ما زلنا أحياء يا من قالوا: ماتوا
ـ قهوة بحليب من فضلك. تلك هي الجملة الوحيدة التي كنت أتقنها بالإسبانية. طأطـأت رأسي و نطقت بها على استحياء و خجل. نظر إليّ النادل نظرة متحجّرة ثم غاب عني مدة جاء بعدها يحمل فنجانا وضعه أمامي بامتعاض، وبعد أن طالبني بأداء ثمنه انصرف وراح يتأملني من وراء <الكونتوار> بتقزز وكأنه يتأمل طعاما كريها انتهت مدة صلاحيته. تقاسيم وجهه المتعجرفة ونظراته الجافة تكاد تنطق لتقول: الْعقْ قهوتك واغربْ من هنا.
وجدت نفسي أدخل إلى أغوار التاريخ، أستظهر خطبة طارق ابن زياد: اعلموا أنكم في هذه الجزيرة كالأيتام في مأدبة اللئام. حرّكت الملعقة على مهل في الفنجان و رأسي بأسى وتمتمت: ـ صدقت يا طارق صدقت.
لقد تعمد هذا النادل الوقح إهانتي فطالبني من دون الزبائن بتسديد الحساب مسبقا؟!. لعل شعري الأسود هو الذي أثار وقاحته و أكاد أجزم بأن حقده الدفين هذا له علاقة بالماضي وبخطبة طارق. لم أتمكن من ابتلاع هذا الذل فحدثتني نفسي بتحدي ما يطنطن في رأسه. أحكمت جلستي بانضباط على الكرسي ارتشف من أعلى شفتاي رشفة من الفنجان بحركة بورجوازية رشيقة. هندمت معطفي الذي يماشي <الموضة> و وضعت ساقا على ساق متعمدا إظهار حذائي الجديد عله يفهم بأنني لست من المرتزقة الضالة وإنما أنا أيضا لا باسْ عليّ.
خابت الخطة. ما يزال هذا النادل النذل يرجمني بنظراته الشرسة.
تبددت كل هذه الهواجس فجأة حينما بدأت سيول من هواجس أخرى أشد سحقا تجرفني إليها جرفا. سؤال كالكابوس خرج من داخلي و وقف يصرخ في وجهي كأسد جائع: ـ ما ذا أفعل هنا في هذه المدينة؟ جئت أبحث عن مستقبلي، هكذا أجبت نفسي. كيف؟! لا أدري. أين ستنام؟ لا أدري. بماذا ستقتات؟ لا أدري.. لا أدري.. لا أدري... لا
فماذا أدري إذا.؟! انفجرت زفرة ملتهبة في الأعماق وتمتمت بحزن:ـ أدري أنني أعيش مخاض يومي الأول في عالم الغربة. وأدري أنني أصبحت مضغة سائغة في أفواه الأقدار الشرسة.
كما في التيمم مسحت بوجهي أبعد ما علق به من آثار التعب. جسدي منهار و منهك من وعثاء سفر دام ليلة وصباحين. لقد قضيت ليلة البارحة في قطار جرني من أقصى شمال إسبانيا إلى أقصى غربها. ولم يكن من ركوبي للقطار من هدف يرجى عدى قضاء أكبر وقت ممكن في مقصورته الدافئة هروبا من مفاجئات الليل الدامس. فلا أنيس ولا صديق ولا حبيب لي في هذه الديار سوى حقيبتي البرتقالية التي تستهوي أنظار اللصوص. لذا لم يكن مهما أن يتجه بي القطار شمالا أو جنوبا شرقا أو غربا ما دمت أعلم على كل حال بأنه لن يخترق بي البحر ليردني إلى تلك الضفة من حيث قذفني بلدي.
وآه من تلك الضفة! وآه ثم آه! منك يا بلدي!.
أخفيت ابتسامة عوجاء في قعر الفنجان حينما تذكرت جارنا عبد القادر. كان آخر من ودعني. رسم ابتسامة عريضة على وجهه فمددت تجاعيده حتى اختفت عيونه وقال وهو يعانقني:ـ سعادتك يا صاحبي..! ستذهب إلى بلاد الخير.
هه..! أي خير هذا الذي أنا فيه بالله عليك يا عبد القادر؟! هاأنذا في بلاد الخير على حد قولك. أيقضها إذا لتأكل التبن!. ماذا سأفعل بربك وأنا لم أرث من سلالتي سوى النظريات الهوائية المتعفنة التي تبعث عن النوم وقوفا. ماذا سأفعل؟!!. نظرت إلى النادل الذي كان يفترسني بنظراته الجاسوسية وقلت في نفسي: تبارك الله على خيرات مولانا!
هدأ روعي قليلا فسرحتْ مخيّلتي بعيدا تستعرض لائحة أصدقائي واحدا واحدا خصوصا أولئك الذين سمح لهم قدرهم من عبور هذا البحر. كل فرد منهم عاش مغامرته على مزاجه ولست أدري كيف سـأعيش مغامرتي. صديقنا موسى غاب عنا سنتين وعاد إلينا صيفا يتأبط عجوزا في عمر جدّته، استبقنا إلى القول قبل أن ندلي بأي تعقيب:ـ لا خلود لبشر يا إخوان، كلها سنة أو سنتين وستموت العجوز إن شاء الله.
رابح تزوج ابنة عمه <الفاكانسية> وأنجب منها طفلين. هو يقول بأنه طلـــّقها وهي تقول وتجزم بأنها هي التي طلــّقته.
عبد الله ـ ولست أدري إن كان أقلهم أو أفضلهم حظا ـ قابعٌ في السجن منذ سنة بعد أن ضبط متلبسا يتاجر بالمخدرات. كتب لنا وقال: ـ لقد ازداد وزني عشر كيلو غرامات شحما.. هلموا يا رفاق فسجونهم خير من مطاعمنا.
كمال عاد بسيارة مرسديس يرمي الغبار على المارة. لم يفصح عن كلمة السر التي فتحت له مغارة علي بابا ولكنه أراح فضولنا ـ أو بالأحرى زاد منه ـ بكلمته المحيّرة:ـ إن الوجوه المقصدرة هي التي تصلْ، لقد خلعتُ وجهي ووضعتُ مكانه وجها مقصدرا.. يجب مواكبة العصر يا أصحاب.. هذا كل ما في الأمر..
و ما يثير اهتمامي في هذه اللائحة كلها هو صديقي مصطفى. فكلانا جاء من حي <الأندلس> قاصدا بلاد الأندلس. هو منذ ثلاثة أسابيع وأنا منذ يوم ونصف. إنه الأقرب مني زمنا ومكانا وعليه فإن مجرد التفكير في إمكانية الالتقاء به هنا تبعث في نفسي الأمل والاطمئنان. صديقي مصطفى من النوع الذي يجعلك تحس بالأمان والحماية وأنت بجانبه.إنه كالهرم لا يسقط بسهولة. قضى جل حياته يتمرن على رياضة التيكواندو ويقطع المسافات جريا على الأقدام وإن راهنك يوما على مصارعة جمل وإسقاطه إلى الأرض فلا تراهنه. ستخسر الرهان لا محالة. قابلية صاحبنا هذا في التأقلم مع المصائب لا نظير لها. يكره الشكليات والبروتوكولات والنظريات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، لذا حمل حقيبته في سن مبكر وراح يقفز من مكان إلى مكان وكأنه يلاحق زمنا هاربا. في بداية الأمر صارع الحياة في ألمانيا ثم عاد إلينا يوما وقال مقهقها:ـ <مازلنا أحياء يا من قالوا ماتوا.. السلام عليكم أنا راحل إلى ليبيا>. مرت شهور معدودات وطل علينا مرة أخرى ليقول: <مازلنا أحياء يا من قالوا ماتوا.. السلام عليكم أنا راحل إلى إسبانيا>. وهكذا هو صديقي مصطفى لا تكاد الفكرة تستقر في رأسه حتى تقفز إلى قدميه فيقوم منتفضا. لقد جعل من فلسفة <بات وما أصبح> رفيقة حياته الوحيدة فاكتسب من التجربة والقوة ما يجعله قادرا على حط رحاله في كل الدنيا.
آه يا صديقي مصطفى أين أنت الآن بالله عليك!!!
أعود إلى ذاتي فأجدها فارغة مبعثرة كحقل طلع عليه الجراد. الفنجان أمامي أصبح باردا فأشتهي فنجانا أخر، لكني أقاوم هذا الاشتهاء فأزجر نفسي أقمعها: ـ كفاكِ من يومك هذا إهانة ومهانة. أحاول عبثا التوقف عن ممارسة لعبة التذكر، فألقي ببصري عبر النافذة العريضة على الشارع أغازل نفسي الكئيبة بتتبع حركات المارة. هذه المدينة مليئة بالضجيج والحركة. أبناء سيدنا عيسى يغدون ويجيئون في و من كل الاتجاهات. أراقب بتأمل عجوزا عمياء تبيع أوراق اليناصيب وكيف تتحسس قطع النقود بأناملها.أستغرب لعدد الأشخاص الذين يبتاعون هذه الأوراق. هؤلاء الأسبان قمّارون كما أنا. هم بنقودهم وأنا بحياتي..
شاب أشقر يعانق شابة شقراء وبدون خجل ولا وجل يتوقف ليقبلها وسط الشارع و لا أحد يعيره اهتماما. الله ينعل من لا يحشم!.
في الزاوية اليمنى من الرصيف كرسي خشبي عمومي عليه شاب ينظر إلى الأرض، لا أستطيع رؤيته جيدا. ملامح وجهه مختفية تحت شعر كثيف يتدلى بلا انتظام على قفاه.
مراهق يمشي على الرصيف مترنما بملابس جلدية سوداء ضيقة كأنه يرتديها تحت جلده. يبدو كسلوقي سباق. يهز رأسه بحركات متتابعة وسماعة <ولكمان> في أذنيه. ناديته بخيالي:ـ دندن يا عزيزي دندن.. أما أنا فدعني أدندن على أيامي.
الشاب ذو الشعر الكثيف يثير فضولي. يبدو غير مهتم لما يدور حوله وكـأنه لم يأتي للدنيا بخبر. أسماله البالية وحذائه المثقوب يوحي كما لو كان قادما للتو من ساحة حرب. أو لعله ما يزال بها. من جهة اليسار تمر دراجة نارية محدثة صوتا يكاد يثقب طبلة الأذن. لا أعيرها أي اهتمام فعيناي مشدودتان في اتجاه الزاوية اليمنى مهتمتان بهذا الشاب. أتساءل: ترى أي سيناريو ألقى به إلى هنا؟! هل تقطعت به الحبال يا ترى كما أراها تفعل بي الآن؟! هل سيكون التسكع والتصعلك مصيري المنتظر؟!. تنهدت:ـ بكل تأكيد. فحينما ستنتهي البيــسّيطات المعدودات التي أخفيها في جواربي ماذا سيبقى غير التسكع؟!.عادت خطبة طارق إلى ذهني وعاد السؤال يزمجر في رأسي فأدركت يقينا بأن حالتي في خطر. الهلع يدب إلى نفسي و موجة من الخوف والتوتر تتصاعد كدبيب النمل في جسدي. لأول مرة أدرك بأنني ما أزال طفلا وفي حاجة لحضن أمي. حامت صورتها أمام أعيني فراودتني رغبة ملحة في البكاء. مسكينة أمي. كانت تضرب الأسداس بالأخماس كل يوم تفتش عن مشروع يريحني من عذاب البطالة الفتاك. قالت لي يوما:ـ يا وليدي.. الله يرضي عيك.. اشترى عربة كجارنا عبد القادر وبعْ البصل والنعناع.
ضحكت يومئذٍ ساخرا وقلت متعجرفا: ـ أنا..! أنا..! أنا أبيع البصل والنعناع!!!.
لقد كانت أمي تعي جيدا ما تقول و تعلم بأن الحائط الذي يتحسسه الأعمى قد انتهى بالفعل وما علي إلا أن ألملم خرا بي لمواجهة الحياة. ما أصدقك يا أماه! وما أحوجني للبكاء في حضنك الحنون.
أحس بدمعة حارة تنفلت من مقلتي فأمسحها خلسة لأحافظ على ما تبقى من كبريائي أمام هذا النادل النذل الذي يبدو أن بيني وبينه ثأر قديم. لقد أعادت مأساتي وآهاتي هيبتي فقمت أبادل نظراته الشرسة بنظرات أشد شراسة. كنت أنعله في داخلي. أصفعه. أبصق عليه من كل الجهات. أقسمت أن لا أزحزح نظراتي عنه حتى يكون هو أول من يفعل. وهاهو يفعل. يتحطم عنفوانه فيرخي بجفونه في انكسار إلى الأرض. لم يعد يقوى على تحمل نظراتي الملتهبة. ـ هكذا أيها الوغد مِلْ بوجهك عني فأنا لست قردا.!
زادت حرارة العزة في جوارحي فأزحت الكرسي بعصبية من تحتي. استقمت واقفا أشد حزام حقيبتي على كتفي. جلدتُ النادل بنظرة أخيرة ثم خرجت تاركا المقهى اللعينة لصاحبها الملعون..
على بعد بضعة أمتار من عتبة بابها وقفت أجيل البصر على امتداد الشارع الذي بدا لي أكثر حركة وضجيجا. كل الناس تغيروا وحل مكانهم أناس آخرون، ما عدى بائعة اليناصيب العمياء و الشاب الذي يعيش عزلته في صمت. لم أدري ما أفعل فانحنيت على حقيبتي أفتحها بدون سبب متظاهرا بالبحث عن شيء ما.. ولم يكن غير ذاك الجواب المنعدم لهذا السؤال الذي يدق في جمجمتي كالمسمار بلا انقطاع: والآن إلى أين..؟!.. إلى أين..؟! إلى أين..؟!
يأتي الرد من أعماقي صارخا:
ـ ينعل أبو الأيام! وينعل أبو الشيطان الذي أملى علي عبور البحر.!
أقوم مرة أخرى فألتفت يمنة ويسرة أبحث عن كرسي عمومي ألقي عليه بجسدي الذي ازداد انهيارا. هناك بجنب الشاب الأشعث كرسي فارغ. أجـرّ قدماي بخطوات جنائزية في اتجاهه وارتمي بكل ثقلي مسترخيا فتكاد كتفي تلامس ظهره. لم يعد ـ لكثرة هواجسي ـ يثير اهتمامي. تزحزح الشاب من مكانه قليلا بعد أن لوى عنقه يرمقني بنظرة خاطفة سرعان ما أعادها علي بسرعة ثم قام من مكانه منتفضا. فتح عينيه بيقظة وبدأ يحملق في وجهي بكل جرأة وتحدي..
ازدحمت الكلمات في فمي الفاغر وتحرك لساني متلعثما ينطق الحروف مكسّرة:
ـ أ..... أ.... آنت.. هو..؟!!
استطالت ابتسامة عريضة على وجهه حتى كادت تقيم خطا واصلا بين أذنيه ثم هز رأسه بالإيجاب وهوى عليّ يعانقني مرددا بقهقهته المتميزة:
ـ نعم... ما زلنا أحياء يا من قالوا ماتوا..!
بلجيكا 11 نوفمبر/تشرين الثانى 2006