الرحــــــــــــــــيل
كانت طائرة "بوينغ 747" قد حطــّــت بأجنحتها كنسر عملاق على الساحة العريضة لمطار طنجة، وكنت أنا من وراء زجاج قاعة الانتظار الغاصة بالمسافرين أنظر إليها وأرتجف.. سألت نفسي: تراني خائفا؟ تراني حائرا..!؟ حزينا..!؟ لم أفهم...! ربما كان كلًّ هذا، ربما كان شيئا غير هذا.. لست أدري...؟! ولكني كنت أرتجف.
تكدست كل ألوان الأفكار في جمجمتي وانكمشت كل أشكال الهواجس في ذاكرتي التي خلتها تحتضر. كانت كرة مرة كالحندل تكبر في حلقي وتكبر غازيّـة بمرارتها كل شرايين القلب الجاثم في صدري. وكما لو كنت أصارع كابوسا التفت من حولي أستنجد نسمة هواء وكأن كل هواء القاعة لم يسع رئتي، كانت رؤوس سوداء على أجسام نحيلة على الكراسي تتطاول بأعناق كالزرافات لتشاهد أكثر وأفضل هذه الأبهة الفرعونية لهذا الطائر الاصطناعي الغريب الذي توحي صورته بجبروت وقوة تشبه القدر.. هذا الطائر السحري العجيب الذي سيحملنا بكل آمالنا وآلامنا وبكل ما فينا إلى ما وراء البحر.... وما أدراك ما وراء البحر.
لم أكن بعد قد جمعت أشلاء أفكاري المتبعثرة المتناثرة هنا وهناك حينما هتفت أبواق المطار بصوت أنوثي رقيق: < نعلن لمسافرينا الكرام بأن الطائرة المتوجهة من طنجة إلى برشلونة ستقوم برحلتها 23 في ظرف ثلاثين دقيقة، وندعوكم للالتحاق بالشباك رقم 2 قصد الإجراءات الجمركية والأمنية. وشكرا>
انتصب المسافرون مهرولين وكأن القيامة قد قامت أو كأن حمى جماعية قد حلّت، نسي البعض حمل حقائبهم، والبعض توديع أقاربهم لكن الكل كان يضم الى صدره أو تحت إبطه كناشا أخضرا صغيرا كتب على دفّته بحروف عربية رونقية:
< جواز الســفر>. وكيف يعقل أن ينسى أو يهمل وهو سيد الأوراق وصك الغفران الذي تباع من أجله الأرض والبقرة مرة والكرامة والضمير مرات ومرات.. إنه ورقة التوت التي تغطي العورة.. إنه عصا موسى التي تشق البحر.. إنه الأمل، أول الأمل وآخر الأمل وكل الأمل.
تحسست جوانبي لأطمئن إن كانت حزمة النقود التي دسّها والدي في جيبي ما تزال في مكانها وتذكّرت كيف نطق بكلمته الأخيرة لي وهو يوّدعني بصوت يشبه الأنين يناهز عمقه عمق البحر وغموضه غموض السماء، كلمته التي لن يجِّف صداها في ذاكرتي ما حييت:<كن رجلا يا بني..>
جررت قدماي الثقيلتان والتحقــت بآخر الطابور الذي صفّ بغير انتظام رغم الصيحات العاصفيّة لشرطي الحراسة الذي كان يهدد بالضرب واللطم والركل محثا على الانضباط والنظام واحترام الأدوار.. مرّت عشرون دقيقة خلتها الدهر كله وأنا واقف وسط الضجيج والصراخ أنتظر دوري وأنا لا أشك ولو برهة في قدرة هذا الرجل على إخراج مقترحه لحيّز التطبيق. تقدّمت بخطوات خجولة قدّمت جوازي وفتحت حقيبتي للجمركي الذي لم يعرها أي اهتمام. نظر إليّ برهة وإلى الجواز أخرى ثم بادرني سائلا وهو يتابع قلب صفحات الجواز:<لماذا تسافر؟>
ارتعشت.. جمد لساني في فمي مندهشا من هذا السؤال المفاجئ الذي حُط علي كالصاعقة وتساءلت وأنا أعاتب نفسي كيف أنه لم يخطر ببالي الاستعداد للإجابة على مثل هذا السؤال. بحثت بسرعة عن جواب تشترط فيه بعض المعقولية، ولكن عبثا.. لقد كان السؤال أكبر مني وأكبر من أن يشمل على إجابة، لقد كان سؤالا جوهريا عميقا بدا لي وما يزال معضلة وإشكالية فلسفية.. فلو سألني لماذا تغامر؟ أو بالأحرى لماذا تقامر؟ لكان في سؤاله جوابي ولأراحني من تعب التنقيب.. ولكن أن يسألني لماذا أسافر وكأنه يوجه كلامه لسائح أمريكي أشقر يتأبط آلة التصوير وأوراق الدولار فهذا لا يعني إلا أنه يستهزئ بي.
ورغم أنني كنت أحتفظ بشهادة تسجيل في جامعة إسبانية كوثيقة بيضاء لأيام سوداء تكهّنتها تأتي، ورغم أن جوازي كان يشير إلى أنى ما أزال تلميذا إلا أني فضّلت أن يكون صمتي جوابا بدل اللّف والدوران والتوهم وتغطية الرأس بكشف العورة.. وكأنه قرأ في عيوني الحزينة رجائي في أن يعفيني من هذا السؤال البشع، ابتسم ابتسامة تحمل ألف لغز ولغز وهو يمد لي جوازي ويأمرني بالالتحاق بالطائرة.
كانت الطائرة تشق بنا السحاب وتملأ الرعب بدويها أرجاء السماء وكنت أنا أجلس بانضباط قبالة النافذة أحاول مغازلة نفسي الكئيبة بتأمل البحر الهائج الذي يزحف من تحتي في كل الجهات.. ولكنها كانت عنيدة كالصخر صامتة كالفراغ. وكيف يمكن أن تكون على غير هذه الحالة والحقيقة ستقف على قدميها لأول مرّة بعد أقل من ساعة حينما ستصارع مصيرها المحتوم وراء البحر.. مصيرها المختفي في غيابات المجهول.
عدت ألتمس الهدوء من عناء المخاض الفكري مسترخيا بكل ثقلي على المقعد المريح.كانت عيناي السابحة في شرود متجهتان نحو البحر الهائج الصاخب تنظر إلى اللاّشيء.. كانت صور كثير ة وعديدة تتوارى أمام أعيني وتتوارى..
.... كانت أمي تبكي وهي تهيأ حقيبة سفري وتتمتم بدعوات الخير والبركة والفلاح داعية الله أن يبعد عني أبناء السوء، وكنت أنا أصارع كل أنفاسي وأعصر بكل مرارة شهقات قلبي الذي كان يطبخ ويتبخر كالبركان. وحتى لا تخونني دموعي اختطفت بسرعة حقيبتي احتضنت أختي بين ذراعي برهة،انحنيت على يد أمي أقبلها.وخرجت.. .كنت أمشي منتصبا مستقيما لأوهم أمي التي تراقبني بعيون تسبح في الدموع على أني ذلك الجندي الواثق بالنصر.. غير ملتفت إلى الوراء ليس لأنه يعز علي أن أراها تبكي ولكن لكي لا أريها دموعي التي كانت تبلل بغزارة شفتاي..
وها أنا ذا أبكي. نعم أبكي وسط المسافرين بدون حرج ولا خجل، فليست دموعي دموعا فحسب وليست زفراتي زفراتا فحسب، إنما هي فصول مأساة وحكاية حرمان ومعاناة دستها ظروف ماضٍ بقيت فيه الأسئلة مختفيّة وبقي فيه الجرح والرمــــاد.