سر ما عرفه أحد
أشعل سيجارة في محاولة فاشلة لمراوغة القلق الذي يجتاحه. مد بصره على طول الشارع يمينا ثم يسارا عله يرى جلبابها الأسود. عاد إليه بصره خاسئا فتمتم بامتعاض: ـ متى..متى ستأتي !!! .
رواد المقهى المجاور للرصيف يحملقون بعيون تكاد تخرج من محاجرها في باقة الورود الحمراء التي يحملها في يده . ابتسامة السخرية لا تبرح شفاههم . حاول أن يتحاشى نظراتهم فخطى خطوتين ذهابا وإيابا وكأنه نمر في قفص . تأفف : ـ أبناء الزلط هؤلاء الملاعين ! لا شغل لهم سوى مراقبة عباد الله . بدأ اليأس يتسرب إلى أعماقه. لقد طال الانتظار . ساعة كاملة . لا شك أن في الأمر حادث. هل سخرت منه يا ترى ؟! طرد الفكرة من رأسه متذكرا الهمسات المعسولة التي تبادله في الماسنجر و كل ذاك الحب الملتهب الذي تتركه في علبته الإلكترونية .
سرح بذهنه يفكر في الجهد الذي بذله منذ أن التقى بالسيدة (س )على الخط . جُهد ساعتين كاملتين يقضيهما كل يوم في مقهى الانترنيت مخادعا زوجته مــدّعيا المواظبة على إقامة صلاة المغرب جماعة في المسجد . المهم لقد قـُـبلت صلاته وخشوعه واستجابت السيدة (س) أخيرا مستسلمة و موافقة على إبرام هذا اللقاء . تم الاتفاق على أن ترتدي جلبابا أسودا و أن يحمل باقة ورود حمراء ، هكذا سيتمكن كلاهما من معرفة الآخر، و من كشف الغطاء عن حقيقة هويتهما وربما عن أشياء أخرى فيما بعد.
نظر إلى ساعته فعاد إليه توتره . نفث في السماء دخان سيجارته الثالثة ثم قام يهندم قميصه وسرواله وربطة عنقه المزركشة . ما كان لوقوفه ساعة وربع أمام المقهى على حالته تلك أن يمر بدون أن يأخذ نصيبه من تهكمات هؤلاء الشباب المسترخون بكسل على الكراسي . إنهم يتفننون في اقتناص المارة بمقل تضاهي فعاليتها أبراج المراقبة والترصد . لذا أنزلوه طبقا شهيا من السخرية على موائدهم ، فقام أحدهم يدندن مستهزئا بمقطع أغنية شعبية مراكشية ويصفق بيديه بينما رفاقه يقهقهون ويتغامزون . مقطع الأغنية يثير في داخله زوبعة من الانزعاج والغضب . علم بأنه المقصود بالقهقهات اللعينة، فزاد توتره . نفذ صبره الآن ولم يعد يقوى على الانتظار . فكر في تلقين هؤلاء الملاعين درسا في الأخلاق بتسديد ركلة حمارية لهذا المغني الوقح . امتص غضبه فعدل عن الفكرة .ـ لقد لعب الكيف برؤوسهم ولا شك . لا داعي للفضائح . شرد ذهنه قليلا وهو يفكر في الانصراف . قفزت فكرة الماسنجر إلى رأسه فحسم تردده بحركات عصبية من قدميه قام يشق بهما الطريق في اتجاه مقهى الأنترنيت.
جلس أمام شاشة أول حاسوب . فتح الماسنجر ، وفي الزاوية اليمنى من أعلى الشاشة لمح اسم السيدة (س ) على الخط يرسل لمعانا برتقاليا . لعلها تناديه . نقر على الأزرار بسرعة فائقة :
ـ آه منك يا حبيبتي ..لم تعذبني هكذا ؟! لقد انتظرتك على أحر من الجمر ساعة كاملة بدقائقها وثوانيها وبدقات قلبي كلها معها ..أيهون عنك ألمي وعذابي إلى هذا الحد ؟!!
نظرت إلى المنبه المعلق على الحائط لتتأكد بأن موعد قدوم الزوج لم يحن بعد. أقفلت باب الغرفة بالمفتاح مرتين ثم سحبت الكرسي وأحكمت جلستها أمام الحاسوب . كانت تعلم بأنه سيدخل لا محالة على الخط . كيف يمكن له ولها مقاومة هذا النداء المسحوق من الرغبة في ممارسة هواية حبهما المحرم !. لقد نخر الملل حياتهما الزوجية منذ زمان ، فأصبحت هذه الشاشة ملجئ عاطفتهما المفقودة ، يؤمانه كل عشية هروبا من مغارة الصمت ، تلك التي يعيش بداخلها كل منهما مع زوجه . هنا فقط ومعه فقط ، تكاد تبوح بكل شيء . تفك الأسلاك الإلكترونية عقدة لسانهما فينطلقان في سرد الحكايات ..تداعبه ويداعبها .. تحدثه عن أحلامها فيحدثها عن آماله ..تحكي له تعاستها مع زوجها البارد كالجليد ويحكي لها بؤسه مع زوجته الكئيبة الخرساء .. هكذا نما الحب المستحيل وترعرع في حين غفلة كـنبات وحشي لا يستقر على حال وكان و لا بد وأن ينتهي هذا الحب يوما ما بشيء ما ، فعزما على اتخاذ القرار.
وفى بعهده فجاء بباقة وروده الحمراء ، لكنها لم توفي بعهدها فغابت بجلبابها الأسود . هاهو الآن أمامها يبكي على الشاشة وهاهي تنقر بأناملها اللينة على الأزرار تهدئ من روعه :
ـ أنا آسفة حبيبي. لم يكن قرارنا مدروسا بما فيه الكفاية . أقصد مكان موعدنا لم يكن مناسبا إطلاقا .. إنه الشارع الذي يسلكه زوجي كل يوم حين يعود إلى البيت ، وهو مليء بالمقاهي وبعيون النمامين والجواسيس . ما كان علينا أن نختار ذاك المكان أبدا . .. علينا أن نأخذ كامل حذرنا لتحصين حبنا..هل فهمت حبيبي ؟!
نزلت كلمة حبيبي على قلبه بردا وسلاما فبددت فجـأة كل الهواجس التي نهشته. اعترف بأنها أكثر منه اتزانا وأقل حماقة . فكر لحظة وهو يحك جبهته ويخاطب نفسه:
ـ ماذا لو كان زوجها أحد رواد تلك المقهى وتم اللقاء على مرأى منه .. ؟! مصيبة ما كانت ستحدث ولاشك ..! استعرض في مخيلته هذا السيناريو المحتمل وتمتم: ـ آه من طيشي ..!!.. أغنية مراكشية على كل حال أرحم من مصارعة يابانية ..
عاد الهدوء إلى نفسه رويدا رويدا وكتب :
ـ صدقت حبيبتي . ما أعقلك ! ..لقد كنت اليوم بالفعل مضغة سائغة في أفواه النمامين ..لقد انكشف سري بباقة الورود الحمراء التي أحضرت لك فأوحت لأجلاف المقاهي بترديد الأغاني للنيل مني ..
رفعت حاجب عينها اليمنى مستغربة :ـ ماذا جرى ؟..عن أي الأغاني تتحدث ؟!
ـ أغنية حميد الزاهير << أنا عندي ميعـــــاد ..هذا سر ما عرفه أحد >> كان ينهق بها صعاليك المقهى ساخرين مني ...
انفلتت ضحكة من أنفها بغتة لتتحول إلى قهقهة رقيقة رددت صداها جدران الغرفة المغلقة . كتبت مبتسمة:
ـ آسفة حبيبي على الورود الحمراء فهي على كل حال ليست أجمل من كلامك ولا أطيب من رقة قلبك . ..كلامك يبعث في شراييني الحياة حتى حينما تكون غاضبا...
جاءت الكلمات من الطرف الآخر:
ـ لست غاضبا حبيبة قلبي..كل شيء يهون من أجلك ..إني أكاد أجن شوقا للقائك ..لم أعد أفرق بين الطالح والصالح . قولي بربك إلى متى سنظل كالأشباح لا نتعانق إلا بالأسماء المستعارة .. هل كتب في اللوح المحفوظ أن يبقى هذا الحاسوب عش حبنا الوحيد ؟!
ـ لا تتعجل يا نور قلبي ، ففي العجلة الندامة . أمهلني يوما واحدا أدبر فيه أمري برزانة ..سأخبرك غدا عن مكان مناسب بعيد عن البشر .. دعني الآن أكتفي باحتضان كلماتك و دعني أتلذذ بطعم حنانك قبل أن أقفز إليك لأرتمي في أحضانك ..ووو
و كان دبيب من الفخر والفحولة يدغدغ جسمه . استقام معتدلا في جلسته يدفع بالكرسي نحو الشاشة حتى كاد أنفه الأفطس يلامسها ، واستمرت الكلمات تتفجر من بين أصابعهما تسقي عطشهما كما لو كانت ينابيع ماء تروي رمال صحراء لا تشبع أبدا ....
...دق المنبه المعلق على الحائط معلنا موعد دخول الزوج فدقت هي الأخرى على صدرها نادبة تعلن انزعاجها ورعبها : < ـ ويـلي ! ويـلي !!..> . هـَـوت تكتب بارتباك وقلق:
ـ حبيبي . الى الغد . لا بد أن أتركك الآن .لك منى قبلاتي الحارة حرارة جسدي المشتاق إليك.
أطفـأت الحاسوب بسرعة . فتحت باب الغرفة بالمفتاح وانتفضت مهرولة إلى المطبخ لتهيئ طعام العشاء. أما هو فقد أدرك أن ساعة الغرام قد انتهت ، وما عليه إلا العودة إلى مغارة الصمت وانتظار الغد القريب . خرج من مقهى الانترنيت وباقة الورود الحمراء ما تزال في يده . التفت باحثا عن صندوق قمامة ، لكنه توقف فجأة وراح يتأمل باقة الورود الحمراء يقلبها بين يديه وكأنه يكتشف جمالها لأول مرة . خاطب نفسه :ـ حرام علي أن ألقي بهذه الورود الجميلة في القمامة . فكر قليلا وابتسم ابتسامة عريضة تحمل من الخبث والدهاء ما لا يخفى.
سمعت رنين المفتاح يدور في مزلاج الباب وخطوات تقترب ببطء من الصالون . ما كان
لدخول زوجها أن يأخذ منها أدنى اهتمام . هي تعلم بحكم التجربة بأنه سيلقي بجسمه على الأريكة في الصالون ، سيشعل التلفاز ليتجول بين القنوات وحينما سيملأ بطنه بالطعام سيقوم إلى الحاسوب ليبحر في الانترنيت ويتركها تسامر التلفاز.بعدها سيتعمد النوم مبكرا أو متأخرا هروبا من واجبات السرير . استمرت في إعداد الطعام بهدوء ولامبالاة . لكنها توقفت فجأة مندهشة لا تصدق مسامعها . لقد حدث ما لم يكن بالحسبان وما لم يخطر لها على بال . زوجها بناديها بكل دلال وعطف وحنان :
ـ حبيبتي تعالي...لقد أحضرت لك اليوم هدية .
الدموع تكاد تفيض من عينيها فرحا . أيعقل هذا ؟!! لقد كانت تعد كلمة طيبة واحدة تخرج من فاه بمثابة إنجاز تاريخي ، وهاهو الآن يناديها < حبيبتي > وبكل هذا الدلال، بل ويحمل لها هدية !. شعرت بندم يكاد يفتك بقلبها حينما تذكرت أنها قبل ربع ساعة فقط كانت تخونه على شاشة الحاسوب مع رجل لا تعلم عنه شيئا . زمـّت شفتيها وهي تعاتب نفسها : ـ لماذا أنا أنانية إلى هذا الحد ؟! هل أشعره بالحب حتى أطالبه بالمثل؟ أليس الحب أخذ وعطاء ؟! فماذا أعطيت لزوجي حتى آخذه منه ؟! .. ولماذا سأعقد لقاء مع ذاك الغريب .؟ أي شيطان لعين أملى عليّ هذا الفعل؟! .مسحت دموع الفرح من عينيها بعد أن رفعتهما هنيئة إلى الأعلى قائلة: ـ اللهم اجعلها توبة نصوح ثم خرجت من المطبخ وكلها سعادة ونشاط لاستقبال الزوج العزيز .
كان واقفا وسط الصالون وعلى وجهه ابتسامة بشوشة يتفحصها بنظرات لم تعهدها من قبل. اقترب منها شبرا ، وهمس لها بصوت ناعم وهو يخرج لها هدية دسها وراء ظهره :
ـ خذي حبيبتي .. هذه لك .
جمدت في مكانها فاغرة فمها تنظر إليه برهة وإلى الهدية أخرى بفزع. في عينيها دموع وحيرة ودهشة . أرادت أن تصيح ، أن تقول شيئا ولو تافها فلم تستطع. تلعثمت .
أغمضت جفونها ثم حبست أنفاسها و مدت يدها لتستلم الهدية . أمالت بوجهها عنه ثم عادت بخطوات ثقيلة جرتها بعناء إلى المطبخ . فتحت غطاء القمامة وألقت بباقة الورود الحمراء وهي تردد بحزن وأسى عميق :
هذا سر ما عرفه أحد.. هذا سر ما عرفه أحد..