الأربعاء ٩ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم توفيق الرصافي

طبشور

تقدم بخطوات بطيئة حذرا حتى بلغ الجدار المتسخ الذي ينتصب في وسط المدينة مثل تمثال لإمبراطور قديم والتفت حوله كالخائف.الصمت نار تحرق المكان وتلفه في لفافة من الرهبة وتزرع في نفسه هلعا شديدا يزيده هذا السواد القاتم، الذي يبسط رداءه على المكان، حدة، ويذكي اشتعال شرايينه ويضاعف خفقان قلبه.

أغمض عينيه للحظة وتنفس بعمق شديد لثوان وهوواقف أمام الجدار المهترئ حتى عاود قلبه بعض الاطمئنان فأخرج قطعة الطبشور من جيب بنطاله الأسود وخط:" أن تكون إنسانا حقيقيا يعني أن تكون مثقفا". تراجع خطوتين إلى الخلف والفرحة تغمره وطفق يقرأ ما كتب في انتشاء بالغ. وفجأة، خيل إليه وكأنه سمع خشخشة بعيدة تقترب منه، فوقف شعر رأسه رعبا وانقبض قلبه انقباضا لا مزيد عليه. ودون أن يفكر ودون أي إبطاء أوانتظار أطلق لساقيه العنان وغاب في الظلام الدامس بينما سقط الطبشور على الأرض الصلدة بقوة فانكسر.
أخذت الخشخشة تقترب أكثر فأكثر من الجدار وتتوضح شيئا فشيئا حتى تجلت خطوات ثقيلة مسرعة ولهات متواصل. وكسر صوت متعب منهك حجاب الصمت والسواد:

ـ لقد أفلت اللعين مرة أخرى..

ـ سيأتي يوم ويقع.. وعندها..

وكز على أسنانه غيظا وحنقا، فعاد الصوت الأول يسأل:

ـ ماذا سنقول له غدا..؟

وخيم صمت ثقيل على المكان للحظات قبل أن يأتي الجواب مقتضبا حانقا كالعادة:

ـ لاشيء.. هرب كالعادة..

ـ هذا قد يعني نهايتنا الحتمية..

وأشرقت الشمس دافئة تحمل خيوطها همسات المارة وهي تتناقل في تكتم قصة الطبشور المتمرد الذي يغتصب في كل ليلة صمت الجدار المتسخ المتهرئ ويفقده عذريته ليرسم حياة أخرى تنبض بالحياة، وتذكي حرارتها غيظ البعض وتذمرهم من هذا الحصار المطبق الذي يكبس على أنفاسهم حد الاختناق ويجمد الدماء في قلوبهم..

قال أحدهم لصاحبه مغتاظا وهما يمران من أمام الجدار:

ـ ألا يكف هذا الطبشور عن أذيتنا..؟

وأجابه صاحبه وهويقرأ جملة كتبت على الجدار:

ـ اللسان الذي لا يصرخ في وجه الظلم لا يستحق إلا القطع.

ـ ما ذنبنا نحن.. نعاقب بجرائم لم نرتكبها..؟

ـ أن تموت في سبيل مبادئ تؤمن بها خير من العيش في بلد يقتل شعبه باسم الحرية.

ـ أف لك.. تردد كتاباته وكأنك ببغاء..

ـ مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة والإنسان الفاشل الجبان من يعجز عن تحريك قدميه ليخطوهذه الخطوة.

واقترب منهما شرطيان فانصرفا في صمت والجدار يصرخ:" يا أهل الأرض، أن تموتوا بشرف في سبيل حريتكم المغتصبة خير من أن تعيشوا أذلاء في ظل حرية كاذبة.."

وهتف الشرطي في سخرية قاتمة:

ـ ما كنت أعتقد يوما أن هذا الجدار العفن سيصبح له شأن..؟

رد صاحبه وقد اشتعل قلبه غيظا:

ـ قريبا سيعود إلى قبره نسيا منسيا..

ـ إذا لم نقبض عليه الليلة فعلينا رحمة الله..

تلألأ في عيني صاحبه بريق غريب بينما استطرد يقول في شبه عجز:

ـ لا أدري كيف يهرب منا .. كأنه شبح..؟

ـ وبدءا من اليوم سنكون نحن أيضا أشباحا..

ـ وإذا أفلت الليلة من الكمين..؟

رمق الشبح الواقف بقرب الجدار بنظرة حادة.غلى الدم في عروقه وتفجرت في رأسه كل الإهانات والشتائم التي تلقاها بسببه فاشتعل الحقد في قلبه وضغط على الزناد. لهاث متواصل وأنة مكتومة وصوت ارتطام جسد ثقيل بأديم الأرض وعين مرتعبة جامدة في الظلام لا تصدق ما ترى ثم صمت ثقيل تسيد المكان لثوان قليلة ثم تمتم الرجل المرتعب قائلا:

ـ لقد قتلته..؟

أجاب وهويلهث:

ـ وأنا قتلني قبل اليوم مئات المرات..

ـ وماذا ستقول له غدا..؟

وخيم صمت ثقيل على المكان للحظات قبل أن يأتي الجواب مقتضبا حانقا كالعادة:
ـ لاشيء.. هرب كالعادة..

وقف الشرطيان يلوكان بهجتهما على مقربة من الجدار وضوء الفجر ينداح هادئا يغسل قطرات الدم المسفوح على الأرض الباردة وتسحب أذيالها الفضية همسات ندية ترثي الطبشور المتهشم وتمسح دموع الجدار الحزين. في تلك اللحظة مرت أم فارعة الطول من أمام الشرطيين تسحب خلفها طفلها الصغير مسرعة حتى ما إذا اقتربا من الجدار تملص من قبضتها وانهمك يجمع شتات الطبشور المتهشم ويكدسها في يديه الصغيرتين ثم نظر مليا إلى الجدار المهترئ بحسرة ثم إلى الشرطيين، ثم عدا خلف أمه تطوقه النظرات بينما بقيت آثار أقدامه الصغيرة مرسومة فوق بقعة الدم الكبيرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى