رواية لاجئة ـ حلقة 3 من 18
كان سيد نموذجا لشباب فقد رغبته في الجديد ، كان قديم المشاعر و التفكير و الأخلاق ، يزن الناس بمقدار ما لديهم من هذا القديم ، يعتبر كل جـــديد انحلال و تفـــسخ عن القــيم و الأخلاق ، و في سبيل تكريس هذه الحقائق جار على الابتسام حتى نسيه و تعلم أن البنت وسيلة إنجاب و تكوين أسرة ، ينبغي ألا يكون لها في الحياة رأي أو موقف ، و كان يعتقد أن تعليم الفتاة ينبغي أن يتوقف عند الثانوية العامة ، لذا فقد فرض على أخته حياة البيت بعدها مباشرة ، و لما كان هو ولي امرها بعد وفاة والدها فقد رضخت لأمره و لم تكمل تعليمها ، شجع سيد منذ البداية العلاقة بين أخته و بين ريم ، في الوقت الذي وقف فيه بالمرصاد لأية علاقة أخرى مع صديقات أخريات ، كان يعرف العم جهاد و يقدره كثيرا و يرى فيه النموذج الحقيقي للرجل ، يكدح من أجل أسرته و زوجته في المنزل تسهر على رعايته و إنجاب الأطفال له ، و بلغ تقديره له كل مبلغ عندما وجده أجلس ريم بعد الثانوية العامة كما فعل هو مع اخته و بهذا اتفقت الميول و صار زواجه من ريم مسألة وقت ، لا يقف أمامها رفض ريم أو ممانعة والدها :
– و كيف يرفض و أنا معلم محترم ، لي راتب و بيت و شخصية قيادية يلمسها الجميع ••
وأد في نفسه ميلا إلى الشعر لمسه لديه معلم اللغة العربية عندما كان طالبا ، أعتبر أن الشعر مضيعة للوقت و سبب في مياعة الشباب و تأخر رجولتهم لذا فقد كان حازما مع نفسه ، مزق كل أشعار المراهقة و ترك للأيام قيادته وفق التقسيم التقليدي ، دراسة فعمل فزواج •• لكنه بعد أن رأى ريم و قد صارت عروسا جميلة عاوده حنين قديم للشعر ، و عندما أسهده التفكير فيها ذات ليلة ، ضبط نفسه متلبسا بالشعر ، و كانت الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل و قصيدة متينة مستقرة بين يديه تطلب إليه أن يهديها لصاحبتها •• لكنه عاد فهزأ من نفسه و طوى القصيدة و ألقــاها بلا اهتــمام في درج مكتبه ••
***
خلال سني عمله في مصر ، و بعد زواجه من سميحة عمل جهاد في مجال البناء و شيئا فشيئا تعلم أن يقتحم مجالات أخرى تتعلق به ، فأصبح بامكانه أن يقوم بالطلاء و برع أيضا في أمور السباكة و الكهرباء و حتى النجارة إذا لزم الأمر ، و اكتسب ثقة كل من عمل معهم لذا لم تتوقف أعماله يوما و كان يعتبر أن هذا رزق تعليم و رعاية الأولاد ، فلم يكن يبخل عليهم بكل قرش يجنيه من كده ، و كان لتدبير سميجة زوجته أبلغ الأثر في سير الحياة وفق ما تمنــوا و رغبوا ، فعلى قـــدر أحلامــهم الصــغيرة كانت أيضا أهدافهم و سيرتهم في الحياة ، و لكن بعد أن لاح أمل الجامعة مجددا في أفق حياتهم أصبح هذا الأمر هو الشغل الشاغل لدى العم جهاد ، كان لابد من وسيلة يحقق بها حلم ابنته و من بعدها ابنه ثم ابنته الأخرى ، و بهذه الطريقة لا يمكن ••!!
كان يتأمل لوحة البئر التي أخذها من ريم و آلاف الافكار تتصارع في رأسه ، تصب كلها في السؤال اليتيم :
– من أين ؟
كانت أم ريم تنظر إليه منذ فترة بدون أن يشعر ، كانت تعرف تماما ما يدور في خلده ، كانت مدركة أن الفكرة لم تغادر رأسه منذ زرعها سعيد فيه و هي تعرف جهاد عشرة العمر جيدا •• أخيرا تنهدت لتنبهه و قالت :
– وحد الله يا رجل ••
تطلع إليها و تنهد بدوره و قال :
– لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله
– عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم •• ما بك يا أبا العيال ؟
– ريم يجب أن تدخل الجامعة ••
و قبل أن تتكلم حذرها :
– و لا تقولي من أين ، الرزاق موجود ••
– و نعم بالله ، و لكن حقا ، حقا من أين ؟
– أفكر في أمر و لا أدري إذا كان ممكنا أو لا ••
– لا تقلها ••
– يجب يا أم العيال ، آن الآوان لتنفيذها ، أجلناها كثيرا و لكن آن الآوان
– تريد أن تسافر و تتركنا ؟
– قاسم صار رجلا يعتمد عليه ، و الغربة لن تطول ••
صمتا كلاهما بعد هذه العبارة ، كان كلاهما يفكر في نفس الأمر :" الغربة لن تطول عبارة حدثته بها نفسه قبل عشرين عاما حين غادر غزة و ها هي طالت و طالت حتى صارت عمرا ، فلماذا لن تطول بدورها غربة الكفاح من أجل تعليم الأولاد؟ "
همست :
– لا أحتمل الفراق ••
قال :
– سنين قليلة ، اجمع فيها بعض النقود و اعود و ربما تمكنا حتى من بناء بيت خاص لنا بدلا عن هذا المنزل ذي الأجرة القديمة و الذي يراودني صاحبه عنه منذ فترة •• أنت تعلمين كل شيء يا سميحة ، فلماذا تمانعين ؟
– لا •• لا يا أبا قاسم • لا •• لقد كبرنا على غربة تفرقنا ، لن أطيق الفراق بعد أن صرت أنت كل حياتي ، لن أطيق أن أعيش مع الأبناء ، أقاسي الأمرين بدونك ، و أنت هناك في بلاد الله خلق الله تكافح و تعود آخر النهار فلا تجد من تمسح عرقك و تشد أزرك ، هذا فوق احتمالي يا جهاد فوق احتمالي ••
– لكن الأولاد بحاجة للمزيد ••
– بل يممكننا الاستغناء عن هذا المزيد ، يمكنــنا أن نرضى بما قسمه الله لنا و نكمل حياتنا ••
– نحو أي اتجاه يا أم العيال ؟ تمضي حياتنا نحو أي اتجاه ؟ نعلمهم حتى الثانوية ثم نتركهم يصارعون فقرا و قلة وظائف و لجوء ، ما الذي فعلته إذن •• ما هي الثمرة التي رويتها بسنين غربتي و لجوئي •• ماذا سيقول أولادي بعد موتي ، هل سيترحمون علي ، ام سيقولون سامحه الله تركنا ريش في مهب الريح •• نحن فلسطنيون يا أم قاسم ، هل تدركين معنى هذه الجنسية علينا ، فلسطيني لا أرض تقبله و لا مكان يرحب به ، يعيش حياته مشتتا بين أمل كاذب و سياسة فاضحة و كفاح مسلح استمر سنينا و حصد أذكى الأرواح و لم يسفر عن شيء •• هل تفهمين قصدي ؟
– و من غيري يمكنها ذلك يا أبا العيال ، من غيري بوسعها أن تعصر سنين العمر الماضية و تقدمها دماءً في عروق الصغار ، من غيري يا أبا قاسم ، و لكن ، الفراق ؟
– حتى حين ••
– و الأولاد ؟
– سيفهمون و سيعينونك ••
– و الوحدة ؟
– سأرسل لك كل يوم خطاب ••
– و السفر؟
– سيكون في أسرع وقت •• إن شاء الله
***
كان سعيد يداري نفسه بعدما لمح العم جهاد في الطريق ، خشى أن يسأله عن الأمل الكاذب الذي زرعه برعونة في حياته و كان أخشى ما يخشاه أن يعيد العم جهاد عليه الحوار الذي دار بينهما البارحة ، عندما كان عائدا من عمله فإذا بالعم جهاد ينتظره و يلح عليه أن يدخل بيته ليتحدثا ، كانت المرة الاولى التي يدخل فيها هذا البيت ، تمنى رؤية ريم و لكن الأب فتح له غرفة الصالون و استأذنه دقيقة عاد بعدها يحمل صينية الشاي ، قدم له كوبه و هو يقول :
– أستاذ سعيد •• تفضل •• أرجو ألا أكون قد فوت عليك عمل ما في هذه الظهيرة ••
– لا لا أبدا يا عم جهاد ••
– اسمع يا بني منذ أن تفضلت و قلت أنه بامكانك الحاق ريم بالجامعة و أنا أفكر مع أم العيال في الطريقة التي نجمع بها المال من أجل هذا الهدف الذي نحلم به ••
وضع سعيد كوب الشاي و هم بالكلام ، لكن العم جهاد كان متحمسا لإكمال ما يريد قوله فأكمل :
– و بعد تفكير قررت أن السفر هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنني من خلالها تحقيق هذا الحلم لأولادي تباعا
– و لكن يا عم جهاد ••
– و لكن يا بني أنا أريد أن أعرف الآن ماذا تم بهذا الخصوص ، فلدي فرصة للسفر الى السعودية بعد شهرين من الآن صديقي الحاج محمود وفرها لي مشكورا ، سأعمل هناك في البناء أيضا براتب كبير ، حوالي ألف جنيه ، هكذا قال لي الحج محمود ، و أنا أريد منك تأكيدا ••
– نعم يا عم جهاد و لكن ••
– يا بني الجامعة حلم ريم الدائم ، و أنا لا أريد أن أثقل علــيك ، فقط أجبني هل هو ممكن ام لا ؟
ترك سعيدا كوبه و نهض قائلا :
– في أقـــرب فرصـــة سأخبرك بكــل شيء ، لقد ســرت بعــض الخطوات في هذا الموضوع و عندما أنتهي سوف أخبرك بكل شيء
– بارك الله فيك يا بني ، بارك الله فيك ، اجلس نتغدى سويا ••
لكن سعيد لم يجلس ، لقد خرج مسرعا و كأنه كان في الجحيم ، لمح ريم و هو يغلق الباب خلفه ، لمح عيونها ، تلك العيــون التي حيـــرته كثيرا منــذ اللحظة الأولى ، رأى فيها أملا و رجاء و اعتماد •• خرج مســـرعا لا يلـــوي على شيء فتح باب منزله و نظر لمــرآة الباب و صاح بغضب :
– كاذب ، كاذب ••
***
نزل خبر سفر الأب المزمع على رأس ريم كالصاعقة ، رفضته منذ اللحظة الاولى ، توسلت إليه ألا يفعل ، قالت أنها راضية تماما بتعليمها إلى هذا الحد ، دللت على أن الأمر عادي بصديقتها سوسن ، لكن الأب اكتفى بقوله :
– سوسن مصرية و أنت فلسطينية ••
توسلت إلى أمها أن تثنيه عن قراره ، تحدثت الليالي الطوال إلى أخيها عن غول الغربة الذي سيقتحم حياتهم اذا سافر الأب في غربته الثانية ، بـــكت ، تــوسلت ، ألحت ، صــلت و دعت الله كثيرا و لكن أباها لم يستجب ، لقد قرر و انتهى ••
و عندما دخل سعيد بيتهم تلك الظهيرة مع أبيها شعرت أنها تريد أن تقتله ، وقفت على باب غرفة الصالون تستمع إلى الحديث ، بدا و كأنه حديث من طرف واحد ، أبوها فقط يتحدث و سعيد يقول "و لكن " حنقت عليه أشد الحنق ، إنه هو السبب ، ليته يستطيع أن يثنيه عن قراره ، ليته يكمل " و لكن " بحديث طويل يقنعه فيه أن غربته عن أولاده ثمنا كبيرا جدا على تعليم الأولاد ، تمنت أن يقول له أنه كان يكذب و أن الجامعة كذبة كبيرة اتخذت شكل البومة و لعبت لعبتها الأبدية في تفريق الشمل و بعثرة الأسرة ، لكنه لم يقل ، و حين خرج ، لا تدري لماذا نطقت عيونها بالتوسل بدلا عن الغضب الذي كان يغلي داخلها ، و تساءلت :
– هل فهم •• هل سيحاول •• لابد أن يفهم ، لابد أن يحاول و هي ستقنعه بذلك ••
حزمت أمرها و انتظرته في اليوم التالي بجوار منزله ، في نفس المكان حيث رآها للمرة الاولى ، عندما أقبل عليها بدا للوهلة الأولى غير مصدق ، ثم تحولت ملامحه إلى الابتسام تعبيرا عن سروره ، لكنه ما أن اصبح في مواجهتها بوجهها الحانق حتى انقلبت ملامحه رأسا على عقب ، وقف واجما و لم يعرف ماذا يقول و بادرته هي :
– أستاذ سعيد ، أريد أن أتحدث معك كلمتين لو سمحت ••
ابتسم مجددا و لكن بحذر و دعاها للكلام قالت :
– ينبغي أولا أن أشكرك على عرضك الكريم على أبي بإلحاقي بالجامعة ، لكنني أريد منك أمرا لو سمحت ••
بلع غصة قريبة و ظن أنها ستطلب منه مثلما طلب أبوها الإسراع في المجيء بالرد لذا هم بالكلام :
– لقد قلت لأبيك ••
قاطعته :
– دع عنك أبي الآن ، أنا صاحبة القضية ، و أنا من تعنيها بالمقام الاول ، و بقدر اشتياقي و رغبتي الحقيقية في الالتحاق بالجامعة ، و بقدر أمنيات أبي و رغبته العارمة في تعليمنا حتى آخر التعليم العالي ، أطلب منك أن تعدل عن خدمتك و أن تخبر أبي انك كنت تكذب عليه و لا تستطيع خدمتنا بهذا الخصوص ••
بلع ريقه و نظر إليها و الدهشة تكسو كل ملامحه ، ماذا تطلب هذه الشابة ؟•• ترجم دهشته في كلمة استنكار بدت حقيقية جدا :
– أنا كاذب ؟
تلعثمت ريم لكنها سرعان ما استعادت قوتها و قالت :
– آسفة •• لم أقصد ما قلت حرفيا و إنما اردت إبلاغك أنك بهذا الحلم الذي دخلت به حياتنا أعملت معولك في هدمها ••
أشاحت بوجهها تخفي دمعة ، ثم نظرت إليه و ملامحها تحمل رجاء و استعطاف و قالت :
– أبي سيسافر و يتركنا من أجل هذا الهدف••
شيء يشبه الزلزال تحرك داخله ، شيء ما هزه حتى الأعماق ، تمنى لو يأخذ هذه المخلوقة في حضنه و يعتصرها بين يديه ، تجاوبا مع نظرة الاستعطاف ، تمنى لو أمكنه حتى أن يمد يده فيمسح دمعتها الخجول ، صمت قليلا ثم قال :
– لكنه هدف نبيل و يستحق الكفاح ••
صاحت :
– أنت لا تفهم ، لا يمكن أن تفهم معنى غربة أبي الثانية •• أنت لن تفهم ، لن تفهم ••
لم تستطع أن تكمل ، بدأت دموعها تغلبها ، و لمح هو اللؤلؤ يتساقط بسرعة غريبة من عيونها ، كانت عيناها مفتوحة و دموعها بلا صوت لكن النشيج كان في قلبه ، و الأسى ملك عليه نفسه همس :
– اهدئي أرجوك ••
– ستخبر أبي أنك لم تسطع عمل شيء و أنني لا يمكنني الدراسة في الجامعة ؟
– سأفعل ••
– وعد ؟
– اعتبريه كذلك ••
– أشكرك ••
و مثلما حدث في اللقاء الاول في نفس المكان انسلت من أمامه كالطيف و غابت في انعطافة منزلهم و هي تحدث نفسها :
– ربما ينجح هو فيما فشلنا فيه ••
***
ذلك المساء كان مميزا جدا فقد جاء سعيد إلى منزل العم جهاد بنفسه و بدون دعوة ، طرق الباب و عندما فتح له قاسم سلم عليه كرجل راشد و سأله عن أبيه ، فأدخله قاسم الصالون و نادى أباه و أخبره عن الزائر الغريب فنهض الأب مبتسما و طلب من أم العيال أن تعد الشاي بسرعة ، كان سعيد يرتدي ملابس أنيقة صيفية ، حليق الذقن تنبعث منه رائحة ذكية ، و كان مبتسما ، سلم على العم جهاد بحرارة و جلس و بادر فورا بالكلام :
– عم جهاد ، لقد تحدثت اليوم مع الآنسة ريم بشأن تعليمها و سفرك ••
عقدت الدهشة لسان الأب و هم بالحديث فعاجله سعيد :
– لا أحب أن ألف و أدور كثيرا ، لقد وجدت الآنسة ريم بانتظاري أمام البيت في الشارع ، رجتني أن أثنيك عن عزمك على السفر و أعلنت أنها لا تريد إتمام تعليمها ، طلبت مني أن أخبرك أنني كاذب و أنني لا يمكنني إلحاقها بالجامعة لكي تتنازل عن فكرة السفر ، لذا آمل منك أن تتكرم بدعوة الآنسة ريم لنناقش الموضوع معا و بمنتهى الصراحة لنخلص إلى رأي يرضي جميع الأطراف و يريحني من عقدة ذنب أبت كريمتكم إلا أن تحملها لي ، فهل هذا ممكن ؟
كان الأب ما زال غير مصدق لما يسمع ، غير موقن أساسا أنه سمع هذه العبارات ، ابنته ريم تقابل هذا الرجل و تتحدث معه ، ماذا حدث ••؟!
أسرع الأب فنادى زوجته و ابنته ، كان يبدو عليه الغضب ، جاءت الأم و الابنة و في أثرهم قاسم و حتى سمر الصغرى جاءت ، قالت الأم بلهفة :
– ماذا حدث يا أبا قاسم ؟
قال الأب و هو ينظر إلى ريم بغضب :
– ابنتك قابلت الأستاذ و طلبت إليه أن يثنيني عن السفر •• أليس كذلك يا ابنة عمري ، أليس كذلك ؟
نهض الاستاذ سعيد بسرعة و توجه إلى الأب و هو يقول :
– اهدأ يا عم جهاد ، اهدأ و أخبرني ما الذي يضايقك •• إذا كان ما يضايقك هو مقابلة الآنسة ريم لي فقد تمت في الشارع و على مرأى كل من فيه و أنت تسعى لإلحاقها بالجامعة و هناك سوف تكلم الكثير من الرجال سواء أكانوا أساتذة أو زملاء ، ما الفرق ؟ أما إذا كان ما اغضبك هو أنها سألتني منعك من السفر فهذا لأنها خائفة من فراقك لهم و لا تريد هذه الغربة ••
جلست سميحة بجوار زوجها و ربتت عليه و هي تقول :
– نعم يا أبا قاسم ، و لقد حكت لي ريم كل شيء و لم أجد غضاضة فيما فعلت ، ابنتنا مرباة و مؤدبة و نحن نثق بها أليس كذلك يا أبا ريم ؟
تطلع الأب نحو ريم و غمامة غضب صغيرة جرداء تلوح في عيونه ، في الحقيقة كان عتابا أكثر منه غضبا ، تقدمت ريم بهدوء و نظرت إلى الأرض و هي تقول :
– أنا حقا آسفة يا أبي ، كنت أريد منعك من السفر بأية طريقة ••
– و لماذا لم تكلميني أنا ؟ لماذا لم تخبريني أنا ؟ ألست أباك و موطن أسرارك ، مصب أمنياتك و محقق أحلامك ؟ ألست هو يا ريم ، ما الذي تغير يا ابنة جهاد ، ما الذي تغير ؟
جثت ريم على ركبتيها أمام أبيها و أمسكت يديه و مالت فقبلتهما و قالت :
– و ستظل دوما واحتي و الوطن أيها الأب الحبيب ، ستظل دائما مرفئي و بيتي و بئري الذي منه أرتوي •• إنما هي محاولة رجوت لها النجاح ••
رفع الأب رأسها و تطلع اليها و قال وهو يكز على أسنانه :
– لماذا ؟ لماذا ، آلاف غيري يسافرون ، و ربما كانت أهدافهم أقل قيمة من هدفي ، إنهم يبحثون عن بيت أوسع و أرض أكبر و تجارة لا تبور ، بينما أبحث عن وسيلة أؤمن لكم بها العلم ، سلاحكم الوحيد في مواجهة الزمن من بعدي ، أنا لا أريد لنفسي شيئا ، لا أحلم بأكثر مما أنا فيه ، لكنني أريد الدنيا لكم ، الحياة الكريمة ••
رفعها من على الأرض و أجلسها بجواره و أكمل فيما الجميع يشاهد صامتا :
– أنتم كنزي يا ابنتي و سفري ليس تضحية ، إنه رسالة تكتمل و أيام تمر بسرعة إن شاء الله و أحلام تتحقق ••
شدت ريم على يد أبيها و قالت و هي تغالب دموعها :
– لكنني لا أريد لغربتك أن تصبح أكبر و لا أريد لعذابك أن يطول ، لا أريد لأمنا و لنا الوحدة بدونك ، لا أريد ، بل لا أحتمل أن أصحو ، و أنت غير موجود بيننا ، أن أحتاجك فلا أجدك ، أن أمد إليك يدي فلا تحتـــويها و تحــتــويني ، يا أبي إذا سافرت يضيع الأمان ، و إذا تركتنا حتى و إن تحققت الاحلام ستكون مجروحة ، مصبوغة بعرق الغربة و ليالي التعب و الفراق ، كيف نهنأ بها و هي من بعض دمك ، كيف ؟
تنحنح سعيد و قد غلبه التأثر فلمعت عيناه لكنه قال :
– لا أملك أمام هذا الموقف إلا أن ألغي فكرة التعليم ، أنا أقول لأبيك يا ريم كما طلبت أنني كاذب ، ليس لدي أية وسيلة أساعدكم بها ••
نهض الأب مسرعا ، أمسك يده بحرارة قال:
– لا •• لا يا أستاذ سعيد ، لا تتخذ هذا الموقف ، لا تبال بما سمعت ، إنهم صغار و أنا ذاهب و هم قادمون ، و عندما يكبرون على دنيا ليس فيها أبوهم و ليس لهم فيها ميراث يستندون عليه ، لن يكونوا سعداء بهذا المــــوقف ، و لن أكــــون راضيا عن كفاح عمري •• لا يا أستاذ سعيد ، أمض في اجراءتك و سأمضي في اجراءاتي علنا في النهاية نصل الى نقطة تتلاقى فيها الأهداف و أنطلق منها إلى تحقيقها ••
و نظر إليه متوسلا ، همس و هو ما زال يضغط على يده :
– أرجوك ••
ران صمت طويل على الجميع ، نظر سعيد إلى ريم مطولا ، كانت تنظر في الأرض تحرك قدمها فوق أشكال البساط الهندسية ، يدها منعقدة خلف ظهرها و في ملامحها تجمع ألم الدنيا ، منظر أعاد إليه الرغبة ذاتها في أن يعتصرها و يهدهد قلبها و يطمئنها على غد تخافه و مجهول تشعر أنه يتربص بها ••
لا يدري لماذا شعر أن إحساسا بالمسئولية يترسخ في ذاته تجاه هذه الأسرة ، لم تعد ريم فريسة يريد اقتناصها و لكن ضعيفة يريد حمايتها ، حزينة يريد إسعادها ، وحيدة يريد أن يملأ عليها أيامها ، نظر إليها طويلا يطبع ملامحها في وجدانه ، يكرس مشاعره نحوها ، يجمعها من شتاتها البعيد ليصبها في مجرى أيامها و عندما طال الصمت تنهد و قال :
– و الآن ماذا قررتم ؟
رفعت ريم وجهها إلى أبيها و رفع الأب وجهه إليها ، كانت الرغبات المتعارضة لأول مرة تتضافر تشكل لحمة ، وشيجة ، تؤصلها أكثر ، تغرسها في أرض لا يراها إلا هما و لا يحسها إلا أب قرر التضحية حتى آخر نفس و ابنة ترفض هذا العذاب •• و صمتا كلاهما فتكلمت الأم :
– على بركة الله يا أستاذ سعيد ، جهاد زوجي و أعرفه إذا قرر أمرا •• مخ فلسطيني عنيد •• و ليكن دعاؤنا أن يقصر الله ليالي غربتنا و يحقق أهدافنا بها ••
نهض الأب مبتسما و أمسك يدي زوجته و قال :
– بارك الله فيك يا أم العيال ، و صبرك على المـــخ الفلسطيني العنيد ، يا رفيقة الكفاح و العمر الذي مضى و العمر القادم ، إنني أعتمد عليك بعد الله كثيرا ••
انسحب الجميع من الغرفة بهدوء و ظل الأب جالسا على طرف الأريكة و سعيد واقفا ينظر إليه و سمعه يقول :
- كم أخاف عليكم يا أحبائي •• ما أقسى أيامي بدونكم ••
مال عليه الأستاذ سعيد و ربت على كتفه و قال بصدق :
– هم أهلي منذ الآن يا عم جهاد و لن يصيبهم مكروه طالما في صدري نفس يتردد ، فلا تقلق ••
***
كان الشغل الشاغل لسعيد بعد هذه الأمسية الغريبة ، أن يحقق ما وعد به الأب ، و في سبيل ذلك ذهب إلى وزارة التعليم و سأل عن الطريقة التي يمكن لفلسطينية إكمال تعليمـــها العـــالي و دهش عنـــدما عـــرف أن للفلسطنيــين نسبـــة 5% في مقاعد الدراسة و ازدادت فرحته بهذا النبأ عندما وجد أحد معارفه القدامى في الوزارة ، يرشده على طريقة التقديم و يعده أن يكون مع الورق حين يذهب إلى مكتب التنسيق بعد ثلاثة شهور ••
كانت الأمور تجري على خير ما يرام ، بل على أكثر مما توقع ، تحمل سخرية صديقه و هو يراه مهتما بهذه الفتاة و لم يصدق أن هذا الاهتمام لا يعدو كونه عملا إنسانيا في المقام الاول قال له :
– أنا أعرف ذوقك تماما و أعرف أيضا أن الفلسطنيات جميلات ، فإذا كانت هذه الفتاة على درجة الجمال التي أتوقعها فإنني لن أخذلك أبدا ، ناهيك عن أن معظم الفلسطنيين لا يتقدمون لإكمال دراستهم لقلة المعلومات عندهم و لقلة ذات اليد في أحيان كثيرة و لذا فإن مقاعد الدراسة في نسبتهم المقررة سنويا يبقى أكثر من ربعها فارغا •• فاطمئن ، حبيبة القلب ستجد مقعدا ••
همس سعيد مستبشرا :
– إن شاء الله ••
و عندما سار في اتجاه منزلهم ليخبرهم بالبشرى ، كان يحدث نفسه بأن صديقه هذا لا يفهم و لن يفهم ، ثم فجأة سأل نفسه : و ما الذي تفهمه أنت ، ما الذي يدفعك إلى كل هذا ، لماذا تفرغت للسؤال ، هل هو الخجل من أن أبدو كاذبا أمامهم ، و ماذا يعنيني في هـــذا ، يا جاري أنت في حالك و أنا في حالي •• أم هي عيونها الحزينة ؟ إذن هي الشفقة أيها الرجل ؟ •• لا ليست الشفقة ، ليس في حياتهم ما يدعو للشفقة ، لم يمدوا يدهم ليستجدوا إحسانا ، أنت من عرضت و أنت من فكرت ، و بناء على عرضك و قرارك سيسافر الأب ، هل هو الإحساس بالذنب ، لا •• فكما قال الأب كثيرون يسافرون ، و ربما كان سفره فاتحة خير عليه و عليهم ، إذن ما هو ، ما الذي يدفعك إلى كل هذا العناء ••؟
عندما اقترب من الشارع تمنى أن يراها ، ثم أنب نفسه بسرعة :
– و لماذا هي بالذات •• بعد دقائق سوف ترى الأب و تخبره أنك لم تكن كاذبا و تبشره بأن ريم ستلتحق بالجامعة إن شاء الله ، و لكن •• ليتها تفتح على الأقل الباب !!
لم يتحقق له ما تمنى و عوضا عن ذلك فتح الأب الباب ، بدا و كأن ليلة سهد طويلة عاشها البارحة ، كان ذابلا ، داكن البشرة ، مشوش الرأس و في فمه سيجارة كأنه يمضغها ، ابتسم فور رؤيته للأستاذ سعيد و نزع السيجارة و فتح باب الصالون و أدخله مصحوبا بعبارات الترحيب المعتادة و عندما أطفأ سيجارته في المطفأة ، كان سعيد يبادره بقلق :
– ما بك يا عم جهاد ؟
هز رأسه نافيا أن يكون هناك شيء و لم يقو على الكلام ••شعر سعيد بقلق مفاجيء ، انتظر قليلا قبل أن يعاود السؤال ، و لدهشته فوجيء بالأب يبكي •• نعم هكذا فجأة انخرط الرجل العجوز في بكاء غريب ، كانت كل أعضاؤه تتحرك حركة قوية ، ترتفع اكتافه و يغوص رأسه بين ذراعيه و و يعلو ظهره و ينخفض •• كان الرجل يحاول إسكات نفسه ، يكتم أنفاسه ، يقاوم نهنهاته ، و سعيد واقف لا يدري ماذا يقول ••
– وحد الله يا عم جهاد ، وحد الله يا رجل •• أين زوجتك ، أين ريم ؟ نريد كوب ماء ••
قال الأب و هو يهز رأسه :
– لا أحد هنا ذهب الجميع إلى السوق ••
– سأحضرها بنفسي إذن ••
هم الأب أن يمنعه إلا أنه كان أضعف من ذلك فربت سعيد على يده و خرج من الغرفة •• لاول مرة يرى منزل ريم من الداخل ، خمن موقع المطبخ و توجه إليه مباشرة ، جلب ماءً من البراد و لفت نظره و هو في طريقه للخروج باب الغرفة التي تطل على شرفته ••
– لابد أنها غرفة ريم ••
شيئا ما أقوى منه دفعه إلى دخول الغرفة بخطوات حذرة كأنه يدخل صومعة راهب •• أول ما لفت نظره كان فراشها •• كان مرتبا و عاديا ، إلا أن شيئا فيه أعجبه ، شيء لا يراه البشر ، مد يده تحسسه •• ثم لفتت انتباهه اللوحة المعلقة على الحائط فوق السرير ، كانت لمنظر طبيعي وقت الغروب ، و رغم أن اللوحة كانت ترسم بدقة هذا المنظر إلا أن شيئا مخيفا كان فيها •• إحساس بالرهبة يشعر به من ينظر إليها لا يدري مبعثه ••
– هذا رسمها ••
التفت بسرعة إلى الأب الذي كانت يده تسكن كتفه و نظرة لوم صغيرة تقبع في عيونه المغسولة بالدموع للتو ••
ارتبك سعيد أيما ارتباك و اهتز كوب الماء في يده فسقطت منه بضع قطرات على الأرض ، مسحها بحذائه و لم يدر ما يقول فآثر الصمت
– هنا كل مملكة ريم ، إنها ترسم أحيانا من الصباح إلى المساء ، انظر هذا حامل الرسم الذي ترسم عليه ••
توجه الأب إلى الحامل بخطوات واهنة و رفع الغطاء بأصابع مرتجفة و قال:
– تأمل معي ••
وقف سعيد يطالع الرسم أمامه ، كانت خطوط مبدئية بالفحم لفتاة منهكة تعتلي جبل عال و عند السفح بحيرة صغيرة نبت الصبار على جانبيها و عند القمة سحابة مثقلة ••
أشار الأب على البحيرة و قال :
– هذه ليست بحيرة ، إنها سراب ••
هز سعيد رأسه و قال :
– لاحظت الصبار ••
جلس الأب على حافة السرير و قال كأنه يكمل حديثا :
– هذه اللوحة ترسم حلما شاهدته ريم قبل فترة •• لم انتبه إنه يصلح لوحة ••
مد سعيد كوب الماء إلى الأب مبتسما فأخذه منه و تبلغ ببعضه و ظل الكوب في يده ، قال سعيد :
– لماذ كنت حزينا يا عم جهاد ؟
أطرق العم جهاد قليلا و تطلع حوله ثم نهض و قال لسعيد :
– تعال •• سأعد شايا ••
توجه كلاهما إلى المطبخ ، كان العم جهاد يعرف مكان كل شيء بالضبط ، و عندما فتح خزانة المطبخ ليخرج منها الأكواب تنهد و قال :
– أنا صنعتها •• هذه الخزانة ، و طقم الصالون و سرير ريم و سرير قاسم و حتى طاولة التلفاز ، تلك في واجهة الصالة ••
أومأ سعيد برأسه و قال :
– فنان و الله يا عم جهاد ، إنها قطع جميلة و متينة •• ليس مــستغربا أن تكون ريم فنانة و هي ابنتك ••
ربت الأب على كتف سعيد ممتنا للمجاملة و صب الشاي و تقدمه في الخروج و الاتجاه إلى غرفة الصالون ، و عندما وضع الشاي على الطاولة و تناول كل منهما كوبه قال العم جهاد :
– خيرا يا بني ؟
ابتسم سعيد مرة اخرى و قال :
– بل هو كل خير إن شاء الله ، وجدت من يساعدني في تقديم أوراق ريم للعام الدراسي الجديد ، و لقد وعدني خيرا و عنـدما يحين موعـــد التقديم ســأكون معها و إن هي إلا أيام و تظهر النتيجة و إذا ريم طالبة جامعية كما تمنيت ••
ابتسم الأب ممتنا و قال :
– على بركة الله •• أتعبناك معنا يا أستاذ سعيد و شغلناك بهمومنا ••
هز سعيد رأسه رافضا الكلمة و قال بصدق :
– لا تقلها يا عم جهاد ، أنت مثل أبي و أولادك إخوتي ••
– بارك الله فيك يا بني ، و أعطاك على قدر نيتك ••
– عم جهاد •• إذا سمحت لي ما الذي أحزنك حد البكاء ، لقد أفجعتني ••
ابتسم الأب ابتسامة صغيرة حزينة و قال :
– لو شاهدوني لماتوا رعبا ، كانت الفرصة الوحيدة لي للتنفيس عن مشاعري ، خروجهم للسوق أتاح لي أن افعل ما كنت أقاومه و بشدة ••
– و لكن لماذا الحزن يا عم جهاد ، إذا كنت لا ترغب في السفر ابق و مصاريف الدراسة يدبرها الله ••
– أنت لا تفهم يا أستاذ سعيد ، أنا لا أسافر من أجل مصاريف قد أستطيع تدبيرها إذا بقيت ، إنني أذهب و أنا أعلم تمام العلم أن أمامي دربا طويلا طويلا ، دربا تأخرت عن المشي فيه بسبب نوازع العاطفة و رغبتي في عدم ترك أولادي ، و أسلكه اليوم بسبب نوازع العاطفة أيضا و بسبب العقل •• قدر محتوم ظللت أخافه و أهرب منه و أتحاشاه قدر الإمكان لكــــن آن الأوان أن أرضـــــخ له و أن أترك سيـــفه يجتز أمني و استـقراري و راحتي •• قاسم في الصف الأول ثانوي ، هل تعرف ما يعنيه هذا ؟
– بقي له عامان و يدخل الجامعة ••
– بالضبط ، لن تكون ريم قد أكملت دراستها ، و ستتضاعف المسئولية •• و سمر هذه الصغيرة بعد عام بدورها ستدخل المدرسة ، مدرسة خاصة مصاريفها فوق القدرة و الاحتمال ، لكنني لن أحرمها حقها في العلم ، أولادي يا أستاذ سعيد هم الشيء الحقيقي الوحيد الذي منحه الله لي •• الشيء الذي لا ينازعني على ملكيـته مخلوق ، الوطن الذي لا ينتمي إلا لي و لا أنتمي إلا له ، و من حقهم أن أبذل من أجلهم كل غال و نفيس ••
– لكنك بذلت بالفعل ••
– مازالوا بحاجة لبذل المزيد ••
نهض العم جهاد واقفا و ، استشرف من باب الصالون منزله ، كان يمسك بيده حاجز الباب كأن الحاجز يسنده ، تكلم إلى لا أحد قال بصوت واهن ••:
– في هذا البيت عشت عشرين عاما ، دخلته بالضبط يوم تزوجت سميحة عام 66 ، كان إيجاره تلك الأيام 561 قرش صاغا •• ارتفع مرتين فقط خلال هذه السنين و توقف منذ أكثر من عشر سنوات على ثلاثة جنيهات و نصف •• تعمدت أن يكون زواجي في اليوم الاول من العام الجديد لكي اؤرخ به لنفسي ، لأقــــول أنني أعلنــت دولتي في هـــذا العام و أرسيت رايتي في هذا اليوم •• ضحكت سميحة كثيرا وقت أن أخبرتها بهذا الكلام ، كانت عروسا جميلة ، جميلة جدا ، كانت فوق أحلامي لولا كرم عم صابر يرحمه الله معي آنذاك ، و كرمها هي •• لقد تزوجت غريبا ، أرضه منهوبة و لا يعرف متى سيكون له وطن •• تزوجت إنسانا مثقلا بهموم الفراق ، يقيده شوق لا منتهي إلى أم و أب و إخوة تفرقوا ذات يوم ، أتصدق يا أستاذ سعيد ••
و إلتفت إليه كان سعيد يطالعه بحنان و إصغاء كامل ، أكمل :
– أنا لا أزوج ابنتي لشخص مثلي لو كنت في ظروفهم •• هذا صحيح •• لكنهم فعلوها ، فلماذا إذن ضحكت سميحة يوم أخبرتها أنني صار لي وطن بزواجنا ••؟
ضحك ضحكة صغيرة و فرك يديه و أكمل :
– السفر أمر أريده و يحتمه الواقع و مصلحة الأبناء ، و لكنه قاس ، مر ، يعني فراقا جديدا في حياة إنسان الفراق نصيبه منذ خلقه الله ••أتدري يا أستاذ سعيد ••؟
تطلع إلى وجهه مليا ، لكنه لم يكن يرى ملامح ، لم تسجل ذاكرته في تلك اللحظة إلا شكلا هلاميا كان يعيش داخله منذ سنين ، قال بصوت واهن :
– اليوم فقط شعرت أن أبي مات •• أحن إليه كثيرا •• أشعر أنني كنت عاقا عندما تركته يموت في أرض غريبة و لست معه ، علمت بخبر وفاته بعد سنة كاملة من موته ، مثلي مثل الغريب •• عندما أعلنتها حدادا في المنزل ، لم يفهم الصغار لماذا عليهم ان يطفئوا التلفاز و الراديو و لماذا تلبس أمهم السواد ، عندما حدثتهم عن أبي ظنوا الحديث عن جدهم صابر يرحمه الله و قالوا أنه مات منذ زمن بعيد فلماذا الحزن الآن •• لم أكمل أيام الحداد الثلاث •• قطعتها لأنني وجدت نفسي سخيفا ، لن يشعر هؤلاء و هم قطعة مني بمقدار حزني فكيف سيشعر به أي معز جاء من قبيل المجاملة و شرب القهوة السوداء على روح رجل لا يعرفه •• تعاظم يومها شوقي إليه و لكنه كان شوقا يشبه أياما كثيرة سبقته و سيشبه أياما كثيرة مقبلة •• و قلت أبي لم يمت ، و ليكن الخبر كاذبا •• يوما ما تنتهي سنين غربتي و ارتهاني بعيدا عن وطني و سأعود لاجد أبي في ساحة دارنا يدخن سيجارته و أمي تصيح علينا •• ابتعدوا عن البئر ، يوما ما سيموت أحد أولادنا في هذا البئر •• أشعر بذلك •• كانت دائما تقول هذه العبارة ••
أحس أنني سأعود لأجد كل هذا أمامي مجددا ، الجمــــيع ينـــتظرني ، إخوتي و أنا و أمي و أبي يرحمه الله •• حلمت كثيرا بعودتي تلك ، و كنت قد قررتها مرارا خلال العامين الاولين على قدومي هنا ، لكنني كنت اخشى غضبة أمي حينما تراني و تعرف انني بعد لم أجد طريقي •• حين جمعتنا بعد سفر أبي قالت تفرقوا و ابحثوا عن طريقكم و لا تعودوا إلا و كل واحد منكم قد وجد طريقه •• خفت أن أعود فتسألني :"هل وجدت الطريق يا جهاد ؟" فأقول لها: "بعد يا أمي" فتقول :"و لماذا عدت ؟" فأقول :"الشوق و الحنين" فتقول :"يا عيب الشوم على الرجال ••"
و لم اعد و في 76 انتهى آخر أمل لي بالعودة ، أصـــبح بحر غزة رهين الاحـــتلال بدوره ، و اصبح أختيار العودة الذي كنت اراود نفسي عنه و أمنيها به أمرا من الماضي ••
هل تصدق هذا يا أستاذ •• بيتي و بلدي و أمي و إخوتي على بعد قليل مني و لم أرهم منذ عشرين عاما •• عشرين عاما يا أستاذ •• أليس كثيرا هذا الزمن ؟ بل هو أكثر من كثير ، أكثر من كثير و الله العظيم ••
هذه المرة كان البكاء من نصيب سعيد ، كانت دموعه الصامتة تسقط رغما عنه ، كان أمامه رجل يتعذب بنبل منقطع النظير ، يعذبه شـــوق وواجب و حنين قاهر ، مسؤولية و ذكريات و حياة تريد دوما المزيد ••
عندما ران الصمت على الغرفة ، لم يجرؤ سعيد على اختراقه ، كان يعلم أن جو الغرفة مثقل بكلام أهم بكثير من أية كلمة يمكن أن تقال ، كان يشعر أن كلمة واحدة تخرج منه كفيلة بأن تسمه بالسخف طوال العمر ، صمت ، راقب العم جهاد و هو يضع وجهه بين راحتيه ، سمع تنهداته الحرى ، لاحظ الارتعاشة التي كانت تسري في يديه و يقاومها الرجل فلا يستطيع و تغلبه ، فيمعن في دفن وجهه فيهما حتى لا يلمس هو الغريب ضعفا في هذا القوي القادم من خلف حدود سيناء ••
نهض سعيد بعد قليل و سار باتجاه الباب بخطوات متثاقلة ، لم يتطلع خلفه ، كان يريد أن يتنفس هواءً نقيا و كان حسابا عسيرا ينتظره خارج حدود هذا البيت ، حسابا لابد أن يقابله بعد أن قابل هذا المطعون في قلبه منذ سنين و رغم ذلك لديه القوة على إعطاء أولاده بقية من نزف روحه لكي يعيشوا ، عندما فتح الباب و خرج و أغلقه خلفه ، أخذ نفسا عميقا و توجه بخطوات سريعة إلى منزله ، فتح الباب ، وقف أمام المرآة لم ينتظر حتى أن يغلق بابه صاح لصورته المتأنقة :
– تافه ••