" سيكون هناك سبب..." لشمس الدين العوني
ينهض السؤال عن حضور الصمت في المدوّنة الشعرية العربية سؤالا خطيرا –بمعنى الأهمّية- لأن أشكال حضوره مختلفة و متنوّعة مما يرشّح السؤال لان يكون مبحثا مهمّا يمكن من خلاله أن نرصد أحد أسئلة الشعر العربي المعاصر . فالوشائج كثيرة تلك التي تجمع بين الصمت و القهر و الصمت و الحرية و الصمت و الجسد ....لذلك فنحن " دائما ينقصنا الصمت" على حدّ عبارة أنيسة عبّود التي تقول في قصيدة لها بنفس العنوان :
هل كنت تتصوّر
أن نتكّئ في المساءات على القهر
و تسند ظهورنا على غصّة يابسة
لا تصرخي أيتها الاقحوانات
أسكتي
فالصمت نصف المعجزة "
تمثّل تيمة الصمت التيمة الرئيسة التي يدور عليها الكتاب الشعري الجديد للشاعر التونسي شمس الدين العوني " سيكون هناك سبب ...." فالصمت ناطق فيها من الغلاف إلى الغلاف , بدءا من العنوان الذي حمل إشارة الصمت من خلال النقاط المتتالية التي ختم بها و التي تشي بكلام محذوف فقد تمدّد الصمت على مساحات الكتاب ابتداء من تصديره الذي وقّعه الشاعر بقلمه قائلا :
تكمن في الصمت
مثل فراشات في ذهب الأزمنة
هي كلماتك الفارقة ....
سيكون هناك سبب ...(ص7)
ثم يبدأ الجزء الأول من الكتاب بقصيدة ممهورة بعبارة "متعة الصمت" فيواصل الشاعر تقلييب هذه المتعة على امتداد الكتاب على وجوه مختلفة .
و لكن ما معنى الصمت و لماذا الصمت ؟ و هل يمكن للشاعر أن يحيا و للشعر أن يتدفّق في مناخات الصمت ؟ و هل الصمت وأد للكلام فعلا؟
عندما يقول شمس الدين العوني في مطلع قصيدته الأول " متعة الصمت ":
لا أجد
أرحب من الصمت
في هذا... الضيق
فكأنما يحملنا إلى عالم آخر غير عالم اليومي / العلم المزدحم بالأصوات و الكلام و الافصاح / عالم آخر يركن في الهامش من حيواتنا .
و من ثمّ فالعوني و كأنّما يعلن من خلال هذا المقطع أن الهامش ليس سوى المركز المستبعد فعالم الصمت أكثر شساعة من عالم الكلام و أن الانسان أوسع و أعظم من أن يختزل في عبارة كائن متكلّم و " ظاهرة صوتية" , " فتاريخ الصمت –كما يقول الناقد السوري ابراهيم محمود- هو أكثر عمقا و غنى و إثارة من تاريخ الكلام المسموع و الكتابة المقروءة و الأثر المنصوص او المفصح عن ذاته في صورة ما "
إن هذا التاريخ هو جماع تاريخ آخر هو تاريخ الذوات المفردة , تاريخ صمتها الخاص , فكلّ كائن هو ما اخفى و ما ظاهره إلاّ بعض الاشارات الواشية بوجوده و علامات قد تكون مضلّلة على شخصيته لأن الكلام نشاط مسكون بالريبة و نشاط مغلّف بالعقل و العقل يعقل الحقيقة و يعلن عن نقيضها درءا للفجيعة و للأنتحار و للحزن فيقول الواحد منا "انه بخير " و هو في أرذل الأحوال .
و لعلّ أدبيات الفلسفة و التحليل النفسي حول اللغة أثبتت هذه الصفة اللعوب لها و أكّدت قيامها على المخادعة فكيف للغة الكذّابة بكلامها أن تقول الحقيقة التي تركن في الهامش و هي تاريخ الصمت ؟
اللغة لا تقول الحقيقة إلا مرغمة , عندما تتحرّر من العقل و تجري على الألسن في شكل زلات و تقول الصمت عندما تكون لغة للشعر , لأن الشعر أشبه ما يكون بالوحي في بعض وجوهه فهو مندلق , متدفّق كالسيل و ان أعمل فيه الشاعر بعد ذلك ازميله فهذّبه و شذّبه و ثقّفه بما شاء , فكيف كتب شمس الدين العوني الصمت في هذا الكتاب ؟
إن الكتابة الشعري عند العوني في هذا المؤلّف تجنح نحو تركيز العميق و تهميش السطحي من خلال إعادة ترتيب العناصر و أوّل هذه العناصر المهمّّشة التي اعادها العوني إلى مركز الاهتمام الشعري هو الذات التي تحللت في هموم الجماعة و اغتربت في الشعر العربي الحديث الذي اثقل منذ قرن بالمحمولات الايديولوجية فكادت معانيه و قضاياه التي راهن عليها الشاعر أن تجهز عليه , فانقلب مجرّد حامل لتلك الايديولوجيات و لم يعد صوته /صوت الفنّان / صوت الذات بقدر ما كان صوت الجوقة /صوت العامة / صوت الجماعة .
و ليس أدلّ على ذلك من مراجعة درويش لتجربته حين رأى انه حان الوقت للمراهنة على الشعر فنّا , و أكّد جبرا ابراهيم جبرا من زمن " أن الشعر بطّل –العبارة له - أن يكون منبريّا و هو ليس صراخا من على المنابر , و إنّما هو صراخ في الداخل "
و سبق للشاعر علي شمس الدين أن قال ردّا على من سأله عن سرّ نجاته من فخّ شعر المقاومة :" الحدث السياسي متغيّر باستمرار و إذا كان الشاعر سيكون صدى ناطقا لما يجري , فإنّه ينتهي بانتهاء ما يجري , و يقتضي أن تلف القصيدة و ترمى خلف مناسبتها "
إن اعادة الاعتبار للذات الفردية و التغنّي بهامشها (صمتها) كان أوّ رهانات فكّ الحصار عن الصمت في كتاب العوني:
" أحمل صمتا من ذهب الأزمنة
– هو صمتي الذي يخصّني -
أمضي إلى داخلي
أحاوره و احاوله
تنبت في الصمت أصوات و الوان
و طيور تنبثق من رماد .
و أضجّ بالأرجاء ليعمّ في أرجائي
ذلك الصمت (ص12)
عندما يلتفت الشاعر إلى الذات المفردة او الفردية لا يمكنه إلا أن يمتدح الرغبة , تلك الرغبة التي أكلتها الجماعة , فالرغبة كما يرى فرويد سليلة اكثر عناصر الجهاز النفسي أصالة (الهو) قبل ان يجهز عليها الأنا الأعلى و يقصيها أو يميّعها من خلال المؤسسة ( الأب , السلطة , الدين , الاخلاق ...) و من ثمّ فتاريخنا ليس سوى تاريخ قمع الرغبة , تاريخ المسكوت عنه , تاريخ تصميت و تبكيت الرغبة و اسكاتها .
أفلا يكون , عندها , انتظار المتلقّي مديحا للرغبة من كتاب يمدح الصمت أمرا مشروعا ؟
إن انتظار المتلقّي لهذه اللحظة الشعرية لا يطول كثيرا و هو يقلّب " سيكون هناك سبب..." فالشاعر يؤكّك حسن نيّته و اصرار على المضي بعيدا في تحرير الصمت بعد ان مدح الذات و طلب منها الغفران و مباركتها فيقول مباشرة بعد المقطع الأول :
" أمدح صمتي , أمجّده , أعلو به
تأخذني كلماتي في صمت
إلى مدن
صاح في فرط سحرها صمت
و أفصح عن رغباته
رغباتي ...."(ص13)
و الرغبة الانسانية , في الحقيقة , رغبات مفردة في صيغة الجمع , إنّها في معناها الاكلينيكي نوازع و هذه النوازع و الشهوات المكبوتة مبثوثة في عبارة "نوايا " و كما ارتبطت كلمة نوايا بنعت " مبيتة " و هاو الشاعر يبيّت النية كما وعدنا لتخليص المكبوت و" فكّ المربوط" بقوله :
" يأتي – يا كم اتى – في الليل غزاة
ليصدّهم صمتنا
و يفشي نواياهم
المجد لصمتي "(ص14)
إن الصمت هنا يضطلع بمهمّة الفضح و افشاء سرّ الغزاة المتستّرين بالليل , لقد استحوذ الصمت على وظيفة الكلام الذي من مهامه الإعلان و الوشاية بما يخامر الذات من أفكار و أحاسيس فيتنكّر الصمت لإحدى وظائفه التاريخية التي حشره فيها المتكلّم العاقل / الكائن الأخلاقي باعتباره خزّانا للاسرار و النوايا و حارسا أمينا عليها ليتمرّد الشرطي و السجّان القديم و يكفر بوظيفة خنق الحقيقة فيفتح الزنزانة على من فيها .
إن مدح الصمت عند شمس الدين العوني ينطلق من خلفية فكرية تقول إن " الصمت ليس عدما كلاميا , إنّما هو عدم صوتي , إنه كلام يمارس "واجباته" في العمق [...] و يعلن عن وجوده بما هو ابلغ من الكلام نفسه "
و إذن , فنحن مع العوني أمام ما يمكن أن يسّمى ب"بلاغة الصمت " . و الحق ان كشف هذه البلاغة يمثّل اجابة عن السؤال عن أسباب كل هذا المديح للصمت .
إن التغنّي بالصمت بصفته حقيقتنا التائهة أو كنهها المقموع هو في الحقيقة تغنّ بالألم . فالشعر هنا ينقلب إلى عملية استمتاع بالجرح / بالألم , فهل أصبحنا أمام ما زوخية شعرية ؟ و هل اللذة غير هذا ؟ ألا يخالطها الألم في كل لحظاتها ؟
إن الشعر في هذا الكتاب انفلات و كفر بناموس الجماعة و اقامة الحد على مبدأ " التثكين البشري" لإحلال مقولة التسكين , إحلال الفرد في الكون بصفته ذاتا خاصة , و هل أكثر من هذا الفعل عذابا و ألما : استئصال الدمامل التي خلّفتها الجماعة ؟ و هل أعظم من هذا الفعل لذّة حين تعود الذات إلى ذاتها و لكن أغلا يكون هذا الشاعر , بكسره لبوّابات الصمت و التغنّي بما ترك داخله ,يقدّم نفسه بصفته كائنا لا أخلاقيا و تصحّ عليه عبارة نيتشه :" ذلك الذي يكسر ألواح قيمهم , الكاسر , المجرم , ها كم هو المبدع " ؟
إن العوني في هذا القسم من الكتاب يهدّم مملكة الكلام اليومي ليبني مملكة الكلام المختلف , الكلام الآخر , مملكة الصمت , مملكة الذهب . ألم يقرن الشاعر في بداية كتابه الصمت بالذهب ؟
" تكمن في الصمت
مثل فراشات في ذهب الازمنة
..."
ألا يذكّرنا هذا الترابط بين الصمت و الذهب بالمثل العربي :
" إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب " ؟
هكذا يكون مديح الصمت و هجاء الكلام مديحا للحقيقي / للعميق و هجاء للعرضي / السطحي / القشري .
يرتبط الكلام عند العوني في القسم الاول من كتابه بالخسران كما هو الحال في الموروث الديني (الكتب السماوية ) و الموروث الشعبي ( الأمثال و الخرافات ) و الموروث الأدبي (الشعري خاصة ) , فما نقوله يذهب هباء و نخسره إلى الأبد و أحيانا يكون الكلام جرمنا الذي يدفعنا إلى اتون العذاب عندما يكون كلاما غير مرغوب فيه , و احيانا يكون الموت نفسه لأنه خاب في ايصال الرسالة كما في قول نزار قباني :
" كلماتنا في الحب تقتل حبنا
إن الكلمات تموت حين تقال "
هاهو العوني يعيد صياغة المعنى و الصورة فيقرن الكلام بالاحتراق :
" أيتها النار
ما جدوى النار
إنا نحترق في الكلمات " (ص87)
هذه قراءة من قراءات عديدة تحاول الاجابة عن سؤال يطرحه العنوان بصمته فالسبب أسباب ممكنه , أفلا تكون النرجسية, الصفة المشتركة التي تجمع الشاعر بالصمت , هي أحد هذه الأسباب . الم يحبّر أحدهم :" إن السمة الكبرى للصمت تكمن في نرجسيته المثيرة , كلام الذات للذات و بالذات ..."
و لكن هل المطلوب من الشاعر اشاعة الصمت و إراقة دم الكلمة و ترديد الخطاب السياسي القمعي و الخطاب الديني " من صمت نجا" ؟
يهدّم العوني في النص الثاني من كتابه , في لعبة فنّية ماكرة , ما كان قد أوحى به ظاهر النص الاول من المؤلّف بالمديح المشبوه للصمت لنعثر على نيتشه محب الحرب مشنوقا على جنبات النص عندما خابت توقّعاته و هو يقرأ هجاء الشاعر للحرب في قصيته الحاسمة " ما اتفه الحرب " التي يقول فيها :
" ما أبشع الحرب
يكفي انها تقتل فراشات
تفتن الناس ببهاء صمتها " (ص93)
قد يبدو للوهلة الأولى ان هذا الانقلاب الشعري يعود بالقصيدة إلى مركزية الجماعة و لكن المتأمّل في المقطع يلاحظ أن سبب كراهية الشاعر للحرب هو مقتل الفراشات و إن حملت الفراشات هنا دلالة رمزية نحسبها الكائنات النورانية من شعراء و فنانين و أطفال لم تلوّثهم الحضارة بصخبها و جبنها .
" المجد للطيور , لخفّة الكائنات
تمعن جميعها في الموسيقى و الجمال
يرفعه الصمت الفاخر
بينما يمشي الآخرون بالطبول
ما اتفه الحرب ...."(ص98)
إن هذا الحضور للحرب في قلب النص يفجّره فتنقلب العين الشاعرة و تنقلب معها الرؤيا و الرؤية معا . ليرفع العوني الكلمات في موضع الممدوح بدلا عن الصمت .
ما الذي حدث ليرتدّ الشاعر عن مديحه الأوّل ؟
هل خابت أمانيه كجدّه المتنبّي فلم يكسبه الصمت غير الخواء ؟؟
يعلن العوني في الشطر الثاني من كتابه سطوة الكلمات :
" من يقدر على الكلمات ؟
من يقدر على الصمت ؟
الصمت البهيج ..؟؟
في ليل الكون
ينحني الشاعر
أن ....
المجد للكلمات ..."(ص138)
إن السؤال عن أسباب هذا الارتداد يشرّعه العنوان الذي رفعه الشاعر على غلاف مؤلّفه " سيكون هناك سبب.." فما هي أسباب ارتداد الشاعر عن مديح الصمت و الركوع للكلمات ؟ صحيح ان الاحتفال بالصمت انقلب إلى احتفال ب"الكلمات العالية" و لكنها كلمات كانت قد ولدت بين أحضان الصمت و عاشت في كنفه طويلا و كأنما الشاعر يردد : أصمتوا كثيرا و تكلموا قليلا تنطقون شعرا و حكمة .
يرتبط الكلام في هذا القسم من المؤلف بدلالته التعبيرية و تعالقها بقيمة الحرية , حرية تلك الفراشات التي أحرقتها حرب كان لزاما على الشاعر أن يخرج من صمته لإدانتها . الكلام هنا هو كلام آخر .يقول الشاعر :
" مرحى للكلام .....الكلام الآخر " (12)
و لكن الكلمات التي يمتدحها الشاعر ليست كلمات الغوغاء و وصفها بالعالية ليس سوى مجاز,أنه يمتدح الكلمة المكتوبة , الكلمة الشعرية المكتوبة بعد كبت , العالية بفنّها لا بصوتها .
إن الشاعر هنا , و كما يشي عنوان قصيدته " سخرية تصلح لقادم الرغبات " , يسخر من الكلام الشعري المنبري الفاضح الفضّاح و المفضوح و الصاخب صخب الطبول الفارغة و يمدح , في المقابل , الكلام الشعري القائم على الايحاء و الغموض المستحب , و من ثمّ فهو مديح لكلام مسكون بالصمت :
في الكلمات
صمت
و موسيقى فاخرة
تطرد إلى رفعة الألف
مثلا " (ص125)
إن شمس الدين العوني في كتابه هذا لا يمدح الصمت السلبي الذليل إنّما يمدح الصمت الرافض / الصمت الموقف / الصمت المحرّض و بذلك يكون الممدوح في هذا الكتاب صمتا أشدّ من الكلام قساوة و من ثمّ سيكون هناك سبب لهذا المديح الغريب للصمت في زمن التبكيت و التصميت و قطع اللسان .