومِ النّظريّةِ والتّطبيقيّةِ، فقت شقّتِ البشريّةُ دروباً ودروباً في جميعِ مجالاتِها ومناحِيها، فصارَ لعلمِ الطّبِّ ألفُ دربٍ ودربٍ، فللبصرِ دروبٌ، وللعقلِ دروبٌ، وللقلبِ والشّرايينِ والأوردةِ وكلِّ جزيءٍ متناهٍ في الصّغرِ دروبٌ تهتمُّ بها وتقودُ إلى أسرارِها.

ولعلومِ الأرضِ دروبٌ كثيرةٌ يغوصُ كلٌّ منها في أعماقِها بحثاً عن أسرارِها وخيراتِها وثرواتِها، وللفضاءِ دروبٌ يطيرُ كلُّ دربٍ إلى جانبٍ من جوانبٍ الفضاءِ المجهولِ، لعلَّها تشقُّ عباءتَه كي تستطلعَ ما تُخْفيهِ خلفَها من أسرارٍ وألغازٍ قد تكونُ فاتحةً لعصرٍ مقبلٍ يحلّقُ فيه الإنسانُ من سجنِه المحتومِ بالبدايةِ والنهايةِ والعِللِ والاضمِحلالِ فالزَّوالِ، إلى عالمٍ أكثرَ حيويةً وأجملَ رفاهاً وأمناً واستقراراً في حِرزٍ من العللِ والأوبئةِ الّتي تفتكُ بعمرِ الإنسانِ على الأرضِ فتُنهي سيرتَه على نحوِ ما تشتَهي الرّياحُ في حياةٍ لا يسودُها إلّا القهرُ والظُّلمُ والاستِعبادُ والحروبُ والتَّطاحنُ الحيوانيُّ لأتفهِ الأسبابِ وأخسِّ النّوايا والأهدافِ.
ولعلومِ الفيزياءِ والكيمياءِ دروبٌ ودروبٌ اكتشفَها الإنسانُ الحديثُ، ولكنّها لم ترتقِ بالإنسانِ فكراً وخلُقاً، وإنّما قادَت المجتمعاتِ البشريّةَ إلى وحوشٍ كاسرةٍ كلُّ وحشٍ يريدُ أن يكونَ الأسدَ في غابةٍ من القطعانِ الشّاردة، وصار التَّنافسُ فيما بينَها في المحافلِ الدّوليّة، وصار الأقوياءُ في علومِ الذّرّةِ والكيمياءِ والفيزياءِ والتّكنولُوجيا همُ الأسودَ الّتي تقودُ هذا العالمَ البائسَ إلى نهايةٍ مأساويّةٍ لا يدري العقلاءُ متى تبدأُ وكيف تَنْتهي؟!

نعمْ لقد تفرّعَ من علومِ الأجدادِ علومٌ وعلومٌ، وتدفّقَت من ينابيعِ المعرفةِ علومٌ حديثةٌ لم تكُن لأسلافِنا قطُّ، وظهرَت علومٌ وتِقْنيّاتٌ مبتكرةٌ حلّقَت بالإنسانِ إلى ذُرا المجدِ والقوَّةِ والرّفاهِ والرّاحة، فاختَصرَت المسافاتِ واعتَصرَت الأزمانَ، فصارَ البعيدُ في الزّمانِ والمكانِ حاضراً قريباً بلمحِ البصرِ وضغْطِ أزرارٍ أو لمسِ أيقوناتٍ على جهازٍ بحجمِ الكتابِ أو هاتفٍ محمولٍ بحجمِ كفّ اليدِ أو دونَه، وأصبحَ الإنسانُ تحتَ أضواءِ عدساتِ المراقبةِ والتَّجسُّس حتّى في أحلامِه ورُؤاهُ.

ولكنَّ المؤسفَ المُبْكي أنَّ هذا التَّطوُّرَ في جميعِ ميادينِ الحياةِ لم يُحقّقْ للإنسانِ أمنَه واستقرارَه، بل زادَ في شقائِه وبؤسِه وتعاستِه وضجرِه ومللِه ويأسِه، فلقد أصبحَت التّكنولوجيا جسداً بلا روحٍ وكياناً بِلا مشاعرَ وأحاسيسَ، وأضحتِ الحياةُ مسرحاً في غابةٍ يمثّل فيها الكبارُ أدوارَ الوحوشِ الكاسرةِ على بقيّةِ الكائناتِ الّتي لا تملكُ من أمرِها غيرَ التّسليمِ بالقدَر المحتومِ ألا وهو الموتُ الحقيرُ بين أنيابِ المفترسينَ.. وسلامٌ على دُنيا هذهِ حالُها وهؤلاءِ أناسُها!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى