الأحد ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

صوتُ العالم وإيمانُ نعيمة

بعد أن قدّم نعيمةُ رؤيتَه الفكريّة والفلسفيّةَ لأصوات الكونِ من خلال ما تَشي به وما ترمي إليه، ليركِّزَ جلَّ مطارحاتِه الفكريّة على صوت البشريّةِ المندغمِ بين أصواتِ العالم، ليبيِّنَ ضلالَ هذا الصّوتِ الّذي يمثِّلُه الحلفُ الثّلاثي: السّياسةُ والاقتصاد والقوّة، لأنّه ينشدُ الحدودَ والسّدود في عالمٍ لا حدودَ فيه ولا سدود، كما رأينا في مقالةٍ سابقة، فها هو يُعلنُ للملأ فشلَ أهدافِهم ومخطَّطاتهم لمخالفتِها لنواميس الكونِ وربِّ الكون، لأنّها ركّزَت جلَّ اهتمامِها على الجوانبِ المادّيّة مع كذبِ ادّعاءاتهم وخداعِ مراميهم، لكنّها أهملَت الجوانبَ الرّوحيّة الّتي يظلُّ الإنسانُ في ضنكٍ شديد دونها، ويأتي إيمانُ نعيمة الحقيقيُّ صوتاً فريداً يعبّر عن هموم البشريّةِ وتطلُّعاتها، وهو يختلف في جوهرِه عن إيمانِ رجال السّياسة والدّين والمالِ والقوّة الّذي تجسّدَ وما يزالُ في حكمِ البشريّة، وأستطيعُ أن أقرَّ وأعلنَ بأنَّ الحلفَ الّذي يقود العالمَ رباعيٌّ، فثمَّةَ تزاوجٌ بين السّياسةِ والدّين، وثمّة نسبٌ بين المالِ والسّيف، والكلُّ عائلةٌ ملكيَّة مطْلقةٌ تحكم العالمَ وتقودُه إلى دمارِه وهلاكِه وفنائه.
وخيرُ ما يعبّر عن وهْنِ ما يهندسُه الحلفُ الثّلاثيّ أمام إيمانِ نعيمة المطلقِ بقدرة الخالقِ عزّ وجلّ ومعرفتِه بكلّ مكنوناتِ الكون وأسرارِه قولُه: "العالمُ الّذي يهندسه لنا رجالُ التّحالف الثّلاثي – عالمُ حدودٍ وسدود- ما ثبتَت يوماً لريحٍ ولا جلبَت للنّاس غيرَ الكروبِ والحروب. ومن ثمّ فهم يرسمُون ما يرسمُون، ويخطّطُون ما يخطّطون في معزلٍ تامّ عن الكون، وعن مشيئةِ ربِّ الكون. وهل عالمُنا البشريُّ بالنّسبة إلى الكون إلّا كنقطةٍ في مصحفٍ؟ إنّها لنقطةٌ ذاتُ قيمةٍ من غير شكّ. ولكنّها ليست المصحفَ. ولكنّها تجهلُ القصدَ من المصحف ومن وجودِها فيه حيثُ هي. أمّا كاتبُ المصحف فيعرفُ ما تجهل".

ويعبّر نعيمةُ عن ضعفِ البشر ووهنِ مشيئَتِهم أمام مشيئةِ ربِّ الكون، من خلال تشبيهِ إرادة البشر بخيطٍ ضمن نسيجٍ مكتملِ الخيوط، وبالرّغم من أهمّيّة هذا الخيطِ ضمن ذلك النّسيجِ إلّا أنّه لا يدركُ الصّلاتِ الّتي تربطُه ببقيّة خيوطِ النّسيج ولا هدفَ حائكِ ذاكَ النّيسج الّذي أبدعَه الخالقُ العالِمُ بكلِّ ما يشاءُ، وثمّةَ علاقةٌ جدليّة بين البشرِ والكائنات، ولكلٍّ منهما غايةٌ من وجودِ الآخر، فإنْ لم يُحْسن البشرُ إدراكَ غايتِهم من الكون وغايةَ الكونِ منهم، وإن لم يُفلِح البشرُ في التّوفيق بين تيْنِك الغايتينِ، ظلّوا ريشةً في مهبِّ الرّيح لا تعرفُ لها قراراً، وخشبةً في عرضِ اليمِّ تتلاعبُ بها الأمواج: "ونحن ما لم نعرفْ غايةَ الكون منّا وغايتَنا من الكون، تعذّر عليْنا التّوفيقُ بين الاثنتين. ونحن ما لم نوفَّقْ بين الغايتين، بقيْنا ريشةً في مهبّ الرّيح وخشبةً على غارب اليمّ" .

وانطلاقاً من رؤية نعيمة الشّاملة القائمةِ على الإيمان بحقائقِ الكون ومشيئةِ الخالق، نراه يقدّم البراهينَ والحجج المنطقيّة، فيشبِّهُ عمل مهندسي عالمِ الإنسان في السّياسةِ والاقتصاد والحرب بمعزلٍ عن سائر العوالمِ الأخرى بعملِ جماعةٍ من الفئران الّتي استوطنَت مخزناً من مخازن سفينةٍ في البحر، فراحَت تتناهشُ على اقتسامِ ما في المخزنِ من مأكلٍ ومشرب، وتتشاحنُ على الأقدرِ فيها لقيادةِ تلك السّفينةِ، دون أن تأخذَ بالحسبانِ حاجةَ ركاّبِ السّفينة من مؤونةِ تلك المخازن، ودون أن تُقيمَ وزناً لأنواءِ البحر وحركةِ النّجوم والكواكبِ في مجاريها، ودون مبالاةٍ بربّان السّفينةِ ومشيئتِه الّتي توجّهُها: "إنّ مَثلَ الّذين يهندسُون عالمَ الإنسان في معزلٍ عن سائر العوالمِ هو مثلُ جماعةٍ من الفئران استوطنَت مخزناً من مخازن سفينةٍ في بحر. ثمّ راحَت تتسابقُ وتتقاتل وتتناهش على ما في المخزنِ من مأكلٍ ومشرب، وتتشاحن في أيّها الأهمُّ والأشرف والأقدر على تسيير السّفينة..".

وها هو نعيمةُ يفنّدُ مزاعمَ مهندسي عالمِ الإنسان بجملةٍ من أسئلةِ الاستغراب والدّهشة، فيتساءلُ: "كيف للإنسان أن ينظِّمَ عالمَه من غير أن ينظّمَ كلَّ العوالم الّتي تتشابكُ حياتُه بحياتِها تشابكاً لا ينفُذُ البصرُ إلى أوّلِه ولا البصيرةُ إلى آخره؟ كيف لهُ أن يوزّعَ خيراتِ الأرض والسّماء بالإنصافِ وما هي من عندِه ولا في قبضتِه؟ ولو شاءت الأرضُ والسّماء لحبسَتا عنه خيراتِهما، فعليه قبلَ أن يحالفَ إنساناً مثلَه أن يحالفَ السَّماءَ والأرض أوّلاً. وإلّا كان ما يزرعُه عذاباً مرّاً، وما يحصدُه عذاباً أمَرَّ".

وتبلغ فلسفةُ إيمان نعيمةَ ذروتَها في بيان ضعفِ الإنسان أمام عظمةِ الخالقِ سبحانه، فالإنسانُ ما هو إلّا عبدٌ حقير أمام كلِّ مظاهر الكونِ والطّبيعة، فكيف له أن يحرِّرَ نفسَه وغيرَه من سطوةِ هذه العبوديّة، ناهيكَ عن عبوديَّتِه لأهوائِه وجهلِه وادِّعائه: "كيف له أن يتحرَّرَ من جارِه وهو وجارُه عبدانِ للتُّراب وكلِّ ما يُنبتُه التّرابُ، وللهواءِ وكلِّ ما يتنفَّسُه الهواءُ، وللبحرِ وكلِّ ما يقذفُه البحرُ، وللكواكبِ وكلِّ ما تفعلُه الكواكبُ؟ وماذا أقولُ في عبوديَّتِه لأهوائِه ولجهلِه وادّعائه؟"

ويمضي نعيمةُ في تقديم الأدلّةِ والحجج على ضعفِ الإنسان، كي يفنِّدَ مزاعمَ رجالِ السّياسة والاقتصادِ والعسكر في قيادةِ سفينة العالم من خلال تساؤلاتِ الدَّهشةِ والاستنكار الّتي تؤكّدُ عمقَ إيمانِه باللهِ ومشيئتِه جلّت قدرتُه، ثمّ إيمانِه بنفسِه: "كيف له أن يُسيّر سفينتَه، وما هو وسفينتُه سوى بعضٍ من حمولةِ سفينةٍ لا حدودَ لها ولا سدودَ في وجهِها – هي سفينةُ المسكونةِ؟ كيف له أن يعرفَ اتّجاهَه من غير أن يعرفَ اتّجاهَ السَّفينةِ الكُبرى ومشيئةَ ربّانِها – وهي مشيئةُ الله؟ كيف له أن يعرفَ مشيئةَ الله من غيرِ أن يُؤمن بالله؟ وأخيراً، كيف له أن يؤمنَ بالله من غيرِ أن يؤمنَ بنفسِه؟"

ويكتملُ إيمانُ نعيمة من خلال التأكيدِ على أهمّيّة إيمانِ الإنسان بالله وبنفسِه الّتي هي صورةُ الله على الأرض، ويُعدُّ ذلك الإيمانُ الشّامل حجرَ الزّاوية في حياةِ الإنسان، وكلُّ بنيانٍ يشيدُه الإنسان دون ذلك الإيمانِ مصيرُه الانهيار، وهذا ما ينطبقُ بالتّأكيد على البنيانِ الّذي يهندسُه مهندسو العالم من رجال الحلفِ الثّلاثيّ الّذين لا يسمعُون ولا يعُون من أصواتِ العالم غيرَ قرقرةِ البطون وفحيحِ الشّهواتِ السّود في نفوسٍ ما تزال رهينةَ عبوديّةِ الذّلّ لشهواتِها وملذّاتها البهيميّة وأقذرِ مراميها في المجدِ والشّرف: "وإذن كان الإيمانُ بالله وبالإنسانِ الّذي هو صورةُ الله ومثالُه حجرَ الزّاويةِ في حياة الإنسان. وكلُّ بنيانٍ لا يقوم عليه مصيرُه حتماً إلى الانهيار. وهو مصيرُ العالم الّذي هندسَه من قبلُ، ويهندسُه اليومَ رجالُ الحلفِ الثّلاثي".

فكلُّ هندسةٍ لعالم الإنسانِ دون الإيمانِ بالله إيماناً يتجاوزُ الحدودُ والسّدود وهو حنينُ الإنسان الصّارخُ في أعماقِه للانعتاقِ من الحدود والسّدود، هي هندسةٌ فارغة من كلِّ مضونٍ وخاويةٌ من كلِّ جدوى، وذلك الإيمانُ الحقيقيُّ هو صوتُ العالم بأسرِه من الأزلِ وإلى الأبد: "أمّا حنينُ الإنسان الأبديُّ إلى الانعتاقِ من الحدودِ والسدود والوصولُ إلى حيثُ لا قيودَ ولا سدود - أمّا ذلك الحنينُ الصّارخ الصّابرُ فلا يسمعونَه ولا يعُونه. في حين أنَّ ذلك هو صوتُ العالم بأسرِه من الأزلِ وإلى الأبد".

حقيقةُ بناءِ الحلفِ الثّلاثيّ

ويمضي نعيمةُ في تعريةِ مخطَّطاتِ الحلف الثّلاثيّ وأهدافِهم الدّنيئةِ البعيدة عن القيم الإنسانيّةِ السّامية في هندستِهم لبناءِ العالم، ويفضحُ أساليبَهم القذرةَ، فهم "يحاولون بناءَه على براكينِ النّفط... وعلى أسنِمةِ الأمواج! وعلى الفِلسِ، وعلى شفرةِ السّيف. ومن بعدِ ذلك على ما يستطيعُون أن يوقظُوه في قلوبِ النّاس من جشعٍ وبغض وحذرٍ وخوف، وأن يثيروهُ في أفكارِهم من قلقٍ وشكّ وسوءِ تفاهمٍ وقطيعة".

أمّا القيمُ الأخلاقيّة النَّبيلةُ كالصّدقِ الّذي ما ماتَ بعدُ في النّاس، والمروءةِ وحبِّ التّعاون والشّعورِ بالمسؤوليّةِ الإنسانيّة المشتركةِ تجاهَ ما يزالُ عاصياً وغامضاً على الإنسان، والإيمانِ بالإنسانِ وهدفِه البعيد، فهذه لا تصلحُ أسساً لبناءِ الحلف مثلَما يصلحُ المدفعُ حارساً لبنائِه، هذا المدفعُ الّذي ما حرسَ إلى اليومِ بناءً إلا دكّه ودمّره، فها هي أصواتُ بنّائي العالمِ تملأُ الجوَّ والصّحفَ بأصواتِ الحربِ والدّمار، والنّاس يصغُون بلهفةٍ، ويقرؤون بشوقٍ، ويهلّلُون، ويكبّرون – وينتظرون!

فماذا أقولُ لك أيُّها الفيلسوفُ المؤمن عن زمنٍ لم تُدركْهُ عيناكَ ولم تبلغُه روحُك؟! فلقد تطوّرت أسسُ بناء الحلفِ الثّلاثيّ إلى ما لم يخطرْ على بالِ شياطينِ السّماء من وسائلِ تدميرِ الإنسان الممنهجِ، تارةً باسمِ التّطوّر، وتارةً باسم الدّيمقراطيّة، وتارةً باسم التّحضُّر، وتارةً باسم التّشابُه، وتارةً باسمِ التَّماثل، وتارةً باسم التّناظرِ، وتارةً باسم التَّخاطر، وتارةً باسم عفاريتِ الجنّ، فكلُّ محرّماتِ السّماءِ مستباحةٌ، وأرخصُ سلعةٍ هي الإنسانُ، ولا صوتَ يعلو على صوتِ القنبلةِ النّوويّة الّتي لا يمتلكُها إلّا مهندسُو بناءِ العالم؟!

هذا ما فعلَهُ وما يفعلُه أحدُ الحلفاءِ الثّلاثةِ في العالم، ألا وهو السّيفُ أو المدفعُ..، فما بالُكم بالحليفينِ الآخرين: السّياسةِ والاقتِصاد؟!

يأتي ردُّ نعيمةَ على الحليفِ السّياسيّ بصورةٍ مألوفة يعرفُها جميعُ الخلقِ، فيشبّهُ السّياسةَ بالبركةِ العكرةِ الّتي يسبحُ فيها السّياسيّون كالأولادِ فيزيدونَها عكراً بحركاتِهم، ثمّ يعجبُون كيف لا تصفُو ولا تسكُنُ، ولو أنّهم تركُوها وشأنَها لعادَ إليها سكونُها وصفاؤُها!

ويأتي ردُّ نعيمةَ على الحليفِ الاقتصاديّ ردّاً صريحاً لاذعاً، إذ يرى أنّ الاقتصادَ والاقتصاديّين يقتلُون بعضَ النّاس بالتُّخمةِ، وأكثرَهم بالجوع، ثمّ يعجبُون لهذا العالمِ كيف لا يستقرُّ على حالٍ بين جائعِه ومُتخَمِه. ولو أنّهم تركُوا أمرَ توزيع الأرزاقِ لباعثِ الأرزاق لأراحُوا النّاسَ واستراحُوا.

ويُجمِلُ نعيمةُ عصارةَ رأيِه في بناء الحلفِ الثّلاثيّ بكلماتٍ من ذهبٍ تختصرُ المعاني، فكلُّ بناءٍ من عملِ السّياسةِ أو الاقتصاد أو المدفعِ مصيرُه الحتميُّ إلى الهدمِ والدّمار، لأنّ الإنسانيّةَ ليست مجموعةً سياسيّةً أو اقتصاديّة أو حربيّةً، وإنّما هي ذرّيّةٌ إلهيّةٌ في طريقِها إلى مصدرِها الإلهيّ: "لا. ما بنَتْ السّياسةُ حتّى اليوم بيتاً إلا قوّضَتْه السّياسةُ. ولا شادَ الاقتصادُ صرحاً إلا دكّهُ الاقتصادُ. ولا قامَت مملكةٌ على حدِّ السّيفِ إلّا هوَت بحدِّ السّيفِ. ذاك لأنّ الإنسانيّةَ ما كانت يوماً من الأيّامِ مجموعةً سياسيّةً أو اقتصاديّةً أو حربيّة لا غير. بل كانت – وما برحَت – ذرّيّةً إلهيّة في طريقِها إلى مصدرِها الإلهيّ..".

فالبشريّةُ -الذّرّيةُ الإلهيّة- بأصواتِها المبلْبِلةِ اليومَ وقد طغَت عليها أصواتُ السّياسيّين والاقتصاديّينَ ورجالِ الحرب قد رهنَت ميراثَها الرّوحيّ لإبليسَ لقاءَ دُريهماتٍ برّاقةٍ خدّاعة زائفةٍ، فهي اليومَ بأمسِّ الحاجةِ إلى استردادِ ميراثِها صافياً، كاملاً، وطليقاً من كلِّ قيدٍ وشرط.

الإيمانُ منقِذُ البشريّة

يجبُ على البشريّة أن تستعيدَ ميراثَها الرّوحيَّ وتحافظَ عليه، وذلك الميراثُ هو الإيمانُ بالله الّذي لا حياةَ إلّا منه، ولا وجودَ إلّا فيه، ولا حرّيّةَ إلّا في محبَّتِه، ولا عدلَ إلّا في نظامِه، ولا قدرةَ إلّا في معرفتِه. والإيمانُ بالله لا يقومُ إلّا على الإيمانِ بالإنسان.

أمّا ما يبثُّه رجالُ الحلف الثّلاثيّ في أفكار البريّةِ من أفكارٍ شيطانيَّة بأنْ لا وجودَ للبشريّةِ إلّا ضمنَ الحدودِ الجنسيّة والإقليميّةِ، ولا راحةَ إلّا وراءَ السّدود الاقتصاديّةِ والاجتماعيّة، ولا حقَّ إلّا للقوّة، ولا قوّةَ إلّا للمدفعِ. وأنّ هناك (مدنيّةً) لا حياةَ إلّا منها، ولا سعادةَ إلّا بها، ولا حرّيّةَ إلّا في نظُمِها، ولا عدلَ إلّا في ميزانِها، فكلُّ ذلك أوهامٌ وأضاليلُ لا تحملُ غيرَ الخداعِ والأباطيل: "ولو أنّها عرفَت من الحرّيّةِ أكثرَ من اسمِها ومن العدلِ أكثرَ من حروفِه لما كانَت تتخبَّطُ في دياجيرِ المحنِ والقلاقلِ كما نراها اليومَ. هي المدنيّةُ الّتي قلْتُ فيها قبلَ اليوم إنّ قلبَها في بطنِها، وفكرَها في جيبِها، فإنْ جاع بطنُها جاعَ قلبُها، وإن أقفرَ منها الجيبُ أقفرَ منها الفكرُ. وما الحقُّ والعدلُ والحرّيّةُ والإخاءُ والمساواةُ سوى كلماتٍ على شفتَيها. أمّا معانيها ففي بطنِها وفي جيبِها. وأمّا الدُّريهِماتُ البرّاقةُ فكلماتٌ مطليّةٌ بالسُّكَّر، محشوّةٌ بالحنظل: استقلالٌ. حرّيّة. ديمقراطيّة. وطنيّة. مجدُ شرفٍ. مكانةٌ في الشّمس. وما إليها من الكلماتِ الّتي تُغوي ولا تُرضي" .

أمّا الحقيقةُ المطْلقة الّتي تحملُ قيمَ الحقِّ والعدل والمساواةِ والحرّيّة والانطلاقِ فهي في الإيمانِ بالله، ويتجلّى هذا الإيمانُ في القلبِ والفكرِ والرّوح، كما يرى نعيمةُ بفكرِه المتوقّدِ بفلسفةِ الحقائق:
إنّ قلباً مؤمناً لقلبٌ عادلٌ أبداً. العادلُ لا يظلِمُ، والمظلومُ لا يعدِلُ. والعالمُ اليومَ مظلومٌ وظالم. ولن يعرفَ العدلَ حتّى يعرفَ الإيمانَ.

إنَّ فكراً مؤمناً لفكرٌ يستحيلُ على العبوديّةِ أن تَبني فيه أعشاشاً. الحرُّ لا يستَعبِدُ والعبدُ لا يُحرّرُ. والعالمُ اليومَ مُستعبِدٌ ومستَعبَدٌ. ولن تكونَ له الحرّيّةُ حتّى يكونَ له الإيمانُ.

إنّ روحاً مؤمناً لروحُ غنيّ وعزيز. الغنيُّ لا يستَجْدي. والفقيرُ يُجدي. والعالمُ اليومَ يستَجدي ولا يُجدي. وسيَبقى فقيراً وخسيساً إلى أن يتذوّقَ غنى الإيمانِ وعزّةَ الاعتصامِ به.

ويدعونا نعيمةُ إلى الإصغاءِ إلى صوتِ العالم الحقيقيّ بمعزلٍ عن لوثةِ صوت الحلفِ الثّلاثيّ، حينها ندركُ شوقَ الإنسانيّةِ إلى الإيمان وما يحملُه من غذاءٍ وسلمِ وطمَأنينة: "ليت لكم أن تُصغُوا إلى العالم بآذانٍ ما شغلَتها جلبةُ السّياسيّين والاقتصاديّين ورجالِ الحرب عن كلِّ ما في العالم. إذن لسمعتُم قلبَ العالم ينبضُ بأشواقٍ لافحةٍ إلى طعامٍ وشراب غيرِ الخبزِ والماء، و إلى سلمٍ غيرِ سلم المؤتمراتِ والمعاهدات، وإلى طمأنينةٍ غيرِ الّتي يهدرُ بها المدفعُ وتذودُ عنها الدّبّابةُ. إنّه ليشتاقُ الإيمانَ الحيَّ وما فيه من غذاءٍ وسلم وطمأنينةٍ. أجلْ! ذلك ما يصبُو إليه العالمُ: الإيمانُ! وهو يصبُو إليه بكلِّ قلبِه، وكلِّ فكرِه، وكلِّ روحِه."

وفي الختامِ استطاع مفكّرُنا العبقريُّ ميخائيل نعيمة أن يقدّمَ رؤيةً شاملةً لحلِّ معضلاتِ العالم الّتي نتجَت عن هندسةِ بناء الحلفِ الثّلاثيّ للعالم: السّياسةِ والاقتصاد والحربِ، وقد استطاع بيانَ زيفِ وهشاشةِ بنائِهم القائمِ على الدّعايةِ والهيمنة والغطرسةِ، لكنّه لم يألُ جهداً في تفنيدِ مزاعمِهم ومراميهم الوضيعةِ من خلالِ الحججِ والبراهين، كما أنّه استطاع تقديمَ رؤيتِه الإيمانيّةِ لحلِّ مشكلاتِ العالم الّتي كانت ولا تزالُ تؤرّقُه، وقد أفلحَ في تقديم نظريّتِه في إقناعِ المتلقّي، إلّا أنّ المهمَّةَ ستظلُّ عصيَّةً في مركبٍ صعبٍ، ما لم ينهضِ الشّرقُ بذلك الإيمانِ الضّائع في مواجهةِ زيفِ القيم المدنيّةِ الغربيّةِ الّتي تقودُ العالمَ إلى حتفِه ونهايتِه. وهذا ما أتركُ الحديثَ عنه إلى مقالةٍ أخرى.. واللهُ وليّ التّوفيق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى