الجمعة ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم رامز محيي الدين علي

سحر الطفولة

أجمل فصول السنة الربيع، وأبهى مراحل العمر الطفولة.. لما فيها من براءة وعفوية وصدق.. فهي منبع الحياة الصافي الذي يرفدها بالعطاء.. فالطفولة هي البراعم التي سوف تتفق عنها الأغصان والأوراق، وتتحلى بالزهور، ثم تتوج بالثمار الحبلى بالبذار.. وهكذا تستمر الحياة..

ولدي.. أيها البرعم الذي لمّا يتفتح.. أراك عالما من السحر.. أحار في فك رموزه.. ويعجزني أن أفهم كل حركة ينتفض بها جسدك الملائكي.. ويحار فهمي في الولوج إلى عالمك السحري المفعم بالخيال المنتشي بالأسرار المفروش بالأحلام..

لا أدري أيّ شعور يأسرني فيكبلني حينما تناغي وتناجي بكلمة ( بابا ).. فتحلق بي من الأرض إلى عنان السماء.. كلمة تحطم فيّ كل بذور الأنانية والاستئثار.. كلمة تضرب على أوتار فؤادي، فتتراقص لوقعها أوصالي.. كلمة تطير بي إلى ذلك الماضي النائي، فتأسر لبي وتختطف قلبي، وتحط بي في ذلك العالم الطفولي البريء.. فتترقرق الدموع في عينيّ وتغرورقان، ويجلدني الحنين والذكريات، ويشرئبّ كياني إجلالا لذلك العالم الملائكي الذي يتمنى كل مخلوق بشري أن يرتمي في أحضانه طفلا صغيرا؛ لأنه عالم آخر من السحر والجمال.. من الصفاء والنقاء.. من البراءة والوداعة.. من الحب والحنان والتسامح والرحمة.. من الصدق والنصاعة والطهارة..

ولدي الحبيب..

لا أدري ماذا أقول؟! وأنت الذي ملأت حياتي بهجة ومسرة، ووهبتها صبرا وسلوانا.. ومنحتها إرادة وهمة وسخاء.. وشحنتها عزيمة وأملا وإصرارا.. وأنت الذي شرعت أبواب المستقبل نصب عيني على مصراعيها، وجعلتني أرسم أهدافي بعد أن تاه مركبي في بحار الأحلام والآمال..
أنت الذي أوقدت في ذاتي جذوة الحياة، وأشعلت في كياني أوار العزيمة وبركان الإرادة.. وأنت الذي أيقظت في نفسي مشاعر الحب بعد أن تخبطت في غياهب الظلمات.. وأنت الذي أنهضت في جوارحي كل مشاعري الإنسانية النبيلة..

فلذة كبدي..

لا أريدك أن تبكي.. رغم أن البكاء لغة مليئة بالألغاز.. ورغم أن البكاء معجم تتهافت فيه المعاني، فلا يفمها إلا الأفذاذ وأولو الألباب..

لا تبك يا ولدي؛ لأنك تجعلني أبكي مع الحياة من الأعماق.. لأن نحيبك يذكرني بدموع أطفال العالم من الجوع والألم والقهر والظلم والحرمان والتشرد..

لا تبك يا بني؛ لأن دموعك تحطمني حينما أرى أقرانك وأترابك يذبحون بسكاكين الحقد والطغيان، وتقطع رؤوسهم بالفؤوس، ويقصفون بالبراميل المتفجرة وكل أنواع أسلحة الخراب والدمار، وينتشلون أشلاء من تحت الركام..

لا تبك يا عصفوري الصغير.. لأن بكاءك يلطخ عيني بدماء الأبرياء التي تسيل في الشوارع دون رحمة أو شفقة أو أدنى إحساس حيواني؛ لأن الحيوانات والوحوش المفترسة تأبى ما يفعله المجرمون من خنازير التاريخ ومغول الهمجية وتتار الدمار ووحوش البربرية..

لا تبك يا بلبلي الحزين.. لأن دموعك تنقلني إلى مخيمات اللاجئين، فأرى الطفولة المعذبة المنكوبة المحرومة من كل حقوق الأطفال في العالم.. وأرى ذويهم يحتسون كؤوس الألم والمرارة والخيبة.. والعالم يتفرج ومنظمات حقوق الإنسان تدين وتشجب بعد صمت طويل وخذلان وضحالة في المروءة والإحساس بالضمير وانعدام الشعور بالإنسانية..

لا تبك أيها الملاك الجميل.. لأن بكاءك يذكرني بالمدارس التي قصفت ودمرت عن بكرة أبيها.. وتحول الكثير منها إلى ملاجئ للفارين من القتل والدمار.. كما تحول بعضها إلى ثكنات عسكرية تأوي القتلة والمجرمين والسفاحين من الوحوش التي لم يمسخها الله قرودا وخنازير نتنة..

لا تذرف الدموع يا ولدي فبكاؤك يرسم في عينيّ كل أشكال شقاء الطفولة وحرمانها وقتلها قبل تولد إلى المهد.. لأن العالم الذي نعيش فيه أبله مخمور منعدم الإحساس بإنسانيته.. على نقيض المجتمع الحيواني الذي يحس ويتألم ويحزن إذا ما حلت ببعض أفراده كارثة أو نزلت بهم مصيبة.. ويفرح ويغني إذا ما أنعم الله عليه بنعمة الخير، فيعيش بسلام دون استبداد أوطغيان؛ لأن كل فرد منهم مؤمن بنصيبه من القوت الذي يضمن له البقاء، ولا يمكن أن يفكر باحتكار أرزاق الآخرين أو يقتلهم ويبيدهم من أجل أن يصبح سيدا عليهم..

لا تبك يا فلذة كبدي.. لأن بكاءك يبكيني على هذا العالم الخالي من العدل والرحمة والإنسانية.. هذا العالم الذي يحكمه طغاة ومستبدون وحمقى وبلهاء وتجار وسماسرة حروب.. ويديره اقتصاديا مافيات مارقة على كل الأعراف والمواثيق.. وحكماؤه المربون حاخامات وعمامات بيضاء وحمراء وسوداء ومزركشة.. وأبطاله أسود ونمور يحملون أرفع الأوسمة ويقودون أحدث أنواع الأسلحة ويختبرون بطولاتهم في تدمير المنازل الآهلة بالنساء والأطفال والشيوخ..

ولدي الغالي..

ابتسم واضحك والعب وكسر وحطم وقل للعالم الذي تراه لا.. لا .. وألف لا.. اكتب على الجدران ما تحلم به ومزق صور الأباطرة الذين يدغدغون أحلام شعوبهم بالشعارات والأسفار والآيات.. وحطم التماثيل التي تشوه براءة لعبك الطفولية.. ومزق الرايات المزركشة بالألوان التي لا تحمل معنى حقيقيا لألوانها.. ومزق الكتب والدفاتر الصفراء التي تعيدك آلاف الأحوال إلى الوراء.. وتجعل من فكرك ببغاء تردد ما قاله الأباطرة الموهومون أو آلهة المجد والقوة.. وتنعب نعيب الغراب ما خطه حكماء العالم البلهاء من سفرويه إلى حفظويه إلى نفطويه إلى بشرويه إلى قمويه إلى فقهويه إلى شعنويه إلى مهدويه.. إلى.. إلى أن تقوم الساعة ويظهر الحق ويزهق الباطل..

ولدي العزيز..

كن متمردا ولا تكن خانعا أو إمّعة.. قل لا لمن يريد مصادرة أفكارك وخيالاتك وأحلامك.. وقل لا لمن يريد أن يصادر ألعابك ويمنحك تماثيل وأقنعة لا تمثل حرية فكرك وميولك وأهدافك.. وقل نعم لكل من يريد أن يوجهك نحو صياغة ذاتك الإنسانية الخيرة المتسامحة المستقلة الفاعلة المنفعلة الحرة الأبية الطامحة المتطلعة نحو الإنسانية العظيمة بقيمها وأخلاقها وأعرافها وحبها وسلامها وعدلها وتسامحها ورفعتها وسموها..

قل لا حينما يجب أن تقال.. وقل نعم حينما تقتنع بنقائها وصفائها بعيدا عن المجاملة أو المخادعة أو الخوف.. ولكن إياك أن تغتر بنفسك يا ولدي فتنفج ريشك كالطاووس وتمد رقبتك كالزرافة.. لأن الغرور عواقبه وخيمة.. ولا تصعر خدك للناس كبرا وتيها، بل تواضع واخفض جناحك لوالديك وللناس.. وكن خلوقا مؤدبا، فإن المرء يقاس بمحامد الأخلاق ومجامل الآداب، ولا يقيّم بحسن المنظر والثراء بالملك والمال..

أريك أن تسمو إلى ذرا العلياء علما وذوقا وأخلاقا.. ولا أرضى أن تنحدر درجة واحدة نحو الهاوية من الرذيلة وسوء المطلع..

ولا تنس يا ولدي فضل أمك عليك.. فقد حملتك تسعة أشهر في أحشائها، وذاقت فيك الأمرين.. ولا تنس الدموع التي انهمرت على وجنتيها عندما أحست بألم يسري في كيانك، ولا تنس تلك الليالي التي وصلتها بنهاراتها سهرا وأرقا عليك.. لقد بذلت كل ما تملك، حتى تنشئك وتربيك.. فضحت بسعادتها وصحتها وأعصابها وبكل ما يعز عليها، حتى تسعدك وتحفظ أمنك وسلامتك..

ولا تنس يا بني فضلي عليك.. فأنا الذي أربيك وأعلمك.. وكم شاركت أمك أرقا وسهرا وحزنا عليك في تلك الليالي الحالكات.. ووصلت ليلي بنهاري سهرا وسعيا وعملا..

وهذا واجب مقدس عندي، لا منة فيه.. لأنك فلذة من كبدي، فالعصافير تسهر وتغدو وتروح من أجل أن تنمو فراخها وتكبر، وكذلك جميع ما في الكون من مخلوقات! فكيف بنا – نحن البشر – نحس ونشعر ونفكر؟!

ولدي العزيز.. الحياة مدرسة فتعلم منها ما ينفعك.. وانأ بنفسك عن كل ما يضرك ويحرفك عن جادة الصواب.. واقرن القول بالعمل.. وصادق الوقت وحافظ عليه جدا وسعيا، يحافظ عليك إنسانا عاملا عاقلا نافعا لنفسه وأمته ووطنه وعالمه..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى