السبت ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢
بقلم هاتف بشبوش

صلاح عمران، بين الأرشفة والسياحة..

حين نقرأ صلاح عمران في كتابيه (أصوات خضرفي ذاكرة القاريء) وكتابه الأخر (مرسم للسندباد وليالي لحكايات شهرزاد) نجد ملامسة الروح الإبداعية التي جعلها بمثابة التحليق في وفاء الصداقة وأرشفة كل مايكتبه المبدعون خوفا من التشتت والضياع، فهو جعل كل ماينشر في الجرائد والمجلات وغيرها في كتاب واحد كي يستطيع المرء أن يقرأ للعديد من المبدعين على إحتلاف تنوعهم في الشعر والرواية والفن، ويستطيع القاريْ الإنتقال من مبدع الى آخر في كتاب واحد بدلا من البحث عن المبدع الفلاني في الميديا وصفحات التواصل. صلاح عمران استطاع الحفاظ والمضي بسفينة الابداع الهائلة التي إبحرت بالمبدعين في مختلف إبداعاتهم عن حب الأوطان والأدب على إختلاف أجناسه، فكلنا جسيمات كونية ضئيلة وهذا يذكرني بالقول المأثور (أتحسب نفسك جرما صغيرا وفيك انطوى العالم الأكبر) فهنا ارى نفسي بعيدا عن هذا القول ولامعنى له لأننا أجساد هاوية خاوية عبارة عن كتلة من اللحم من الممكن ان يدهسها حمار في شارع وينتهي الشعور والاحساس والأفواه التي ياما وياما تشبعت بالقيل والقال وينتهي ايضا وجيب القلب الذي دق في ساعات الهسيس بينما الطرفان متشابكان فوق السرير عراة لايفصلهم سوى الجلود الملساء التي لاترتوي الا باحتكاك طرفي معادلة الجنس. لكن جاء صلاح ووضع خلودا لكل هذه الشخوص ووضعهم في أرشفة مذهلة لايمكن لها أن تنتهي مهما أمتدت الدهور. كتب صلاح بكل الاناقة الادبية التي من شأنها أن تجعل الأقلام سادرة عبر الكتب بل جعل حيوات المبدعين في السطور وبإمكان المرء أن يتخذ أولئك المبدعين كأصدقاء فالإنسان هو الأثمن في الأكوان المرئية وغير المرئيه على حد زعم عالم الفضاء الأمريكي (كارل إدوارد ساغان) الذي قال: وأنا أنظر من الكوكب الذي حطت به أقدامي وجدت الارض بما فيها من بحار ومحيطات وبشرية هائلة وجدتها عبارة عن نقطة زرقاء شاحبة ضئيلة جدا، ولكني لم أجد أفضل من الإنسان في جميع هذه الكواكب الفارغة، ولذلك على المرء أن يتوجه لحب أخيه الإنسان، وعليه أن يتعلم شغف القراءة ففي الكتاب يجد اصدقاءه الذين يستطيع محاورتهم ومحاكاتهم في لحظات الفراغ أو الإنطواء الذاتي أو لمعرفة ثقافات هذا الكائن الإنساني الموزّع تحت أكثر من غيمة ونجم. فهكذا هو ثمن الكتاب الذي سهر عليه وجمعه وصقله وإختصره المؤرشف الجميل صلاح عمران. الكتاب يعلمنا فكرة رائعة وهي: أننا حينما كنا صغارا فكنا أبرياء ولما كبرنا تلوّثنا كما الكتب الموضوعة فوق رفوف المكاتب، ولذلك قد يتلوّث المرء بتقادم السنين من مطحنة الحياة التي لاترحم بكل جوانبها الفكرية والإقتصادية والإجتماعية لكنه بإمكانه أن ينفض الغبار عن روحه كما ينفض الغبار عن تلك الكتب لتبدو نظيفة مثلما كانت فوق رفوفها.

أما فيما يخص كتابه (جمرات نحو الجمال) فهو من أدب السيرة والرحلات على غرار الرحالة الكثيرون الذين قرأنا عنهم مثل إبن بطوطة. فهو هنا قد دخل صميم حياة النفس البشرية وماتريده من تغيير في عالمها الثابت(أوطانها) فهذا الكائن البشري جبل على أن يرى ماوراء الأكمة وماوراء المحيطات من مجهول وما مثالتا على ذلك البحار (كربيستوفر كولمبس) مكتشف قارة الهنود الحمر فهو قد ذهب بسفينته لإستطلاع مايخفيه هذا الكون الشاسع أي أنه ذهب بجولة سياحية إستكشافية هائلة تحفها المخاطر لكنه من جراء هذه السياحة الإبحارية إكتشف مالايصدق وهي القارة الأمريكية مع سكانها الأصليين (الهنود الحمر) أولئك الذين إنتهوا تحت طغيان أمريكا ولم نجد لهم أثرا بعد أثر عظيم. ولم يتوقف البشر عن مهنة الإستكشاف والسياحة في الأرض فراح يريد أن يرى مافي الأكوان والمجرات الأخرى. ولذلك قال أحد علماء الفضاء (نريد بناء مستعمرات على القمر والمريخ وأقمار الكواكب الأخرى، نريد أن نجعل السياحة الفضائية والتجارة أمرًا روتينيًا) وسيحصل هذا في الزمن الآتي حتما.

اليوم البشرية تحاول إيجاد نموذج سياحي يسمح للمجتمعات بالازدهار بينما تزدهر الأعمال وتجعلها جزءً كبيراً من إقتصاد االبلد. وأيضا يقول (يوخن زيتر): قضاء الإجازة بجانب مياه الشاطئ الجميلة والجمال الذي يحيط بها هو اكتشاف الهدوء من الداخل. أن تكون سائحًا هو يعني الهروب وقتيا من المساءلة، والأخطاء والإخفاقات والعمل الشاق والمضني الذي ينهك نفسيتك التي لابد لها من الراحة والإستراحة. يقول (هنري نيلر) إذا كنا دائمًا نصل ونغادر، فمن الصحيح أيضًا أننا راسخون إلى الأبد. ليست وجهة المرء أبدًا مكانًا، بل طريقة جديدة للنظر إلى الأشياء. أضف الى ذلك تتمثل إحدى مزايا السياحة في أن الناس يبدؤون في أخذ أنفسهم بجدية أكبر ويعتقدون أن ثقافتهم تستحق شيئًا ما، فبدلاً من الإستخفاف بالثقافة المحلية، يقومون بإضفاء الحيوية عليها.

لذلك نرى صلاح عمران في كتابه هذا يتحدث به عن السياحة وماشاهده من سحر في أماكن العالم المختلفة ويعطي وجهة نظره عن ما رآه في أخلاقيات وسلوكيات البشر في هذا العالم المترامي الذي يحتوي على العديد من الثقافات والأمكنة التي تستحق أن يراها المرء. السياحة تنمي عقول البشرية وتجعلها قادرة أن تجعل من أخلاقها أممية علاوة على تعلم اللغات ومن تعلم لغة قوم إتقى شرّهم. السياحة مهمة لدى العالم المتحضر ولذلك في الدنمارك حين يحسبون راتبك الشهري يضيفون اليه مقدار الإدخار لكي يجعلك تستطيع أن تسافر وتكون سائحا في بلدان العالم، هكذا تنظر الشعوب للسياحة بينما أغلب بلدان الشرق تنظر الى السفر كسياحة جنسية لاهية مع النساء وهذا أعظم ما يملكه غالبية السواح الشرقيين دون أن ينظروا الى المهمات الكبرى من غرض السياحة التي تطرّق لها صلاح عمران بوصفه الدقيق للأمكنة والتواريخ والشخصيات العلمية والأدبية ومما رآه في ايران من مراقد لأكبر شخوصنا العلمية والأدبية ومنهم ابن سينا الفيلسوف والطبيب الشهير. مدينة كاشان التي تشتهر بالسجاد، مدينة يزد التي يسكنها الزرادشتيون او المجوس وشعلة النار والذين كتب عنهم الروائي عبدالرحمن منيف (قصة حب مجوسية)، ومنطقة اردبيل وضريح اردبيلي مؤسس الأسرة الصفوية التي حكمت ايران لعقود وعقود وغيرها من الأمكنة التي برع بوصفها صلاح عمران بأدق تفاصيلها عن الطبيعة الخلاّبة ونفسية الإنسان ومايتماثل له من سموت هذه الطبيعة التي تستحق أن يزورها المرء للتعرف عن كثب بما تحويه من تأريخ ماضي وحاضر.

في النهاية أقول أن الكتب التي أصدرها صلاح عمران هي عبارة عن نكهة السياسة والإجتماعيات والأناشيد والأدب والشعر والمحاكاة وما يساور حياتنا من ضباب في أغلب نواحيها. كما وأنني وجدت المؤرشف صلاح مثلما الممثل (توم هانكس) في الفيلم الجميل (ناقل الأخبار) الذي يجمع أخبار المدن وشخوصها وأدبائها وما يحصل بها من متغيرات في مدوناته اليومية أو في الجرائد والمجلات التي يحملها معه الى المدن الآخرى وكان أنذاك لاتوجد وسائط نقل سريعة كما اليوم وإنما يتم التنقل فقط بواسطة الخيول. أما صلاح عمران يقوم بنقل كل مايدونه عن المبدعين في كتاب وهذا الكتاب يتم تداوله بالطريقة المعهودة عن طريق المكتبات المتوزعة في أنحاء البلاد ومن الممكن نقلها عبر الطائرات الى العالم الفسيح لتبقى هادرة مع مضي الآزمان والدهور وتسير عبر خيوط الذاكرة التأريخية لتعبر أجيالاً وأجيال مثلما وصلتنا أخبار الكتب العظيمة من الزمن الماضي واستقرت في عقول حاضرنا وستستمر الى السرمدية التي لايمكن لنا أن نعرف مامدى نهايتها طالما لانعرف بدايتها على وجه التحديد. ويبقى صلاح عمران الذي عرفناه قبل هذه الكتب فناناً تشكيلياً يتعامل مع الصورة والريشة والألوان هو المجتهد والمجد الذي يحفر لعزلتنا مع الكتاب، فالعزلة من هذا النوع تكاد تكون أم الكثير من الأمورذات الشأن الكبير، أو تكاد تكون أم الوفاء والحب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى