مهندس بدرجة امتيـــاز
ـ ....أيمكنكم الالتحاق بالشركة غدا لبدء العمل سيد يوسف ؟ سأنتظركم بمكتبي صباحا
ـ طبعا سيدي المدير. سأكون في الموعد حتما
ـ حسنـــا إلى الغد إذا.
ـ إلى الغد سيدي المدير..إلى الغد..شكرا جزيلا.
أقفلت هاتفي النقال وأنا أتنفس الصعداء من كل أعماقي.ألقيت بالسـٍّكـينة على كومة البطاطس والبصل المتراكمة على الطاولة. نزعت ملابس المطبخ بعنفوان وكبرياء و الأرض لا تسعني فرحا وسرورا ثم هرولت في اتجاه صاحب المطعم وأنا أقهقه كالمخبول : تبا لك من عمل..! وداعا أيتها البطاطس ...ووداعا أيها البصـــل .
غمرني شعور خفيف بالندم سرعان ما اندثر، حين رأيت الوجه المكفهر لصاحب المطعم الذي كان يمد لي أجرتي وهو يـبرق ويرعد بغضب:
ـ أنتم العرب لا ثقة بكم أبدا..أبــداً .!
لقد فاجأه إلحاحي الصارم على مغادرة العمل دون سابق إنذار ، ولم أكن أمامه في حاجة إلى إلقاء محاضرة فضفاضة لشرح الأسباب أو لأداء طقوس التضرع و الاعتذار. أما علـــِمَ بأن زمن العبودية قد ولى وانتهى وأنني أصبحت الآن مهندسا. نعم . مهندسا معماريا بدرجة امتياز.
أعترف بأن العمل في مطعمه سد رمقي طيلة مدة دراستي في كلية الهندسة بهذا المهجر . أنا لا أنكر ذلك . ولكن هل كان في نيــة صاحبنا أن أبقى طيلة حياتي حبيس مطبخ ؟! أقشر الأطنان بل والجبال من البطاطس والبصــل..؟ !
سحبت النقود من يده بعنف وخرجت مسرعا كي لا أسقـط ضحية انفعالاتي وأبدأ بدوري في السب والشتم . فأنا على كل حال لا أرغب في إفســــاد حلاوة بشرى هذا اليوم الجميل ، وما عليّ إلاّ أن أفارق بإحسان هـــذا المكان المشؤوم الذي طلى ملابسي وجسدي بروائح الزيـــــت و البصل والثوم .
دعـــوني الآن أفكر في غدي ، فلا بد أن أكون قدر المقام. فتـُرى أي ربطة عنق سأرتدي ؟ سأرتدي الخضراء ولا شك ، فاللون الأخضر رمز للعروبة وللشهامة والعزة ولون الراياتِ التي حملها أسلافي في الفتوحاتِ . لقد آن الأوان لأعيد المجد لعروبتي ولأترنم بقصائد المتنبي في مدح الذات .فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ومثلي يعرفه القرطاس القـــــــــــلمُ وليس فقط البطاطس والبصـــــلُ.
كان المدير مثالا للأدب وللأخلاق العالـــــــــية ، فبمجرد ما علم بوصولي قام من مكتبه لاستقبالي .نظر إلي نظرة إعجاب، ابتسم ابتسامة انبهار ثم شد بحرارة علي يدي مصافحــــا :
ـ سيد يوسف مرحبا. أراك في غاية الأناقة وكم يسعدني أن تكون كذلك فنحن نقيم غالبا مآدب عمل لرجال الأعمال .هندامك هذا سيكون صورة مشرفة لشركتنا. هيا معي لأريك مقر عملك.
أعدت إحكام ربطة عنقي الخضراء محاولا رفع قامتي قدر المستطاع وقلت :
ـ أرجو أن أكون عند حسن ظنكم.سيدي
لقد تبدد كل الخوف الذي أرقني الأمس. كنت أخشى أن تغير ملامحي العربية وشعري الأسود قرار المدير في توظيفي. ولكن كم نحن نسيء النية نحن العرب. ألم يحن الوقت بعد لنغير ما بنا ؟! ألم نفهم بعد أننا في بلدان المساواة والحرية حيث تعلو الكفاءة العلمية كل اعتبار ؟! فمن سيرفض يا ترى طلبا للعمل بداخله شهادة جامعية بميزة " مهندس معماري بامتياز " ؟!
هاهو المدير يمشي بي إلى مكتبي . الموظفون يخرجون ويدخلون من وإلى المكاتب فيبادلهم التحية بكل أدب ووقار واحترام. آه .!.لو كان رؤساءنا على شاكلة هذا المدير لأمطرتنا السماء خيرا ولما اضطررنا لمغادرة الأوطان.
كنت أمشي خلفه في بهو الشركة أسترق البصر إلى المكاتب التي صفت على اليمين و اليسار ..هذا مكتب المهندس << مشيـل>> وهذا مكتب المهندس << ســـــــــــام>> وذاك مكتب المهندس << ديـــــــــفد>>..راودتني ابتسامة طفولية لم أفلح في إخفاءها حين جال بخاطري بأنني سأقف بعد ثوان أمام المكتب الذي سيكتب على بابه بالحروف اللاتينية الرونقية << مكتب المهندس السيد يوسف>>.
كنت أمشي مرفوع الهامة والقامة ثمــــلٌ بنشوتـــي وكأني أمشي إلى الفردوس ولكني شممت فجأة رائحة بصل ـ أو ربما تذكرتها ـ أخرجت بخلسة قنينة عطر من جيب معطفي وأفرغت نصفها بسرعة على يداي وملابسي في غفلة من نظرات المدير الذي كان يستعد للوقوف أمام غرفة كبيرة في آخر البهو.
فتح المدير الباب وأشار إلي . دخلت وراءه ، وإذا بنا أمام رجل مسن ذو ملامح عربية بملابس بيضاء . كانت تبدو على ملامحه علامة التعب والشيخوخة .ابتسم المدير في وجهه بكل أدب كالمعتاد وقال:
ـ سيد عبد الله . أقدم لك السيد يوسف. أرجو أن تعلمه المهنة جيدا وأن تكونا على أتم الاستعداد لإرضاء زبناء نا اليوم فهم ذو أهمية قصوى. إنهم من أمريكا.
اقترب الرجل المسن مني بخطى ثقيلة ، نظر إليّ برهة كمن ينظر إلى صنم وهمس في أذني بصوت يشبه الأنين :
ـ أرى ربطة عنقك الخضراء تزيد في خنقك ، فالطقس حار هنا و حار جدا.
قال هذا وهو يمدني بسكينة حادة ويشر إلى طاولة عريضة عليها كومة من البطاطس والبصل.