رواية لاجئة حلقة 18 والاخيرة
عند الفجر ، سمع سكان المخيم صوت الحافلة قادما من بعيد ، ركض بعض الرجال لملاقاته فقال المشرف أبو محمد بحزم :
– أتركوا لهم الفرصة لينزلوا بالقرب منا •• معهم معدات لابد من الحذر في إنزالها ••
استجاب الرجال ، فوقفت الحافلة بالقرب من إحدى الخيام و نزل منــــها أعضـــاء الفريق و معهم خمسة أطباء شباب ، أخرجوا من بطن الحافلة صناديق كثيرة و أنزلوها في إحدى الخيام التي أخليت على الفور بتوجيهات من الأطباء الذين أرادوا مكانا خاصا ليكون بمثابة عيادة يتم فيها فحص كل سكان المخيم و إعطائهم اللقاحات المناسبة خاصة لمن لم تصبه العدوى منهم ، قال أحد الأعضاء للمشرف :
– ستلحق بنا بعض الحافلات حالما ينتهون من جمع التبرعات ، لقد هاتف رئيس التحرير نقابة الأطباء و نقابة المحامين و حتى نقابة الفنانين ، و أبدي الجميع استعدادهم للمساعدة بما يستطيعون •• لا تنس نحن في أول اليوم ، كنا نريد العودة سريعا إليكم ••
ربت عليه المشرف و قال فخورا :
– بارك الله فيكم ••
***
كانت ريم قد نامت تعبا في إحدى زوايا الخيمة ، شعرت بيد رفيقة تهزها ، فتحت عيونها بسرعة ، بفزع ، فقالت وردة مبتسمة :
– آسفة لإزعاجك ، يبدو أن النوم غلبك إرهاقا ، شخص من أفراد فريقكم يريدك خارج الخيمة ••
نهضت ريم بسرعة فقالت لها وردة :
– منذ ثلاثة ساعات و الأطباء يفحصون سكان المخيم ، أخلوا ثلاثة خيام للمصابين و أعطوا معظمنا اللقاحات ، لقد أعطوني حقنة قبل قليل ••
ابتسمت ريم و هي تحمد الله ، خرجت فوجدت سعيدا واقفا على باب الخيمة ينتظرها بقلق ، بمجرد رؤيتها هتف حامدا لله بادرها :
– ريم أين كنت ؟
قالت بهدوء :
– بالداخل ، غلبني النوم فنمت في مكاني ، هل حدث شيء ؟
فقال و هو يهز رأسه و يبتسم :
– صباح الخير يا حبيبتي •• منذ البارحة ظهرا لم أرك ، أكلني قلبي عليك •• كنت في حالة سيئة عند المقبرة ••
ابتسمت ريم و قالت :
– أنا بخير يا سعيد اطمئن •• سمعت أن الإمدادات وصلت ، هل نذهب لنلقي نظرة ••
ابتسم سعيد و مد لها يده فأمسكت بها و سارا باتجاه الخيمة العيادة ، تطلع الأطباء المكممين إليهما و قال احدهم بحزم :
– نأمل أن تغادرا حتى لا تتعرضا للعدوى ••
أفلتت ريم يدها و قالت للطبيب :
– أنا أريد مساعدتكم ، أستطيع أن أوفر عونا لابأس به •• كنت أساعد طبيب الجامعة في عمله ••
و قال سعيد :
– و أنا لي خبرة في أعمال الأسعاف منذ أيام الجيش ، أستطيع أن أكون ممرضا ممتازا ••
فقال الطبيب بسرعة :
– ألبسوا الكمامات و ضعوا القفازات و تناولوا اللقاح •• لابد أن تتحصنا بدوركما ••
تساعد الإثنان في فعل ما أمر به الطبيب ، و كان سعيد سعيدا لأن أول حقنة يعطيها في عمله الجديد ستكون لريم ، أغمضت عيونها و هي تسلمه ذراعها و قالت :
– كن رفيقا بي ••
فقال و هو يبتسم :
– ليت هذا السائل سائل محبة بعد أن أحقنك به تصيحين فورا " تزوجني يا سعيد "
ابتسمت ريم و هي تكز على شفتها السفلى حذر الألم :
– أحقني يا سعيد بسرعة ••• نريد أن نعمل يا رجل ••
عند العصر أقبلت الحافلة الثانية و معـــــها شـــاحنة عملاقة تحمــل الكثير من المعونات ، و كانت فرحة سكان المخيم المبعدين كبيرة عندما جاءت من ليبيا أيضا عربتا إسعاف كبيرتين ، و شاحنة تحمل مساعدات ••
نصبت العديد من الخيام الجديدة ، و قال المسؤول الليبي لكبير سكان المخيمات كأنه يبلغ رسالة :
– إبعادكم ليس قسوة و إنما استجابة لمعطيات واقع جديد صنعه زعيمكم ، و في النهاية نحن أخوة ، سننقل المصابين منكم للعلاج في المستشفيات ، و هناك فرصة للطلاب أن يعودوا لآداء الإمتحانات إن ارادوا •• فقط لآداء الإمتحانات ••
لقاء غريب على الحدود اجتمع فيه المصري و الفلسطيني و الليبي في ظرف غريب نشأ عن واقع غريب •• لكنه كان لقاءا جميلا رغم كل شيء ••
صبيحة اليوم التالي كان أعضاء الفريق يجمعون أغراضهم ، و يودعون سكان المخيم في طريقهم للعودة ، قالت وردة و هي تقبل ريم :
– أسعدتني رؤيتك كثيرا ، و ذكرني خطيبك بخطيبي في ليبيا •• أتمنى لكما السعادة ••
نظرت ريم إلى سعيد فهز كتفيه و قال باسما :
– لديها نظر ••!!
توجهت للحافلة ، و تعمدت عدم الركوب حتى انتهى أعضاءالفريق من صعوده ، و قال لها المشرف :
– هيا يا ريم ، أم مازلت تريدين البقاء ؟
تطلعت للمخـيم ، و لسكانه الذين وقفوا يلوحون لهم ، ثم نظرت للمشرف و قالت بامتنان :
– أنت عظيم يا أستاذي ، عظيم ••
ابتسم الرجل و قال و هو يصعد و يغلق الباب خلفه :
– لن يعفيك هذا من العقاب حالما نصل المجلة ••
غادرت الحافلة المكان ، و التفتت ريم إلى السكان المبعدين و قالت و هي تتنهد :
– ترى متى يعودون ••؟
فقال سعيد و هو يطالع تفاصيلهم المبتعدة :
– إلى فلسطين أم إلى ليبيا ؟
تنهدت ريم و لم ترد ••
لم تكن ثمة إجابة ••
***
كان الموضوع الذي عاد به الفريق قويا بالصور و الرسوم و التحليلات و اللقاءات •• أعطت ريم المجلة لأمها و قالت و هي تشير إلى فتاة سمراء نحيلة خلف الوجوه :
– هذه وردة التي حدثتك عنها ••
قالت الأم و هي تتأمل الصور :
– آمل ألا تذبلها الأحداث ••
فقالت ريم :
– تركناهم بخير ••
فقالت الأم :
– إلى حين يا ريم •• هذا الوضع لو استمر سيقتل كل سكان المخيم ، إنهم في صحراء ، يعتمدون على ذاكرة العالم ، ماذا لو نسيهم الناس ، عندما تخف الأضواء عنهم ، و تزهد الصحافة في أخبارهم ، ماذا لو توقف العالم عن الإلتفات إلى مصابهم •• العالم دأبه النسيان و ذاكرة هذا العصر ضعيفة جدا ••
وضعت ريم يدها على قلبها تهدىء نبض خوف قوي اجتاحه و قالت :
– أسأل الله ألا ينسوهم ••
فقالت الأم و هي تتنهد :
– أسأل الله أن تنتهي مصيبتهم ••
قالت ريم و هي ترى انزعاج أمها الكبير :
– ألم تصل برقية من قاسم ؟
فقالت الأم :
– وعد أن يكتب كل يوم رسالة ، بحساب الأيام ينبغي أن تكون الأولى في غضون يومين بين أيدينا ، أسأل الله له السلامة ••
و قالت ريم :
– أسأل الله ألا ينسى ••
قالت الأم و هي تدفع شكا يراودها فيخيفها :
– لن ينسانا قاسم يا ريم •• ولدي الحبيب لن ينسى أسرته أبدا •••
فقالت ريم و عيونها تلتمع :
– ينبغي ألا ينسى يا أمي •• و إن نسي نذكره ••
فقالت الأم بدهشة :
– نذكره ؟
فقالت ريم :
– حتى لا ينسى •• لابد أن نقرع الأجراس دوما •• نصرخ بصوت عال أننا هنا •• نعلنها للدنيا أننا نرفض نسيانه •• إذا أدار وجهه عنا ، أدرنا أنفسنا إليه ، و إذا تشاغل بأمر خرجنا له منه ، إذا قرأ كتابا كنا بعضا من سطوره ، وإذا تنفس هواء كنا بعضا من بعض ذراته ••
أمسكت بأمها ، قبلتها بحماس كبيرو قالت :
– لابد يا أمي •• لابد من عمل كل شيء لكي لا ينسى
قالت الأم متسائلة بدهشة :
– قاسم ؟
فقالت ريم بقوة و هي تحكم قبضة في الهواء و توجهها للأمام :
– العالم •• العالم كله يا أمي ••
***
– هذا جنون ••
كانت تعرف أن فكرتها لن تكون محل ترحيب بمجرد طرحها ، كانت تعرف أن هناك معارضة كبيرة تنتظرها ، لكنها كانت مصرة على تنفيذها ، كانت الفكرة قد أصبحت هاجسا لا يفارقها ، تنام و تصحو عليه :
– لابد من محاربة النسيان يا سعيد ••
– أي نسيان يا ريم ؟ ، ماذا تقولين ؟ فيما تفكرين ؟
قالت و هي تجلس بجواره و توجه حديثها له و لأمها التي قامت باستدعاء سعيد على عجل بعد أن طرحت ريم عليها فكرة مجنونة و أصرت عليها :
– النسيان هو آفة العالم •• خمسون عاما و نحن نعيش نكبة كبرى ، نكبة تجتاحنا ، تأتي على الأخضر و اليابس فينا ، غرب و عرب •• الجميع ينسى •• يتناسى ، المهم أننا نعود للوراء ، كلما أوغلنا في النسيان كلما اتسعت الفجوة بين الواقع المرفوض وبين ما ينبغي أن يكون
نتفاوض الآن من أجل بضعة أمتار و كأننا نشحذ ، و كأن فلسطين كانت حقا لهم و نحن نغتصبه منهم ، لابد من تذكير العالم بأن فلسطين لنا ، لابد من حدث يحرك الراكد من تاريخنا •• لابد من حدث يذكر العرب بعروبتهم ، إنتفاضة جديدة ، بأسلوب جديد •• بأسلوب يتماشى و النظام العالمي الجديد •• لابد من هذا ••
قال سعيد و هو يكتم غيظا :
– و لكن هذا جنون !!
فقالت بسرعة :
– وما الذي يجري حولنا وله علاقة بالعقل ؟ كنا معا و رأيت بنفسك أناسا يموتون لأنهم لم يتمكنوا من رفض قرار عربي قوض أمنهم •• في فلســطين سلـــبوا البيــوت من أهلها و عاش أصحاب البيوت في مخيمات حقيرة يرنون بعيون ملؤها الحسرة إلى بيوتهم ، أصبح يعيش فيها الأعداء على مرأى و مسمع من العالم ، في كل يوم تهدم إسرائيل بيوتا في فلسطين و تسطو على ممتلكاتها و تعطي لنفسها مساحات أوسع من شرعية دولية عمياء دأبها النسيان ، ما الذي جعل الإسرائيلين يحصلون دوما على ما يريدون ؟ ذلك أنهم يقرعون في كل يوم أجراس الذكرى ، رويدا رويدا حلت إسرائيل محل العرب ، تراجعوا ببطء عن أملاكهم و احتلتها إسرائيل و نسي العالم أنها كانت يوما لنا حتى إذا تنازلت إسرائيل تكرما عن أمتار قليلة رفعوا لها قبعاتهم و حيوها على تضحيتها ••
اسمع يا سعيد •• اسمعي يا أمي •• أنا فلسطينية ، لن ينسيني اللجوء انتمائي ، لن يعطيني جنسية البدون لأعيش على الهامش ، لن يكون هدفي لقمة اليوم أمضغها فتمضغني ، حتى إذا حانت منيتي ، اندثرت أكثر مع أبنائي أمنيتي •• إذا لم أعد لبلادي لن يعرفهــا أبنائي •• ستـــــغلق فلسطــــين على من فيها ، و تموت بمـــوتهم قهرا ، أو ذلا ، أو برصاص غادر يستبيح دماءهم •• لابد من أن أقرع ناقوس الذكرى ، كما كانت جدتي تعمل مع أولادها •• عل العالم يسمع ، و يلبي ••
فقال سعيد مشفقا :د
– لكنك وحيدة ••
– إذن لابد من قرع ملايين الأجراس •• لابد أن يحمل كل مغترب ناقوسه ليدقه •• لنشعلها حربا سلمية تنبه العالم و توقظه من سباته و تجعله يركن للعدل •• لنضع النقاط علي الحروف و نقدم الدليل لمن نسي أننا لم ننس
– كيف ؟
قالت ريم و هي تبتسم بهدوء رغم أن قلبها ينبض بقوة :
– سأقاضي إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية ••
همست الأم و هي تجلس بإعياء :
– مجنونة ••!!
نظر سعيد إلى الأم ، ثم نظر إلى ريم و قال جادا هذه المرة :
– فيما تفكرين ؟
فقالت ريم و قد لمست في نبرته استعدادا للتفهم :
– أملك وثيقة رسمية تثبت ملكية عائلتنا للمنزل الذي استولى عليه اليهود •• سأقدمها مع مذكرة أطالب فيها باسترداد بيتنا ••
ابتسم سعيد و هو يقول :
– لو سلمت جدلا بمعقولية ما تقولين ، فإن محكمـــة العدل الدوليــة لا تملك الحكم بين فرد و دولة •• اختصاصها فض المنازعات بين الدول و ليس بين فرد و دولة ••
فقالت ريم مبتسمة بثقة :
– أنا فلسطينية •• بلادي مغتصبة ، نفاوض من أجل عدة أمتار •• هناك اعتراف عالمي ضمني بأن للفلسطنيين حقا في تلك الأرض •• سأبدأ بنفسي •• و عندما يرفضون طلبي ستتولى الصحافة شرح القصة و سأدعو إلى أن يقدم كل فلسطيني ما لديه من وثائق تثبت ملكيته للأرض ، أو للبيت •• سنكون في نهاية المطاف دولة •• دولة تطالب دولة •• نحن في الخارج لا نقل عن مليونين ، لو استجاب لي مليون فسنصنع دولة •• دولة تقاضي دولة ••
قالت الأم بجزع :
د
– تحلمين ••
عندما همت ريم أن ترد قال سعيد :
– كل الأعمال العظيمة تبدأ بحلم •• أنا معك يا ريم ••
فقالت ريم و قلبها يدق حماسا و طربا :
– لكنك مصري ••
فقال بثقة :
– أنا عربي •• محام عربي •• سأتخذ كافة الاجراءات التي من شأنها أن تذلل أية عقبات أمامنا •• سأسافر معك إلى هولندا ••• و هناك في لاهاي سوف تشهد أروقة المحكمة الدولية أغرب قضية من نوعها بين لاجئة و دولة قامت على أنقاض بلادها ••
– أنت رائع يا سعيد ••
– أنت رائعة يا ريم ••
عندما كانت ريم تصعد درجات سلم الطائرة بصحبة سعيد ، كانت تعرف أن قلبا واجفا يتمتم في هذه اللحظة لها بالدعاء •• أخرجت جرسا صغيرا من حقيبة يدها أرسلت به صوتا عبر الهواء عله يصل إلى أمها فيطمئنها أن ريم اللاجئة عرفت آخـــر الأمر هدفها •• و سعت لتحقيقه •• لم يشغلها إن كانت ستنجح ، أم أن فشلا ذريعا ينتظرها •• كانت تعرف أن القرار ليس سهلا لكنها كانت مصممة على المحاولة ••
"هل يمكن لدقات الجرس الصغير أن تخترق عشرات السنين من اللجوء و النسيان •• وتصل إلى كل شهيد على أرضه ، و إلى كل من مات في غربته على فراش بارد ؟هل يوقظ رنينه الأموات و يهب النار الغافية صحوة و اشتعالا ينذر بالحريق ؟ "
هذا ما كان يشغل سعيد ، لكنه كان متفائلا •• أحكم قبضته على كف ريم و دخلا الطائرة معا ••
انتهت بحمد الله
الجمعة /25/2/1419هـ
الموافق/19/9/1998م
مشاركة منتدى
11 كانون الثاني (يناير) 2005, 02:20
االأخت سحر المحترمة
أعان الله فلسطين وأهلها وأعادها لهم إن شاء الله لقد أعجبتني روايتك كثيراً فقد زادت قلبي اشتعالاً وحزناً على ما يحصل مع إخوتنا الفلسطينيين ، وأرجو أن لا تكون هذه الطريقة في التعامل مع اللاجئين لا زالت إلى يومنا هذا بالنسبة إلى الدراسة والسفر وغير ذلك فأنا رغم معرفتي بالحال في فلسطين غير ملمة بالتفاصيل العميقة.
وبالنهاية لا يسعني سوى أن أشكرك وأتمنى لك التوفيق دائماً.
12 شباط (فبراير) 2005, 23:16, بقلم Rana
بسم الله الرحمن الرحيم
االي من عبرت بكلامات وابدعت الي كاتبة مميزة جدا اليك سحر الرملاوي
اولا احيكي على هذه القصة التي لم اتزحزح عن شاشة الكمبيوتر لاكمالها كلها
وانا الان اكتب لك ومازالت الدموع تذرف من عيوني وفعلا كل ما اريد قوله الله الله
على روعة قلمك اتمنى من الله ان يديم قلمك الجرئ والقصة اكثر من روعة
ونهياتها حلم يتجدد بحق وحلم جميل وانشاء الله سيتحقق انشاء الله
اتمنى ان لا تحرمينا من المزيد من كتابتك وليت تعلمني كيف ممكن اشتري نسخة
من الكتاب وما هي مؤلافتك الاخرى رجاا اعلمي ومشكروة جدااااااااا
وبنهاية اقول اذا كان المكان وزمان ضدي فانا فلسطنية احب التحدي
اختك رنا