رواية لاجئة ـ حلقة 4 من 18
بدا و كأن مشوار السوق لن ينتهي بالنسبة لريم و إخوتها ، فيما حرصت الأم على دخول كل محل تجد فيه شيئا قد يحتاجه زوجها في غربته •• الأثواب الفضفاضة الفاتحة الالوان من أجل أخذ راحته بعد عودته للمنزل ، افرولات العمل ، المناشف ، الملابس الداخلية ، العطارة : بهارات ، و زعتر و ملح و الشيح لزوم البرد و الصابون المصنع من زيت الزيتون فهو لا يحب الشامبو ، و ليفة حمام جديدة و فرشاة أسنان و معجون و فرشاة شعر ، و زيت شعر ، و كانت الأم تتلفت على كل محل و تسأل الاولاد :
– هل نسيت شيء؟
فيهزون رؤوسهم فلا تقتنع و لابد أن تتذكر شيئا جديدا كلما نظرت في واجهات المحلات •• و أخيرا تذكرت الحقيبة التي ستحمل كل الاشياء ، و عندما استقرت في يد ريم فيما استقرت بقية الأغراض موزعة بين قاسم و بينها ، شعرت و هي تنظر للحقيبة الكبيرة بغصة فظلت تتمتم داخل نفسها بأدعية كثيرة تسأل الله فيها تقصير أيام الغربة و سرعة تحقيق الهدف و تستعيذ من أولاد الحرام و أفكار سوداء ألحت عليها ••
– ماذا لو مات الرجل في غربته •• ماذا لو تيتم أولادها و هم ما زالوا في أمس الحاجة إلى أبيهم يزود عنهم مصائب الحياة ، من سيزوج ريم و من سيختار لقاسم كليته و يخطط معه مستقبله ، من سيدلل سمر و يضعها في حجره كل مساء و يطعمها بيده و يدافع عنها ضد احتجاجات إخوتها •• من ، و آه من هــــذه المن •• من ســـيشاركها ليلها الطــــويل و فراشها الكبير ، و همومها الصغيرة ، لم تعرف لنفسها منذ مات أبوها أحدا سوى زوجها •• لم تعرف حقا معنى الفراق الذي عانى منه زوجها طوبلا و تقلب من أجله على فراش الشوك سنين عمره كلها ، فهل آن الآوان أن تطعمه ، هل ستعيش ما بقي لها من أيام تعاني شوقا و حنينا ، لقد كان رجلا فلم يكن يبكي ، أما هي فهل تملك إلا الدموع ، هل ستصبح الدموع سلوتها حتى يعود زوجها •• و ما بال الأخريات ، نصف نساء الشارع أزواجهن يعملون خارج مصر ، لماذا يخيفها عمل الرجل في الخارج و هو الأمر الذي اعتاد عليه الجميع ، هزت رأسها و كأنها كانت تكمل حديثا مع أولادها سمعوها تقول :
– و ماذا لو سافر •• إنه ذاهب إلى أطهر أرض •• بلد المصطفى عليه السلام •• سيعمل سنة أو سنتين ثم يعود ، و ننسى الغربة ، و يتعلم الأولاد و تصبح الحياة أفضل و ربما صار لنا بيتا نملكه •• أليس كذلك يا أولاد ••؟
لم يرد احد ، و هي لم تنتظر حتى أن تسمع همهماتهم ، أرخت طرحتها السوداء الشفافة على وجهها و كأنها تدرء بها رياحا وقضمت طرفها باسنانها و سمحت لدموعها أن تسقط بهدوء •
***
أزف موعد الرحيل و هذه الليلة كانت آخر ليلة ، هكذا سماها الأب و هو يبتسم مشجعا لأهل بيته بينما يضع آخر حمولة مما حمله اليوم إليهم من السوق ، كل أنواع الأطعمة التي تكفي البيت شهرا ، أحضر الدقيق و الأرز و السكر و الزيت و السمن و حتى علب الكبريت و علب البسكويت التي تحبها سمر و الصابون الذي يحتاجه البيت و لحم كثير و خبز أيضا كل شيء أحضره الأب و حمله معه قاسم قال :
– إيه يا أولاد ، هذه هي آخر ليلة أبيتها معكم •• هل تحتاجون لشيء بعد ••
كانت الأم و الابنة تحملان المواد بين الصالة و المطبخ و الأم تقول :
– لما كل هذه الأغراض ، هل ستنتهي الدنيا فلن نجد قوت يومنا ، أم هل سيتوقف العالم عن توفير الحاجيات ، ما كل هذا يا أبا قاسم ؟
و يتمتم الأب من بين غمامات رهبته المخفية :
– ستحتاجون هذه الأغراض ، لست أعرف متى سأتمكن من إرسال النقود إليكم ، لا أحد يعرف ظروف الغربة الجديدة ••
بعد ساعة كان الجميع حول سفرة العشاء ، و بدا أن الكل يزدرد طعامه إزدرادا فلا يستسيغه و لا يحس له طعما ، و خيم الصمت ، و بعد العشاء و فيما أكواب الشاي تدار على الجميع قال الأب :
– ريم و قاسم ، أريد منكما عهودا و مواثيق ، و أريد صـــدقا و مســــئولية ، و أريد صبرا و طريقا مستقيما لا يصيبه العوج لأي سبب كان ، فهل أجد ما أريد لديكم ؟
أخفت ريم وجهها خلف جرم أمها و لم تنطق ، في الواقع كانت جدا مقلة في الكلام في الأيام الأخيرة فيما تحدث قاسم كرجل قال :
– لك ما تريد و أكثر يا أبي •• أنت تسافر و قد تركت رجلا هنا بين أهلك ، لا تخف ، نحن نقدر تماما غربتك من أجلنا و لن تسمع عنـــا أو ترى إلا كل ما يريحك و يطــــمئن بــالك و يشعرك إنك لم تكن مخطئا حين اعتمدت علينا في إدارة شؤون حياتنا بدونك و إلى وقت قصير فقط إن شاء الله ••
– بارك الله فيك يا بني ، و أنت يا ريم ما هو ردك ••؟
حاول أن يرى وجهها ، لأول مرة منذ أسبوع على الأقل يبحث عن وجهها ، كانت تتعمد ألا يراها ، و كان يتعمد ألا يراها ، كان يشعر أن حبل موصول من حديث لا ينقطع موجود بين قلبيهما و أن الحديث مهما بدا مهما لا يعني شيئا ، كان واثقا أشد الثقة فيها و يعلم كم تتعذب و يعلم أنها تحمل ضميرها الغض مسؤولية غربته القادمة ، لذا آثر و آثرت الصمت ، لكنه الليلة كان مصرا على قطع هذا الصمت ، على اخراج الكلام من قلب قلبها و من قلب قلبه رفقا بها و بنفسه ، لذا أصر على مواجهتها ، أصر على أن تقابل عيونه عيونها و أن يتحدثا الحديث الذي منعاه منذ قرار السفر ، ظل مـــركزا نظره باتجــــاههـا و ظلت لفترة قليلة مختفية وراء أمها ، إلا أنها لمست نظراته عليها و شعرت بها حريقا في جسدها و نداءً ملء وجدانها و لابد أن تلبيه ، أخرجت نفـــسها من حيز الخفاء المتعمد و تطلعت إلى أبيها ، كانت عيونها مغسولة و حزينة و مليئة بالكلام ، ظلت صامتة ، حاولت أن تشد الكلام من أعماقها لكن الحروف كانت عصية ، غريبة لا تحمل معنى ، حركت فكيها و بدا أن همهمة خرجت منها و لكن صوتا لم يسمعه أحد منها •• تقلصت ملامحها و حرقها أنفها فكزت على شفتيها و انــدفــــع قلبها في دقــات ســـريعة متـهورة و عنيفة و لم تشعر بنفسها إلا و عبراتها تطارد بعضها بعضا في سباق محموم ، التفتت إليها الأم ، نظرت إلى الأب ، دعته أن يفعل شيئا بعيونها و استـــجاب الأب ، تنــحت الأم و جلس الأب بجوارها ، مد يده إلى خدودها ، مسح سيل الدموع و أسكن رأسها كتفه ، ربت عليها و قالت هي بصوت عال ، عال أكثر مما توقعت :
– لا تسافر يا أبي ، أتوسل إليك ••
و انخرطت في بكاء عنيف عنيف ، بكاء ظل حبيس صدرها الشفاف طيلة أسبوع ، شعرت أن أوردتها منتفخة حد الانفجار و رأسها ثقيل لا تكاد تطيقه و عيونها سكنتها النار حتى أصبحت عروقها الحمراء تحمل لسعات من لهب كلما اغمضتهما تزيح دمعا •• كان قلب المسكينة ينفطر ، كانت تشعر أنها تقتلع من جذورها ، أنها تطيح في فضاء ليس تحته أرض و لا فوقه سماء ، و الجميع تفهم ، الجميع صمت احتراما لنحيبها العالي ، حتى أبوها الذي كان يشعر بها فوق كتفيه كزلزال يتحرك و أمطار تتساقط ، كان صامتا ، لم يربت عليها لئلا يجرح حزنها •• صمت الجميع حتى انتهت من بكائها و ابتعدت عن كتف أبيها و قالت بهدوء يحمل بقايا نشيج ••:
– آسفة ••
قال الأب و هو يغالب ضعفه و يحاول أن يتناسى تماما ما حدث و يجرهم جميعا إلى جو آخر :
– سوف تكون جدة مرفأي الأول هناك ، و منها سوف يتم توزيعنا إن شاء الله على أعمال البناء ، و أسأل الله أن يكون نصيبي في أعمال توسعة الحرم الشريف بمكة ، ادعو لي أن يحقق الله طلبي ••
صمت و هو يستمع إلى دعائهم له و نظر إلى ريم و هي تلتقط أنفاسها بصعوبة و تقول :
– إن شاء الله ستذهب هناك يا أبي ••
ابتسم الأب و ربت كتفها و قال :
– فرصة لأداء فريضة الحج أيضا عسى ربي يتقبلها و يعينني على أدائها و أداء أعمالي ، فإذا كان العام التالي حججت عن أبي يرحمه الله ••
شهقت ريم و قالت :
– العام التالي يا أبي ؟
ابتسم بهدوء و هو يقول :
– لست ذاهبا في نزهة يا حبة القلب •• العمل عمل و لا أدري متى ينتهي أو كيف سيسير فلا تفزعي ، بامكاني الحضور في الأجازات ، عادي جدا مثل كل رجال شارعنا المسافرين ، و عندما أعود في الأجازات سوف أكون محملا بالهدايا التي تريدون و الذهب لأمكم هذه المسكينة التي لم ترتد إلا هذه الأسورة منذ تزوجنا ••
ابتسمت سميحة بوهن و تمتمت بدعاء ، لم تكن تريد خلق حوار أو المشاركة فيه ، فالليلة ملك الأولاد و أبيهم ، أما هي فيكفيها ساعة خلوة مع زوجها تبثه خلالها لواعج قلبها ، بدون أن يسمع أولادها ما تقول و لا يشعر بحزنها هذا الـكــــم من الملتاعين ، هدهدت سمر و هي تغالب النوم على حجرها ، و عندما مد الأب يده ليحملها أعانته فلما استقرت في حضنه مال عليها و قبلها و أكمل :
– و لسمر أيضا بعض الذهب ، و لك بالطبع يا ريم ، أما أنت يا قاسم فعندما أعود سيكون نصيبك سيارة ، سوف تكون كبرت يا ولد ، كبرت و طولت أكثر و صـــار لابد للــطبيب او المهندس قاسم من سيارة يذهب بها إلى كليته و يعود ، أليس كذلك ؟
التفت الأولاد حول أبيهم ، يوزع عليهم لمساته و مداعباته ووعوده الجميلة لهم ، تشرق دموعهم لحظة و تصدح ضحكاتهم لحــــظة و بين هــــذه و تلــك يربت الأب الحاني الظـــهور و يقرص الخدود و يشير بدعابة إلى هذا و إلى هذه و يمسح دمعة هنا و يأمن على دعوة هناك ، يضحك و يضحك ، و الألم في قلبه يعتصره و يود لو يفتح قلبه فيودع هؤلاء فيه و يصحبهم معه أينما حل ، أو راح ••
***
عندما جلس الأب آخر الليل على طرف فراشه ، كانت قدماه ترتجفان و يداه ترتعشان ، ارتجافة قلق و ارتعاشة خوف ، كان يحاول اسكـــاتهم عن الحركة فتظاهر بانه يدفء يديه و أخذ يفركهما ، كانت سميحة تراقبه بصمت و عند لحظـــة فاصلة وضعت يدها على يده و احتوتهما و قالت بحزم :
– كفى لقد أدميتهما ••
استكانت كفوفه بين راحتيها و هدأ قليلا ، ابتسم و قال :
– يجب المحافظة عليهما ، سأحتاجهما كثيرا هناك ، أليس كذلك ؟
أومأت برأسها مبتسمة و ظلت تدلكهما برفق و قالت :
– كان لحديثك مع الأولاد الليلة وقع السحر في نفوسهم ، حتى ريم التي لم تكف عن البكاء منذ اتخذت قرارك ، كانت تضحك و تحدثت آخر الليل بانطلاق كعادتها ••
سحب الأب يديه من يديها بهدوء و ربت على كفيها و نهض ففتح شباك الغرفة ، تطلع منه ، كان كل شيء هادئا في الخارج ، و كان الصمت يلف المكان متضافرا مع الليل ، على أن النجوم كانت تلمع على البعد كأنها توجه تحية ، أخذ جهاد نفسا عميقا و قال دون ان يستدير :
– هل نسيت شيئا يا سميحة ؟ لم يعد هناك وقت ، و أعتقد أنني نسيت إحضار بعض الأغراض ••
نهضت سميحة فوقفت بجواره بعد أن أفسح لها مكانا ، أطلت على السماء و لم تتكلم ، قال :
– منذ زمن بعيد لم نقف هنا لنراقب السماء ، تبدو مألوفة رغم أننا هجرناها زمنا طويلا ••حتى هذه النجوم التي تلمع ، أشعر أنها تعبر عن فرحتها بعودتنا إليها ، أليس كذلك ؟
تنهدت سميحة و قالت بصوت هاديء :
– منذ ولدت ريم لم تجمعنا هذه النافذة ، بعد زواجنا بعشرة شهور فقط ، انشغلنا بعدها بالتفاصيل الصغيرة للحياة حتى ابتلعتنا الدوامة و أصبح الوقوف هنا بعضا من بعض الترف الذي لا تحتمله حياتنا ••
زحف بأصابعه حتى لامس أصابعها قبض عليهم و قبضت عليه ، قال :
– عانيت كثيرا يا سميحة ، لم تكــــن حيــاتنا نزهة كما تمنيت ، كانت كمـــا تـــوقع أبوك و اكثر ، رحلة سفر متعبة ، مع رجل غريب ••
التفتت إليه سميحة بسرعة ، وضعت يدها على فمه قبل أن يسترسل ، قالت :
– لا تقلها يا أبا العيال ، حياتنا كانت شاقة لكنها لم تكن مستحيلة ، لم تكن سيئة ، الحب و التفاهم و الثقة التي جمعتنا جعلت من حياتنا جنة رغم الفقر و سعادة رغم تبعات الحياة ، لا أعتقد أنني نادمة على يوم واحد قضيته في كنفك و لو عاد بي الزمن فلن أقبل بغير ما كنت فيه معك ••
أمسك كفها و قبلها بهدوء و عادا مجدداً يراقبان السماء معا ••
كانت سميحة تريده أن يتكلم ، تريد أن تختزن في ذاكرتها الكثير الكثير من حديثه لتسترجعها فيما هو قادم من أيامها ، لكنها أيضا كانت تريده هكذا صامتا يحتضن كفها بكفه و قلبها بقلبه •• كانت أيضا تريد أن تقول الكثير ، كانت تريد أن توصه على نفسه ، تخبره أنها قلقه على صحته ، تسأله أن يبعث لها كثيرا ، لكنها لم تقل ، اكتفت بالضغط على كفه ••
و كان يريد أن يقول الكثير ، و يسمع منها الكثير ، كان يعرف أنه رجل لا يجيد التعبير و لا يعرف كيف ينمق كلامه بحيث يخلق عبارات ملتهبة تعبر عما يجيش بداخله من مشاعر ، كانت مشاكلهم في بداية الزواج تصب كلها في عجزه عن الكلام و حاجتها له ، كان يقول لها الرجــال أفعــــال لا أقوال ، و مــــع مـــرور الزمن اعتادت على صمته و فعله و أحبت هذا و أصبحت عبارات الحب النادرة شهـــادات مطرزة يمنحــها لها فلا تنســــاها و يقولها أحيانا عفو الخاطر فتطير بها فرحا فيهز رأسه عجبا و يقول :
– أنتن ناقصات عقل و دين ••
شد على يدها و قال :
– سميحة ••
التفتت اليه ، قال لعيونها الجميلة :
– أقسم بالله العظيم أني أحبك •• أحبك جدا ••
اجتاحها الخجل و و كأنها عروس تسمع عبارة حب من زوجها ليلة الزفاف ، نكست عيونها و إن ضغطت على كفه ، قال :
– لا أحد يعرف الحياة من الموت ، و أريدك أن تسامحيني على أية غلطة أكون قد أخطأتها في حقك يوما متعمدا أو غير متعمد ، فهل تسامحيني ؟
فتحت عيونها دهشة قالت بصوت كاد أن يصبح عاليا في هدأة الليل :
– جهاد •• لماذا تقول هذا الكلام ، إنه كلام مودع ••• أسامحك ؟ ، علام أسامحك و قد كنت لي و ستظل نعم الزوج و الأب و الحبيب ، أرجوك يا جهاد لا داعي لهذا الكلام الآن إنك توجع قلبي ••
شدها من يدها برفق و هو يبتسم و قال :
– سلامة قلبك يا غالية •• اسمعي يا سميحة سأعطيك شيئا فاحفظيه حتى يحين موعده ••
– أي شيء ؟
فتح الدولاب و أخرج حقيبة قديمة مغلقة طالما رافقتهم و كان يضع فيها أوراقا كثيرة هامة ، شهادات ميلاد و تطعيم و قصاصات صحف قديمة و وثائق سفر و غير ذلك ، فتحها بهدوء و من تحت قاعدتها الجلدية أخرج ملفا أصفر قديما و قال لزوجته :
– في هذا الملف سوف يجد أبناؤنا دوما الإجابة عن أسئلة ما زالت لم تؤرقهم و لم تعن لهم شيئا ، لكنني أكيد أنهم سوف يطرحونها في يوم من الأيام ، فيه شجرة العائلة في فلسطين ، كل ما حوته ذاكرتي عن أهلي و أقربائي و أصدقائي هناك ، عناوينهم كما كانت حين غادرت فلسطين و عناوينهم التي وصلتني في سنين غربتي ، كنت أخاف إذا أنا نسيت هذه الأسماء و العناوين أن أفقد وطني إلى الأبد لذا احتفظت بكل ما وقعت عليه من عناوين في كل بقاع الأرض ، هنا أسماء أشخاص يسكنون كل قارات العالم ، سيجد أولادي حين يسألون أن اقرباءهم كثر و منتشرون و لدينا أغنياء أيضا في العائلة ، و هذه يا سميحة •• أتعرفين ما هذه ••؟
أخرج من الملف ورقة صفراء كانت تقبع خلف كل الأوراق كانت يده تهتز و هو يمسك بها ، تطلعت فيها سميحة فلم تستطع فهم ما فيها فهزت رأسها فقال :
– هذه ورقة رسمية من حكومة عموم فلسطين مثبوت فيها أن البيت الذي كنت أسكنه في غزة هو ملكنا ، ملك أبي يرحمه الله ، هذه الحجة حصلت عليها ليلة مغادرة أبي لنا متوجها إلى الأردن ، في تلك الليلة أعطاها لي أبي و طلب مني المحافظة عليها فهي الإثبات الوحيد لحقي و إخوتي في البيت ، كنت أنا الوحيد معه تلك الليلة ، و عندما تفرقنا أنا و إخوتي ظلت معي و لم أنتبه إلى أنني أخذتها إلا عندما وصلت إلى مصر منتصف عام 46 ، لا أدري ما قيمتها الآن و لكنها هامة جدا ، لذا حافظي عليها و أعطيها إلى قاسم عندما يكبر ليحافظ عليها بدوره ••
همست سميحة بجزع :
– و لماذا لا تبقها في حقيبتك و تعطها لولدنا عندما يكبر بنفسك يا أبا العيال ؟
أعاد وضع الملف في الحقيبة بحرص و أغلقها و أعادها إلى مكانها و هو يقول :
– من ذا الذي يعرف الحياة من الموت يا أم العيال ••
أمسكته من كتفيه هزته صاحت :
– إنك تميتني رعبا يا جهاد ، ألا تدرك معى ما تقول في ليلة كهذه ، سوف تغيب الوجوه بعد ساعات و لن يبقى لي إلا خوفي و جزعي من مستقبل لا أعرف عنه شيئا ، ألا تفهم ••؟
نهض و أخذ بيدها مهدئا و قال:
– أفهم تماما ما تشعرين به ، إنه نفس شعوري قبل عشرين عاما عندما أعطاني أبي هذه الحجة ، شعرت بالفقد و شعرت باليتم و شعرت أنني أريد أن أفتح عيوني و قلبي لأضع الرجل فلا أسمح لغربة أن تفرقنا و لا لسفر أن يشتتنـــا ، لكنه سافر ، و أنا ســــأسافر ، و في الغربة مات ، و انا ••
– لا ••
لم يكن من معنى لأي شيء في هذه اللحظة ، اللحظة التي يجب أن يواجه المرء فيها مصيره و يتحسب لأي ظرف طاريء و يقدم بنفسه تأبين ذاته على مرأى و مسمع ممن يحب ، كان هذا قدر جهاد و سلمه في تلك الليلة طوعا إلى سميحة ••
حياة لابد أن تمضي ، و فراق لابد أن يكون ، و لا يملك الإنسان مهما كان قويا أن يقف في وجه مصير محتوم ، هكذا شعر جهاد ، و شعرت سميحة و هناك على بعد خطوات منهما كانت أيضا ريم ، تشعر بكل شيء و تعرف أن عهودا أخذها أبوهم منهم كانت بمثابة وثيقة سفر للاجئين منحتها لهم سلطة لا ينتمون إليها ليحققوا بها قدرا لا يريدونه لأنفسهم ••
و عندما نامت عيون كل من في البيت ، كان هناك عددا من القلوب الواجفة ، تردد أدعية كثيرة تختلط مع بعضها صاعدة إلى رب قدير عله يحفظ هذه الأسرة من ضياع يدق الباب و غربة ترعى في الأخضر و اليابس بلا تفريق •
مشاركة منتدى
18 كانون الثاني (يناير) 2004, 05:02, بقلم amelhanfey
من جمل ماقرأت من احاسيس منذ اكتر من عشر سنوات ارجو اكمال القصه بعد الجزء الرابع
واشكرك مرة اخري انك اخرجتيني من عالم العمل والارهاق لقد استرحت بعض الشسء وكاني صبي بعد ماقرات هذه القصه
8 آذار (مارس) 2014, 11:02
رااااائع جدا