الأحد ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠
بقلم رندة زريق صباغ

على درب الوفاء نسير قدماً

كما في نهاية كل تشرين أول يرفض أخوه الثاني أن نستقبله دون وداع أخيه الأكبر والأكثر ثقلاً على قلوبنا وأكتافنا. فنحن من تربّينا على حمل الراية من جهة واستذكار الشهداء من جهة نسعى بكل ما أوتينا من قوّة كي لا ننسى ولا نتناسى، لا نبكي ولا نتباكى، لكننا ماضون على العهد والوعد وفاء لذكرى الغوالي وحفاظاً على تاريخ موجع حتى النخاع يزداد مع مرور السنين ولا يتراجع قيد أنملة.

هذا العام تصلنا الذكرى ونصلها بوجع ممزوج بالحسرة المضاعفة مع مرور عام ونصف على رحيل والدنا الغالي الذي ترك فراغاً هائلاً على كل الأصعدة الشخصيّة منها والأسريّة، العائلية والانسانية على الصعيدين العام والخاص.

هذا العام قرّر أخي سراج تخليد ذكرى جدنا الشهيد نعيم زريق بشاهدة رخاميّة تحمل صورته واسمه مع سنة ولادته وتاريخ الاستشهاد كناقوس ذكرى للأولاد والأحفاد وأبنائهم جيلاً بعد جيل فلا تموت الذكرى ولا تُنسى المجزرة والمعاناة.

مجزرة عيلبون تلك التي شربنا احداثها مع الماء ورضعناها مع الحليب، فهو حديث المرحوم والدي اليومي صبح ومسى وشي ما بينتسى ولن ينتسى، أبي الذي كان في الثامنة من عمره حينها وعاش الأحداث بتفاصيلها وتحدث بها وعنها، وأمي التي كانت دائمة الاهتمام بأن نعرف تاريخنا الفلسطيني والعيلبوني فيتحول جزء لا يتجزأ من شخصياتنا جميعاً تماماً كما لو أننا سرنا على أقدامنا مع مهجري القرية إلى لبنان بالبرد والوحل، بالخوف والجوع.

ربما كانت هذه الجرعات زائدة فحمّلتنا وزرها تباعاً لدرجة كبّلت أيدينا أحياناً وأدمت قلوبنا أحياناً أخرى، لكن المؤكد أنها أوجعت أرواحنا تعاطفاً وحزناً على والدنا الذي لم يشبع من أبيه وحنانه، والدنا فضل النعيم الذي بقي في الثامنة من عمره حتى حين بلوغه الثامنة والسبعين فقرّر الغياب شوقاً وحنينا لأب ضاع دون وداع وأب خطفته الأيدي الّاثمة دون بلاغ.

لطالما حاولنا أن نفهم نحن الأبناء كيف نجح أبونا ومن شابهه في المأساة أن يتخطّى ما حدث وما كان؟ كيف نجح بالاستمرار التحدي والاستمرار؟ كيف استطاع أن يكون عائلة وأن يربّي أولادا وبنات، أحفادا وحفيدات كلهم مثار فخر واعتزاز كبيرين ومكان احترام وتقدير كل من عرف أحدهم.

ها نحن اليوم نعي ما لم ندركه، وندرك ما لم نعيه، ها نحن نجرّب معنى أن تكون يتيم الأب بجيل تعدّى عقوداً فكم بالحري من تيتّم بجيل ثمانية أعوام وقد كان حليف والده وصديقه؟
أترانا فعلاً نفهم اليوم؟ ونتفهّم؟

لا أظن...

قرّر أخي سراج بدعم من أمي العظيمة أن يهدي روح والدنا تخليداً لذكرى جدّنا الانسان أولاً والشهيد ثانياً على أمل أن ترتاح روحه قريباً من أبيه في الحياة الاّخرة وفي شاهدة من رخام حملت صورته الوحيدة التي لا نعرف سبب أو زمن التقاطها، صورة مذهلة تجسّده قلباً وروحاً تجاور صورة أبنه فضل عاشقه الأبدي،

كما نقش قصيدة الكبير محمود درويش التي تجسّد حال اليتيم بعد وفاة والده تاركاً ايّاه بين من لا يكترثون لغير أهدافهم ومصالحهم.

لملمت جرحك يا أبي
برموش أشعاري
فـَـبكت عيون الناس
من حُزني .. ومن ناري
وغمست خبزي في التراب
وما التمست شهامة الجارِ

وطبعاً فلن نلتمس شهامة جار ولا بعيد دار أو قريبها، فلا حياة لمن تنادي ومن الأفضل ألّا تنادي. نم قرير العين يا أبي ويا جدّي فإنّ بعدكما من يكمل الطريق رافعاً الجبين شامخ الرأس، ومن تربّى على يدي فضل وكميليا ونبض قلبيهما وسار على دربهما الوطني والإنساني لن يسمح لأحد أو لشيء بتغيير مبادئه وسيرفع راية المحبة والكرامة، راية العطاء والصدق كما راية الشهامة، الرجولة والوفاء.

وأردّد ما قاله أخي سراج:- حتى لو كانت الخطوة متأخرة وجاءت بعد اثنين وسبعين عاماً من الانتظار فانها ضرورية جدا لراحة نفس والدي وجدي من جهة ولتذكير الأجيال بضرورة احترام وتخليد ذكرى اّبائنا وأجدادنا فكلهم شهداء بمعنى أو باّخر وليس فقط من قتل برصاص الاحتلال.
ألف رحمة ونور لروح جدّي نعيم وأبي فضل، لروح عمي الياس وابنه نعيم، لروح جدّي خليل وجدّتي فايزة، لروح خالي شوقي وخالتي نوال ولكل الرّاحلين.
وألف تحيّة لأخي سراج وأمي العظيمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى