السبت ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧
بقلم هاتف بشبوش

عبد الحسين الشيخ موسى الخطيب ونداء الجراح(3).

عبد الحسين حتّى في سفره يتطلّع إلى الجمال و هذا ديدن الشّاعر أنّى حطّ وارتحل فهو باحث دائمي عمّا يدور في فلك النّساء ولذلك قال عن العذراوات الكرديات العفيفات اللّواتي صادفهنّ وهو في كفري أبياتا تدفئ كوامن العاشقين كما في أدناه (من عذارى الجاف....1949 كفري):

خطرت تعطو بأبراد الدلال تخجلُ البان بقدٍ واعتدال
خطرت اي والذي أرسلها فتنة تفتن آلاف الرجال
بقوام ضعفه في خصره عاجزُ عن حملِ أردافٍ ثقال

أبهجني الشّاعر عبد الحسين هنا في غزليّاته... فأدب الغزل و الآيروتيك أدب رفيع، قديم قِدَم اكتشاف الإنسان لقيمته الإنسانية، حفلتْ به الكتب السماوية قبل الكتب الأرضية.. إنّه وجه من وجوه فلسفة الجمال والإثارة.. الآيروتيك ليس الخلاعة أو"الستربتيز"... إنّه صلاة الجسد في أسمى تجليّاته وتماهيه. ولذلك جاء البيت الأخير من الشذرة أعلاه ليذكّرني ببيت غزل شعبي (من تمشي جنهه اثنين جاسمهه الحزام.... مثل اليعد ليرات يانكل الجدام).
ثمّ في مجالٍ آخر يغضّ الشّاعر نظره عن إحداهنّ لما فيها من الغريزة الفياضة المكبوتة والتي تريد أن تغري بها الآخرين لكنّها لا تنفع رجلا شاعرا عفيفا كما عبد الحسين، لنتمعّن فيما قاله عبد الحسين وهو يغضّ الطّرف عن جميلة من الجميلات الحسان في نصّ (إحداهنّ):

تبالهتُ عن نهدك الثائرِ وأغضيتُ عن طرفك الفاترِ
و شاغلتُ نفسي بخوض الضنون مخافة مبسمك الماكرِ
تحديت كل جمال خليع وارعدت من صدرك الفاجرِ

هذه المرأة لم تتصرّف اعتباطا في نظر المنظرين والفلاسفة الفرويديّين وغيرهم من الذين كتبوا عن أسرار النّساء والغرائز الجنسية وثورة الجسد وما يتطلّبه لإشباع غروره وجماله.
الإغراء هو البحث عن الحبّ وحين يكون في أشدّ إغرائه كما في القصيدة أعلاه فهذه تعني البحث عن الجنسانية.

الرّوتين والملل يحكم ديمومة الجنسانية وأكثر الأمراض النفسية تأتي نتيجة خفوت هذه الجنسانية التي يغوي بها الربّ عباده حتّى في الحياة الأخرى حيث الحديث عن الحوريات ولكن إذا ما كانت الجنسانية في مراحلها العظيمة وعلى طول خطّ الحبّ الدائر بين طرفي المعادلة الجنسية فهذا هو ضرب من الخيال و إذا حصلت فيحسد عليها الطرفين ويتوجّب عليهم القيام بالاحتفال الذهبيّ لزواجهم أو عشقهم على مروره خمسين عام كما يفعل الغربيّون. ورغم ذلك هناك من يقول من أنّ المشاعر والأحاسيس هي الغالبة في كلاّ الأحوال والمنتصرة على التّعامل الإغرائي والإثارة بين طرفي المعادلة الجنسانية) ثمّ هناك من النّساء في الغرب تقول لحبيبها (مشاعري و قلبي وأحاسيسي وجسدي لك دائما).. و إذا حصل وضاجعت أحدهم فلا ضير في ذلك من قبلها باعتبار أنّ مابين أفخاذها لها، وهذه الحالة ضئيلة جدّا بين أوساطهم لكنّها موجودة.

في القصيدة أعلاه أيضا نرى أنّ الشّاعر يدعو للتصوّف الوقتي أو الحيادية عن إغرائها وبسط جسدها المثير، أي أنّه عفّ عنها في تلك اللّحظة التشاكسية الإغرائية. هناك مثل شائع يقول (أعطِ المجرّب واترك المحتام) إنّ المحتام هنا أقصد العازب مثلا الذي لم يدخل تجربة اللّذة والانتشاء،أمّا المجرّب المفطوم فهو الأكثر اشتياقا للحبّ والجنس الغريزي لأنّه قد ذاقها واكتوى بنارها وهو العارف بعذابها أكثر من العازب فعلى المرء إن أراد التصوّف أن يمرّ بالتّجربة أوّلاً ثمّ يُقرّر ما هو الفرق في التمتّع بجسدها الجميل أو من عدمه، حتى رابعة العدوية المتصوّفة التي مثلت شخصيتها بفيلمٍ ممتع الفاتنة (نبيلة عبيد)، فهي مرّت بتجارب الجنس والحبّ الكثيرة واهتزّت بالجماع تحت جسد الرّجل لكنّها في النّهاية قرّرت العشق الالهي والتصوّف. وهنا نرى الشّاعر عبد الحسين لم يكن محتاما أبدا بل كان متزوّجا مجرّبا فهو حين عفّ عنها كان مثالا للشّجاعة والرّجولة التي قلّ نظيرها لا كما أولئك الشّبقون الرّاكعون إلى سيقانِ النّساء أكثر من الدّخول إلى قلوبهنّ، فأولئك قد خبا الإنسان في دواخلهم و مات.أو أنّه ليس كما ذلك الأمير السعوديّ القذر المولـعٌ بحبوبِ الكابتاغون كيْ تكون لهُ القدرة الهائلة مع زيجاتهِ الأربع و محظياتهِ التّسعةِ والتّسعين كيْ يمارسَ الجنس الدّائم بإحليلٍ قائـم. ومع هذه وتلك نرى الشاعر عد الحسين لا يمكنه أن يبتعد عن جمالات المرأة التي خلقها الربّ له فهي ضرورة حتميّة في كلّ مسارب حياته الشقائية أو المترنحة فأعطانا نصّه الجميل بحقها (سكرة):

كم سكرنا على القبل سكرة تذهب الخجل
وأدرنا كؤوسنا من رضابٍ هو العسل
هي تملي لي ثغرها من لماها بلا ملل
وأنا أحتسي به ذاك جامي فلا تسل

يتوجّب على المرء أن يجرّب كيف يكتوي بنار الحبّ، يتوجّب عليه أن يذوق الجنس الغريزي ويصعق بكهرباء أوّل قبلة من حبيب عرفه وأعطاه شفتيه كبراعم ناعمة ولذيذة الطعم، عليه أن يجرّب كيف يتعرّى أمام الحبيب في أوّل عرسٍ له لكي يعرف قيمة الجمال الحقيقي لجسده و يعرف ما هي النّعومة التي خلقها الربّ الرحيم لدى النّساء وما هو هذا التّوحيد بين الطرفين أثناء هزة الجماع الحقيقيّة التي هي بمثابة صلاة يؤدّيها الطّرفان للمعبود الخالق في لحظة غياب حقيقيّ نحو السّعادة الكبيرة و الأورجازم.

الميلاد والموت لدى الشاعر عبد الحسين الخطيب.

من خلال الحبّ وُلدنا ومن خلاله ترعرعنا و وصلنا إلى ما نحن فيه وكتبنا أشعارنا في الأوان أو بعد حين، وها هو الشّاعر عبد الحسين المحبّ والعاشق للمرأة أو لفلذة أكباده يكتب لنا نصّا ناجما عن الحبّ بوجهه الأبويّ أو عن التّماهي في ولادة ابنه علي عبد الحسين الذي أصبح هو الآخر شاعرا معروفا في الأوساط الأدبية والذي قام بمهمة طباعة ديوان أبيه هذا الذي بين أيدينا (نداء الجراح)، فهذا الشاعر الابن...من ذاك الأبِ اللّغوي الصّادح بالشّعر، لنقرأ نص (تأريخ ولادة علي..1951):

أعطاني الله ونعم العطاء فالحمد لله على ما أفاء
في يوم عيد المصطفى أحمد شعشع في بيتي بدر السماء
لله من يوم جميل به نلت على رغم العدا ما أشاء

الولادة فيها الكثير من المعاني فهي تعني علاقتنا بالمرأة لأنّها الأخت والحبيبة والزوجة والأمّ التي قال عنها الشّاعر عبد الحسين في ديوانه هذا (و اسمكِ يا أماه لحن بديع / الصخرُ من رقته يطربُ) الولادة هي يوم جديد وزيادة نسل عكس الموت الذي يمضي بنا إلى نهاية حتوفنا وتناقص أعدادنا وانقراضنا..الميلاد هو ديمومة البقاء والأمل الذي يعطينا جرعة زائدة من مصل الشجاعة ضدّ الموت، ولذلك نجد الشّاعر بهذا الخصوص ومن باب الوجدانيات يكتب نصّا إلى صديقه الدكتور عبد الكريم عبد المطلب 1990 في مستشفى اليرموك حيث الشاعر عبد الحسين يرقد هناك مريضا ويشكو إليه بألم وحرقة، وهذا النصّ هو بمثابة الخوف من الموت الذي أرّق جميع الأدباء والعلماء والمبدعين لنرى الشّاعر أدناه ماذا يقول بخصوص مرضه:

يابن الأكارم لم أشعر بفائدةٍ وقد ذويت ولم أشعر تحسينِ
هلا تداركني ياخير مقتدرٍ على العلاج وباسم الله تشفيني
فلا أذوق الكرى والسهدُ يقتلني ولاسميرُّ سوى الآهات تشجيني
طوراً أئنُ وطوراً أصطبر خجلاً وصار جسمي نهباٍ للسكاكينِ

ثمّ يستمرّ الشّاعر فنفهم أنّه مات بمرضٍ عضال:

دائي خبيثثٌ ولا أرجو الشفاء له إلاّ إذا شاء ربي ذاك أو رحما
الموت حق وحتم لا مرد له مصير كل امريْ ان جد او قدما

مرض العضال هذا الرّهيب الذي أصاب ملايين البشر وشكّل قصصا حملت التراجيديا المبكية ذات الصدى الحزين، وفي يوم وأنا أنظر لشاشة التلفزيون و إذا بي أرى لقاءا تلفزيونيا مع الممثل وكاتب الأغنية الشهير (باتريك سويزي) الذي رأيناه في مسلسل جميل للغاية عن العبيد واليانكي والعنصرية آنذاك، باتريك وهو في عمر الخامسة والخمسين ذلك الشاب الوسيم الذي هدّه مرض سرطان البنكرياس فتحوّل الى هيكل عظمي وكأنّه في عمر التّسعين وفي وقتها كان يعد الأيام لموته المحتوم وبالفعل بعدها مات بأيام تلك الميتة التي شكّلت منعطفاً تراجيدياً في عالم نجوم السينما.

الشّاعر عبد الحسين هو الآخر له لقاء ولكنّه ليس لقاءاً تلفزيونيا، بل مع ربّه الرّحيم فيناجيه وهو على فراش المرض كي يرحل إلى رواق الموت هادئا راضيا شاكراً على طريقة عمر الخيام... فيقول:

أجرني وانْ اغرقتني الذنوب وضيعتُ فيها طريق المصير
أجرني دعوتك انّ الدعاء هو الاعتراف بذنبٍ كبير
دعوتك يامن لديكَ الدعاء يجابُ وانْ كان جرمي خطير

ثمّ يوصي أن تكتب الأبيات التالية على قبره:

وها أنا ذا راحلُ مثلهم ويخلدُ في ألأرضِ سر المماة
فمابين سرّين عمري انقضى وثالثُّ سرٍ سابقى كذات

الموت هو حلم العدالة السرمدي، يموت المرء لكن النّوع يبقى فما من خلود وهذه متتالية أزلية لا تنتهي إلاّ بانتهاء الأكوان.. ويبقى بياض الكفن مثلما قال الشاعر المصري اليساري الراحل أمل دنقل هو البياض الوحيد الذي تتوحّد به سائرُ البشر، يموت المرء مهما يملك ومهما كانت سلطته فالحياة (إمرأة تستحمّ بدموع عشّاقها وتتعطّر بدماء قتلاها...جبران خليل جبران).
الحياة قاسية في جميع تفاصيلها لكنّنا نناضل في سبيل أن نعيشها حتّى آخر رمق وهذا هو السرّ الكامن الذي ليس له جواب.

كلمة أخيرة بحق الشاعر.

الشّاعر عبد الحسين الخطيب بالنسبة لي بمثابة ذكرى عظيمة أعلّقها في عنقي...شرف لي أن أكون بهذه المستوى فيحقّ لي أن أكتب عنه.

أنا فخور بهذا الشّاعر الفنار والسراج بالنّسبة لي، فهو الذي وصل الأسماع في كرمه و أخلاقه أولا ثمّ إبداعه ثانياً.... هو الذي كان يجود أبدا عن الشغيلة والمعدمين بأشعاره التي رسمت خطاها وظلّت مدوية حتّى اليوم. عبد الحسين مثل والت وايتمان الشاعر الأمريكي الذي لا يصمت أمام الحواجز التي تحول بين حبّ الإنسان ورفيقه وبين الزّوج والزّوجة والمدنية، بالمدينة والميلاد بالمولود....هو الذي تغنّى بجمال الطبيعة و أفيائها و ورودها والماء الذي يسقيها فهي كتاب الفنّ الخالد وقاموس الحبّ وقصيدة الوجود الأزلية، هو الذي صبّ اهتمامه الكبير في مديح علي والحسين (عليهما السلام) من خلال الردات الحسينيّة الثورية التي شغلت السلطة الغاشمة في ذلك الزّمان السبعيني، هو الذي كان وفيّا لإخوانه المبدعين أو من عامّة النّاس حيث كتب لهم نصوصا لكي يبقوا معه في صفحات التّأريخ أمثال الشّاعر السيد شاكر البدري، عبد الواحد كاظم،سعد صالح جريو، الشيخ عبد الحميد السماوي و غيرهم من السادة الأشراف.

وفي النّهاية أرى من أنّ الشاعر عبد الحسين الخطيب كما عرفته في تلك الأيام ولكثرة علاقاته الطيبة مع الآخرين وسماحته كأنّه يرفع شعار (البيركامو) الكاتب الفرنسي الشهير (لا تمشي ورائي أنا لستُ قائدا و لا تمشي أمامي أنا لست تابعاً، امشي بجانبي و كُنْ صديقي).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى