الجمعة ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

صوتُ العالم في ريشةِ نعيمة بين أبالسةِ الطُّغيانِ وملائكةِ التَّحرُّر

يبدأُ نعيمةُ مقالَه ببيان أصوات الكونِ بكلِّ مظاهره الّتي تنتشرُ في الفضاء الخارجيِّ، فيحدِّثُنا عن رنّات الكواكب في أفلاكِها، ثمّ يهبطُ قلمُه إلى عالمِنا الأرضيِّ؛ ليصفَ لنا هيْنَماتِ وولولاتِ النّسائم والرّياح في أجوائها، وزفيرَ وهدير الأمواج في بحارِها، ووشوشةَ وحفيفَ الأعشابِ والأشجار، ودبيبَ وطنين الحشرات، وصفيرَ وترنيم الطّيور بأشكالِها وألوانها، وأصواتَ الحيوان بمختلفِ أنواعِه، ومن ثمّ الإنسانَ بشتّى أصواتِه الكثيرة المتنوّعة. كما في قولِه: "في الكونِ أصواتٌ لا تستوعبها أُذنٌ ولا يُحصيها خيال.. ".

وتلك الأصواتُ هي جوقةٌ تُنشد مجموعةً من الألحان السّاحرةِ العجيبة الّتي لا تسمعُها إلّا أذنٌ مرهفةٌ بوقارِ السَّمعِ، ولا يسكرُ بها إلّا قلبٌ شفيفٌ بالمشاعر، ولا يعي معانيَها إلّا فكرٌ متوقّدٌ بالذّكاء، فطُوبى لمن يسمعُها بالأذنِ، ويَنتشي بها في الفؤادِ، ويسمُو في معانيها بالفِكرِ، ويحلِّقُ في سماواتها بالخيال!
فللكونِ إذن أصواتٌ كثيرة تشي بأشياءَ وأشياء، وترمي إلى أشياءَ وأشياء، ولكنّها في النّهاية – كما يرى نعيمةُ

– "تندغمُ كلُّها في صوتٍ واحد هو صوتُ الكونِ الشّامل، وتهدفُ إلى شيءٍ واحد هو هدفُ الكون الأبديّ" .
ولا شكّ أنّ صوتَ الإنسانيّة هو أحدُ أصوات تلك الجوقةِ في الكون الّتي ترمي إلى هدفٍ واحد هو هدفُ الكون الأبديِّ، وهنا يتساءلُ نعيمةُ مستغرباً ومستنكراً: "أين صوتُ الإنسانيّة من ذلك الصوتِ، وأين من ذلكَ الهدفِ هدفُها؟".

ونرى نعيمةَ يُصغي بذكاءٍ إلى صوتِ الإنسانيّة ليعرفَ هدفَها في الحياة، فيَعرضُ أسطوانةَ ذلك الصّوتِ بين الماضي والحاضر؛ ليتسنّى له الوصولُ إلى هدفِه الحقيقيّ، فنراهُ يُطلقُ العنانَ لخيالِه ويغوصُ إلى أعماق البشريّة الّتي لا يمكنُ سماعُ صوتها قاطبةً؛ لأنّها تمتدُّ على مساحاتٍ متراميةِ الأطراف، فلا يمكنُ أن يكونَ لها صوتٌ واحد، ومن المحالِ أن يكونَ هدفُها واحداً، ولا يمكنُ أن يسمعَ بعضُها بعضاً لعدم وجودِ وسائل التّواصلِ فيما بينها في الأزمانِ الغابرة، كما في قولِه: "کنّا حتّى أمسِنا القريب إذا تكلَّم أحدٌ عن صوت الإنسانيّةِ حملْنا كلامَه على محملِ المجاز. ذاك لأنّ الأرضَ كانت متراميةَ الأطراف، شاسعةَ الأبعاد..".

لكنّ الإنسانيّة اليومَ لم يعُدْ بعضُها بمنأىً عن بعضِها الآخر، إذ أصبح القصِيُّ دنيّاً، وتداعتْ جميعُ الحدود الّتي تفصلُ فيما بينها، حتّى غدا العالمُ بأسرِه قريةً صغيرة يتبادلُ سكّانُها المشاعرَ بإيجابيّاتها وسلبيّاتها: "أمّا اليومَ فقد تصرّمتِ الأبعاد، وتداعتِ السّياجاتُ الّتي كانت تفصلُ الأممَ بعضَها عن بعض. فإذا بالقصيِّ يدنُو، وبالمجهولِ يغدو معلوماً؛ وإذا بالأممِ صغيرِها وكبيرها، وبعيدِها وقريبها تتبادلُ التّحيّاتِ والشّتائمَ، والبضائعَ والقنابل، والسّلامَ والدّم؛ وإذا بالإنسانيّة تشكُو أوجاعاً مشتركة، وبصوتٍ واحد تطلُبُ العافيةَ والسّلام والطّمأنينة".

ويضربُ نعيمةُ أمثلةً لحوادث التّاريخ الكبرى الّتي لم يسمعْ بها في حينها إلّا القبائلُ والأمم المجاورة، بسببِ تصرُّم أجزاءِ المعمورة، وبُعدِ المسافات بينَها، وعدمِ وجود وسائلِ التّواصل فيما بينها، لكنّ التّاريخَ مع مرور الزّمن جعلَها تنتشرُ وتُعرَف بين الأمم، وهذه ميزةٌ حسنة من خصائصِ التّاريخ حينَما سجّل تلك الأحداثَ وجعلَها قِصصاً وحكاياتٍ تتناقلُها الأمم وتعلَمُ بحقائقِها، ويضربُ أمثلةً لتلك الأحداثِ، منها: كارثةُ انهيار سدِّ مأربَ الّتي لو حدثَت في أيّامِنا لسمِعتْ بها في دقائقَ معدودةٍ كلُّ شعوب الأرض. ولكنّها في زمانِها ما تعدَّت البقعةَ الّتي نزلَت بها إلّا بعدَ أجيال. وأهراماتُ الفراعنةِ الّتي لو بُنيَت في هذه الأيّام لكانتْ كلُّ حركةٍ من حركاتهم، وكلُّ كلمةٍ من كلماتِهم، وكلُّ ما يتّصل بالبناء من تفاصيلَ لا نهايةَ لها، تُذاعُ على العالمِ مرّاتٍ في النّهار، أمّا في زمانِها فما درَى بها إلّا البعضُ من أهل مصرَ والقليلُ من جيرانهم في حوضِ البحر الأبيضِ المتوسّط. وكذلك لو أنّ اكتشافَ كولومبوس للقارّةِ الأمريكيّة تمَّ اليوم، لطار الخبرُ في لمحةِ الطَّرف من القطبِ إلى القطب ومن المشارقِ إلى المغارب. أمّا منذُ أربعة قرونٍ ونصفِ القرن فاكتشافُ أميركا لم يدرِ به حتّى سكّان أميركا إلّا بعد أعوامٍ وأعوام، ناهيكُم بسكّان الهندِ والصّين والجزرِ المنتشرة في عرضِ البحار. إضافةً إلى ذلك تلكَ الحوادثُ من دينيَّةٍ وزمنيّةٍ: كخروجِ العبرانيّين من مصر، ورسالاتِ موسى، والمسيحِ، ومحمّدٍ في شرقنا هذا، وبوذا في الهند، وزارادِشْتَ في فارس. وكالحروبِ الّتي توالَت موجاتُها على الأرض فما تركَت بقعةً من بقاعِها المعروفة إلّا اتّخذَتها ميداناً لها.

فقد كانتْ تلك الحوادثُ العظيمةُ تمرُّ بالأرض من غيرِ أن يدريَ بها في وقتها إلّا القليلُ من أبناء الأرض. ولولا التّاريخُ الّذي يصلَ ماضيَنا بحاضرنا لما استطعْنا أن نصوّرَ الإنسانيّةَ الماضية إلّا أعضاءً مفكَّكة لا تربطُها أعصابٌ واحدة في جسمٍ واحد. وقد سهّل التّاريخُ علينا أن نرى الإنسانيّةَ، على وفرةِ شعوبها وتعدُّدِ مسالكِها، قافلةً واحدةً تسيرُ في طريقٍ واحدٍ إلى هدفٍ واحد. وتلك حسنةٌ من حسناتِ التّاريخ تكفِّرُ عن جميع سيّئاتِه على نحو ما يذهبُ إليه الكاتبُ.

صوتُ الإنسانيّة اليومَ

وها هو العالمُ اليومَ يصدحُ مليّاً بسيلٍ جارفٍ من الكلام الّذي لم يشهدْه من قبلُ، وذلك لتنوّع وسائلِ اتّصالِه من مسموعةٍ ومقروءة وغيرِها: "فهو ينهلُّ علينا بغيرِ انقطاعٍ من شفاهِ الأثير، ويتفجَّرُ من دواليبِ المطابع، ويفورُ من بينِ عيدان المنابر، ولا فرقَ من هذا القبيلِ بين غربٍ وشرق، أو بينَ بلدٍ كبيرٍ وبلد صغيرٍ. فالتّيّارُ واحد في كلِّ مكان".

وليس معنى ذلك أنّ العالمَ صام فيما مضَى زماناً عن الكلام فراح يعوّض اليومَ عن صيامِه بالثّرثرة. فالعالمُ -في نظر نعيمة- ما عرف الصّمتَ يوماً من أيّام حياتِه، ولكنّه ما عرف كذلك مرحلةً كثُرت فيها الوسائلُ لنقلِ الكلام كالمرحلةِ الّتي هو فيها اليومَ، ومن هذهِ الوسائلِ: الصُّحفُ اليوميّةُ والأسبوعيّةُ والشهريّةُ، والكتبُ بجميعِ أصنافِها، ومحطّاتُ الإذاعةِ اللّاسلكيّة التي لا تفتُرُ في حشْوِ الآذانِ بما قيل وما يُقال: "حتّى كأنّ العالم في حُمّى وفي هذيان. أو كأنّ النّاسَ جُنّ جنونُهم فتحوّلت الأرضُ إلى مارستان".

كلماتُ صوتِ الإنسانيّة

يستعرضُ نعيمةُ هنا الكلماتِ الّتي يصدحُ بها صوتُ الإنسانيّة وكأنّها المفتاحُ السّحْريّ الّذي به يَفتتحُ العالمُ زماناً جديداً لحلِّ مشكلاتِه وأزماتِه وأوبئتِه وأمراضه المستعصِية عليه، قائلاً: "في هذا السَّيلِ الجارف من القيلِ والقال كلماتٌ تتردَّد أكثرَ من غيرها على كلِّ شفةٍ ولسان: الحربُ والسّلم. الاستعمارُ والاستقلال. الرّخصُ والغلاء. الاستِثمار والاحتِكار. الفوضَى والاستِقرار. الذّهبُ الأسود والذَّهبُ الأصفر. الأسواقُ الحرّة والأسواق المقْفَلة. وسلسلةٌ لا نهايةَ لها من الأزمات: أزْمةُ التَّموين، وأزمةُ السَّكن، وأزمةُ النَّقد، وأزمةُ المدارس، وأزمةُ المواصلات، وسِواها ثمّ سواها من الأزَماتِ. وهذه الكلماتُ والأزمات تضخّمُها الأغراضُ في ذهن السّامع إلى حدِّ أن تصمَّ أذنيْه وتكفَّ عينَيه عن كلِّ أمر عداها. فكأنّها من حياةِ البشريّة لبابُها، وكلُّ ما عداها قشورٌ. وكأنّ البشريّةَ إذا ما نالَت السِّلم والاستقلالَ والرّخصَ والاستقرار نالَت المعرفةَ الّتي لا سلمَ ولا استقلالَ ولا استقرارَ بدونها".

لكنّ رؤيةَ نعيمةَ الفكريّةَ العميقة تكشفُ زيفَ هذه الكلماتِ الّتي لا تُغْني ولا تُسْمِن من جوعٍ، فهي من حيثُ الشّكلُ إن نجحَت في حلِّ أزماتِ العالم المادّيّة، فهي عاجزةٌ عن حلّ مشكلاتِه الرّوحيّة: "كأنّ البشريّةَ إذا انحلَّتْ أزماتُها المادّيّة انحلَّت في الحالِ أزماتُها الرّوحيّة. فغدَت لا تكذبُ ولا تظلمُ ولا تسرقُ ولا تقتلُ ولا تَزني ولا تَبغضُ ولا تطمع من خيراتِ الأرض بأكثرَ من حاجتها، ولا تمرضُ، ولا تتألّم، ولا تموت..".

ونرى نعيمةَ يشكِّكُ في أهدافِ الدّاعين إلى إنقاذِ البشريّة من مآسيها وأزماتِها بالتّركيز على المشكلاتِ المادّيّة دون الالتفاتِ إلى الجوانبِ الرّوحيّة الّتي هي في جوهرِها سببُ مآزقِ العالم ومصدرُ بؤسِه وآلامه بقولِه: "ألا ليتَ القائمينَ على مقدّراتِ البشريّة - وبالأحْرى أولئكَ الّذين يتوهَّمُون أنّهم القائمُون على مقدَّراتها - ألا ليْتهم يعلَمون أنّ أزماتِها إنّما هي أزماتُ قلوبٍ لا أزماتُ بطون. وأزماتُ أفكارٍ لا أزماتُ جيوب".

وها هو نعيمةُ يعبّرُ بوضوحٍ عن مآسي أممِ الأرض الّتي باتتْ تنتشرُ عبرَ وسائلِ التّواصل، حتّى بات المرءُ في حَيرةٍ من أمرِه، همومَ مَن يحملُ ومآسيَ من يشكُو ويتألّم، وفي الأمسِ القريب لم يكنْ يشعرْ إلّا بما يحيطُ به، فاليومَ تضاعفَ الشُّعورُ بالألم وأصبحَ العالم جسداً واحداً يحسُّ كلُّ عضوٍ فيه بما تُعانيهِ أجزاؤُه الأخْرى من ألمٍ وشكْوى: "كنّا إلى عهدٍ قريب لا نحملُ من همومِ الأرض إلّا همومَنا، ولا نبثُّ في أذن الفضاءِ غيرَ شكوانا ونجْوانا. أمّا اليومَ فما ندري همومَ من نحملُ فوق همومِنا، وشكوى أيِّ النّاس ونجوى أيِّ الشُّعوبِ نبثُّ إلى جانب شكْوانا ونجْوانا. فما من أمّةٍ إلّا تستَغيثُ، وتُعربدُ، وتهدّدُ وتندّد. وما من دولةٍ إلّا تطمحُ إلى تركيزِ علمِها على هامةِ الجَوزاء. وما من بلدٍ إلّا ينبحُ على بلدٍ آخرَ، أو يكشّرُ لبلدانٍ أُخرى".

العالمُ سفينةٌ تائهةٌ

ونرى نعيمةَ يُطلقُ موجةً عارمة من التَّساؤلاتِ إزاءَ ما يحدثُ للعالمِ في زمانِه مُشبّهاً عالمَه بسفينةٍ تائهة عُرضَ البحر لا ندري سببَ الفوضَى الّتي حلّت بركّابِها قائلاً: "أمْ هي الفوضَى تَغْلي مراجلُها وتفورُ؟ أم أنّ ربّانَ سفينةِ البشريّة قضَى وكفُّه على الدّفّةِ، فتاهَت السّفينةُ بين الرّيحِ والموج، ودبَّ الذُّعر في الرّكّابِ، فكانت البلْبلةُ، وكانت الجلبةُ، وكانت الضوضاءُ الّتي تسمعُون؟".

لكنّ ميخائيلَ نعيمة يتلمَّسُ الأسبابَ الحقيقيّة لسفينةِ البشريّة التّائهةِ في عرضِ اليمِّ بوجود ثلاثةِ ربابينَ لا ربّانٍ واحد.. يقومون على قيادتِها، ويسهرُون على سلامتِها، فهمُ اليومَ منهمِكُون أكثر من أيِّ وقتٍ مضى في تنظيمِ شؤونِها، وتنظيفِ بيتها، والقضاءِ على أوبئةٍ ما تزال تنهشُها نهشاً: "فهم يصِلُون اللّيلَ بالنّهار في دأْبِهم وراءَ إسعادِ النّاس وتحريرِهم من الخوفِ والعوز والوصولِ بهم إلى ميناءِ السّلام. وها هي ذي أصواتُهم تتسابقُ إلى الآذان في كلِّ مكانٍ وترتفعُ فوق كلِّ صوت. وها هي ذي أعمالُهم على كلِّ شفةٍ ولسان".

ويسخرُ نعيمةُ بأسلوبٍ أدبيٍّ بارعٍ من عملِ هؤلاء الرَّبابنةِ الثّلاثة الّذين يقودون سفينةَ العالم، فهم النَّاطقُون باسم البشريّة، وهم العارفُون بهدفِها، وهم السَّائرُون بها في ثقةٍ إلى خيرِها وسعادتِها: "وما من شكٍّ يُخامرُهم أبداً أو يُخامر سامعيهم والمعجَبينَ بتفانيهم في أنَّهم إذ يتكلَّمون فبلسانِ البشريّة يتكلّمون. وأنّهم إذ يُقرّون أمراً فلخيرِ البشريّة ما يقرّون. وأنّهم يعرفُون هدفَ البشريّة. فهم إلى ذلكَ الهدفِ بسفينةِ البشريّة سائِرون".

ولا شكّ في أنّ هؤلاءِ الرّبابنةَ الّذين يقودُون سفينةَ العالمِ هم ساسةُ العالم ورجالُ الاقتصاد فيه، والسّياسةُ والاقتصادُ حليفانِ منذُ أصبح النّاسُ جماعاتٍ تُساسُ وتنعمُ بخيراتِ الأرض والسّماء. فالسّياسةُ تَبني بيتَها على الاقتصاد. والاقتصادُ يُشيدُ صرحَه على السّياسة. والاثنانِ يُقيمان حصنَهما على حدِّ السّيف، فهل ثمّةَ خوفٌ على الإنسانيّة بعد أن علِمْنا مَن يقود سفينتَها إلى هدفِها ويسعى لخيرِها وسعادتِها؟!

حقيقةُ التّحالفِ الثّلاثيّ

ويتعمّق نعيمةُ في فضحِ طبيعةِ ذلك التّحالفِ الثّلاثيّ الّذي يقود العالمَ في الحقيقةِ إلى مآزقِه وأزماتِه وأوبئتِه وأمراضِه ثمَّ هلاكِه فحتْفِه، مُوهِماً البشريّةَ بأنّه المنقذُ من الضّلالِ والهادي إلى السّعادةِ والمتفاني في خلاصِ الإنسانيّة من آلامِها وأوبئتها، فذاك هو التّحالفُ الثّلاثيّ الّذي ما تصدَّع حتّى اليوم. وأولئك هم الحلفاءُ الأوفياء الّذين نذروا أنفسَهم لخدمةِ الإنسانيّة والسَّير بها إلى مراتعِ السعادةِ ومروجِ الهناء: "فلا عجبَ أن ترتفعَ أصواتُهم فوق كلِّ صوتٍ وفي كلِّ زمانٍ ومكان. فهم في اعتقادِهم واعتقاد النّاسِ إنّما يتكلّمون بلسانِ البشريّة جمعاءَ. فالأرضُ منبرهم. وآذانُ النّاس أينما كانوا وقْفٌ على ما يقولُون. والأرضُ ميدانهم، والنّاسُ جندُهم، والقيادةُ لهم. فما على النّاسِ إلّا الامتثالُ لما يأمرُون وينهَون".

ويُبرزُ نعيمةُ تجبُّرَ ذلك التّحالفِ الثّلاثيّ على الإنسانيّة وتعاليَه عليها باستغلالِها وإنهاكِها والإمعان في إذلالِها والسّيطرةِ عليها، وكأنّه إلهٌ أو شبهُ آلهةٍ تقود العالمَ، ولولا آياتُ ربّكَ الثّاقباتُ في الكونِ: في السّماء والأرضِ والبحار، لأوهمَنا رجالُ ذاك التّحالفِ بأنّهم هم الرّبابنةُ المنظّمةُ للكون والعالم: "فلولا أنَّ الشّمسَ ما تزال تشرقُ وتغرب في مواعيدِها، والكواكبُ ما تنفكُّ تدور وتتغامزُ في أفلاكِها؛ ولولا أنّ الأرضَ ما تبرحُ أرضاً، فالبحارُ تنشد أحلامَها الأبديّة ضمن شطآنِها، وما في البحارِ من غريبِ العوالم يَحيا حياتَه بنظام.. أقولُ لولا كلُّ ذلك لأوهمَنا رجالُ الحلف الثّلاثي بأنّهم ليسُوا ربابنةَ البشريّة لا غيرَ، بل ربابنةُ المسكونةِ بأسْرها. فالحياةُ في يُمْناهم، والموتُ في يُسراهم، والحقُّ في أفواهِهم، والعدلُ في نصالِهم، والحرّيّةُ من شقوقِ أقلامهم. وهم مهندسُو العالم، وهم البنَّاؤون".

أعمالُ التّحالفِ الثّلاثي

وتبلغُ سخريةُ نعيمة غايةَ مبلغِها من رجالِ ذلك التّحالفِ الثّلاثيّ الّذي يقود العالمَ، فهم يبنُون العالم ويهندسونَه على نقيضِ الخلقِ ونواميسِ الحياة الّتي أبدعَها الخالقُ عزّ وجلّ في كونِه وفي إنسانِه، فقلبُ البشريّةِ واحدٌ على امتدادِ المعمورة مهْما اختلفَت الأشكالُ والألوان، وفِكرُ الإنسانيّة وخيالُها يتجاوزانِ تلك الحدودَ والسّدود الّتي رسمَها الحلفُ الثّلاثيّ: "إنّهم ليهندسُون عالماً كلُّه سدودٌ وحدود، وذلك في فضاءٍ لا سدودَ فيه ولا حدود، ولكائنٍ عجيبٍ اسمُه الإنسانُ ما فتئ منذُ أن كان يناضلُ بكلّ قواهُ ضدَّ الحدود والسدود. فهو قد اتّخذَ من ذكائِه أجنحةً ليتخلَّصَ بها من حدودِ المسافات تكبّلُ رجليهِ البطيئَتين. مثلَما جعل للأثيرِ ألسنةً تنطق بلسانِه، وآذاناً تسمع بأذنِه ليَعتقَ لسانَه وتتحرّر أذنُه ممّا قام في سبيلِهما من سدود. وهو قد فتح قلبَه لكلِّ القلوب مهما يكُنْ لونُ أصحابِها أو دينُهم أو موطنُهم. فدمعةٌ في عينِ إنسانٍ أسودَ تفهمُها دمعةٌ في عين إنسانٍ أبيض. وبسمةٌ على وجهٍ أحمرَ ليست غريبةً عن بسمةٍ على وجهٍ أصفرَ. فالحزنُ والفرح، والموتُ والحياة لا تعرفُ السّدودَ والحدود، ولا موطنَ لها إلّا قلبُ الإنسان."

ويسوق نعيمةُ الأدلّةَ والبراهين على وهنِ الحدود والسّدود الّتي بناها رجالُ الحلفِ الثّلاثيّ للحيلولةِ دون التّواصلِ بين البشريّة، فأفكارُ النّاس تتلاقحُ وتتوالد بغيرِ انقطاعٍ هازئةً بالحدود وساخرةً بالسّدود، فمن الأيسرِ لهم أن يقيمُوا الحدودَ بين أشعّةِ الشّمس، والسّدودَ بين نسماتِ الجوّ أو أمواجِ البحرِ من أن يقيمُوها بين فصائلِ النّاس، أو بين أقطارِ الأرض؛ وذلك لأنّ أفكارَ النّاس وأحاسيسَهم وأحلامَهم في اتّصالٍ أبديّ رغمَ المسافاتِ والعقبات، ورغم الحدودِ والسّدود، ورغمَ كلِّ ما يبذلُه رجالُ السّياسةِ والاقتصادِ والحرب للحؤُول دون ذلكَ الاتّصال.

ومن الأمثلةِ والأدلّة الّتي يسوقُها نعيمة والّتي تتجاوزُ حدودَ الزّمان وسدودَ المكان: الآدابُ والعلومُ والفنونُ، فهي تتخطّى الحدودَ وتخترقُ السّدودَ لتصلَ النّاسَ أينما كانوا، ومن أيِّ جنسٍ كانوا، بعضَهم ببعضٍ: "فابنُ رشدٍ، وإن يكُن عربيَّ المنبتِ واللّسان، ليس للعربِ وحدَهم ولا هو تناول أفكارَه منهم دونَ غيرِهم من الأمم.

وشكسبيرُ، وإن يكُن إنكليزيَّ المولدِ، ليس للإنكليزِ وحدَهم، ولا هو استمدَّ أدبَه من تربةِ إنكلترا وحدَها. كذلك باستور ليس للفرنسيّينَ، ولا بيتهو فن للألمانِ ولا تولستوي للرّوسِ ولا أديسون للأميركيّينَ بل للنّاسِ أجمعين. وهكذا قولُوا في كلِّ مَن أنجبَتْهم الإنسانيّةُ من عباقرةٍ ورسلٍ ورفعَتهم منائرَ لكلِّ من طلبَ النّورَ من أبنائها بقطعِ النَّظرِ عن الجنس والموطنِ واللّسان" .

ويبيّنُ نعيمةُ عبثيّةَ جهود رجالِ التّحالفِ الثّلاثيّ وانعدامَ جدواها في تشييدِ الحدودِ والسّدود بين أفكارِ الإنسانيّة وأحاسيسِها وأحلامِها، فهي في تزاوجٍ دائم عبرَ الحدودِ والسّدود، أفليسَ هؤلاء الّذين يخلقُون تلك الحدودَ والسّدود، ثمّ ينفقُون جهودَهم وجهودَ العالم في تدعيمِها وتثبيتها إنّما يهدرُون جهودَهم وجهودَ العالم إذ يُعاندون اللهَ تَعالى، ويقاومونَ الطّبيعةَ، ويعرقلُون خُطا الإنسان في سيرِه إلى هدفِه البعيد، ألا وهو التّخلُّصُ من كلّ الحدودِ والسّدود؟

ويصفُ عملَهم بالمستحيلِ الّذي لا يمكنُ تحقيقُه ما دامت أفكارُ النّاس ومشاعرُهم وأشواقُهم في اتّصالٍ لا انفصالَ فيه: "فأيُّ بطولةٍ هي الّتي تقتصُّ منهم بتقييدِ أيديهم وأرجلِهم لا غير؟ وأيُّ حكمةٍ في تلك البطولة؟ ومتى كان الإنسانُ بيديهِ ورجليه قبل أن يكونَ بفكرِه وقلبه؟ ومتى كان ببطنِه قبل أن يكونَ بخيالِه؟ أو بلونِ جلْدِه وشكلِ جمجمتِه قبل أن يكونَ بلونِ إيمانِه وشكل هدفِه؟".

وفي الختامِ استطاع نعيمةُ بفكرِه الثّاقبِ وفلسفتِه الشّاملةِ العميقة أن ينقلَ لنا أصواتَ الكون بكلِّ ما تحملُه من دلالاتٍ وأهدافٍ ساميةٍ نبيلة، كما استطاع أن يُوصلَ إلينا صوتَ البشريّة على امتدادِ الكرة الأرضيّة، وقد تمثّلَ ذلك الصّوتُ في ثلاثةِ أقانيمَ تحكمُ العالمَ وتهندسُ وجودَه وحياتَه من خلال أهدافِه الواهيةِ البرّاقة بالتّعاضدِ المقِيت بين أطرافِ التّحالفِ الثلاثيّ: السّياسةِ والمال والسُّلطة، ولكنّه قدَّم الأدلّةَ الدّامغة على ضعفِ ما يُخطّطون وما يرسمُون، وذلك لأنّ صوتَ البشريّةِ الحقيقيّ في قلبِها وفكرِها وخيالِها، لا في جيوبِها و بطونِها، فلا أدلُّ على ذلكَ من أمثلةِ علماء الفكرِ والعلوم والفنون الّذين أنجبَتهم البشريّةُ لخيرِها شرقاً ومغرباً شمالاً وجنوباً، دون أن يُعيقَ من انتشارِ فكرِهم وخيالِهم عائقٌ ممّا أقامَه رجالُ الحلفِ الثّلاثي في وجهِ قوانين الحياةِ والكونِ والطّبيعة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى