الاثنين ٤ تموز (يوليو) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

قبيلة بني قبطان

يومها أقلعت السفينة لتمخر عباب البحر الذي كانوا يسمّونه بحر الظلمات، وكانت رحلتهم تطول لتستغرق أشهراً. وكانت سفينتهم الصغيرة بركابها القلائل مجتمعاً صغيراً فيه كبيرٌ للبحارة، ولكنّ كِبره كان ناجماً عن كبر سنه وبالتالي خبرته، ومن ثم يكون احترامه واجباً ولا غبار عليه.

وعندما كبرت السفن وغصّت بركابها صارت كقرية مغلقة معزولة، وسارت تلك السفينة براكبيها وكان عددهم بالمئات، وكان كل شيء على ما يرام ولا يوجد ما يعكّر صفو الرحلة الطويلة.

والموج ما زال هو نفسه منذ قال الله للموجة ، ثوري وانقلبي وأزبدي ولكن لا تتجاوزي الحدود ولا الشطآن المرسومة بالخرائط، والريح هي نفسها، بأن تلاعبي بالزوارق البشرية ولكن أوصليها بالنهاية لمراسيها إن كانت بأشرعة أو بمجاذيف، وتبقى السفن وهي وحدها من تغيّر، وما زالت تتغيّر.

وأعلن القبطان عن اجتماعٍ للركاب وجميع العمال لضبط سير العمل وتنظيمه خلال الرحلة، وانتهى الاجتماع بتعيين رئيسٍ للطباخين ورئيس لضبط الأمن ورئيس للفريق الطبي والمالي والوقود والأرصاد الجوية وغيرها.

وبعدها عقدوا اجتماعات مصغّرة للرؤساء بشكل دوريّ، وصار هناك على جدران السفينة ملصقات جدارية وإعلانات وبلاغات بفحوى الاجتماعات.

وعندما اكتشفوا بأن أحد الركاب من هواة الرسم، لأنه كان يمضي ساعات في رسم الأمواج وما وراء الأفق، عندها طلبوا منه رسم لوحة للقبطان كضريبة للترويج للوحاته وإلا ألقوها في البحر لتلوين موجاته، ورفعوها كإيقونة مقدّسة على العمود الرئيسي بالسفينة، وشيئاً فشيئاً صار لابدّ لك أن تنحني لو مررت بها، لا بل كلّفوا موظفاً بمراقبتها وتنظيفها وحمايتها من الميَلان لو عصفت الريح.

وشعر الجميع بالأمان لمجرّد وجود الصورة المعلّقة، فهي إن كانت قائمة فالأمن مستتب والأمل موجود ومعقودٌ بناصية اللوحة.

واستمرّت الرحلة بلا منغّصات، وكان القبطان يحذّرهم من القرصان الذي قد يداهمهم بأية لحظة بسفينته ذات الراية السوداء التي ترتسم عليها الجمجمة والعظمتان المتصالبتان. وما ظهر القرصان المرتقب من خلف الضباب، لكن مرض الطاعون ضرب السفينة، وأصيب بعض الركاب وألقوهم في البحر،وابتلعتهم الأمواج، ولم يحدث شيء إلا بعض الأنين المكبوت من ذويهم ، وقال القبطان بأنّ ما جرى هو حماية للمصلحة العامة، وبالنتيجة هو أيضاً تخفيف للأحمال.

وعندما مات رئيس المطبخ بالوباء خاف الركاب من فوضى الطعام الذي لا يُحسَب حسابه، فجمعهم القبطان وقال ساخراً، لا تخافوا لأن أوامر الطبخ كانت تصدر منّي ـ أنا ـ وما هو إلا طبّاخ ولو كبر طربوشه الأبيض.
وعندما مات ضابط الأمن خاف الركاب من فوضى الأمن وتحفّظوا على متاعهم الغالي، فقال القبطان في اجتماعٍ طارئ، لا تخافوا، إنه مجرّد شرطيّ وكلبٌ بوليسيّ، وأنا ضابط الأمن بالحقيقة.

وفي اجتماع احتفاليّ عقدوه بمناسبة عيد حورية البحر، قال القبطان:

 لو مات كل المسؤولين بالسفينة فلن يحدث شيء لأني أنا كل شيء، أنا الأول والآخر، وحاميكم وقائد مسيرتكم، وأنا المكلّف من بعد الله بإيصالكم لبرّ الأمان. الخوف موجود، نعم ، والعدو موجود، أيضاً نعم، يجب أن تخافوا من القرصان الخارجيّ أولاً، وأيضاً القرصان الداخلي كورم خبيث بدأتُ أحسّ بوجوده وبتناميه، إنهم ثلّة من المتآمرين من بينكم يفكّرون بالانقلاب عليّ.

هذا ، ولم يبق لنا إلا القليل للوصول إلى البرّ، ومع ذلك يطمعون بالقبطنة والسلطنة عليكم طمعاً في نهب مصاغكم وأموالكم، لكن خسؤوا!

وسكت القبطان إذ سمع الزغاريد من بعض النسوة، وهتافاتٍ تنادي بحياته ووجوب الولاء له وتجديد بيعته مهما طالت الرحلة.

ومرض القبطان قبيل الوصول إلى الشاطئ، وقال لمساعده ساخراً، تلك السفينة كانت تسير بفعل الريح والأشرعة والأمواج ولا دور لنا في تسييرها، ولا تحسب حساباً لسفن القراصنة لأنها لن تقترب منك، لكن احذر من المنقلبين عليك من داخل السفينة!!!

 مهلاً يا سيدي، ولماذا لن يقترب منا قرصان، مع أنك لا تفتأ تحذّرنا من هجوم القراصنة المباغت؟

 لأني تواطأت لمجتمع القراصنة الدوليّ، وأدفع لهم ما يشبه الجزية السنوية السرّية، لأعيش كقبطان تحت حمايتهم ويسمحون لي بحرّية الحركة، ولكني لا أصرّح بذلك لشعبي فأبقى بنظرهم بطلاً !

وقال مساعده وهو يشدّ على يده:

 تمالك نفسك يا سيّدي، ها نحن على وشك الوصول، وكأنني أرى منارة الشاطئ تومئ لنا مبشّرة بالوصول والخلاص من اليم.

وتنحنح القبطان وابتلع ما في حلقه الجاف، وقال:

 انتبه، إياك أن تقول لهم ذلك، دعهم بلا أمل، دع أفقهم مسدوداً وضبابيّاً

 ولماذا؟ وأنا أتلهّف للوصول أكثر منهم لأنقلك إلى المشفى!

 لا أريد المستشفيات، أنا أتشهّى الموت هنا على سفينتي، لأموت كقبطان، أما في المشفى فسيعاملونني كمريضٍ عاديّ، أنا هنا على سفينتي المتقلقلة زعيمٌ لقومٍ ولو كانوا قلائل، ولكني زعيم!! وإن متٌّ ستطلقون بمدفع السفينة إحدى وعشرين طلقة، أما لو متُّ في المدينة الشاطئية سأموت كنكرة.

استمع المساعد باهتمام، وشدّ ظهره وأرجع منكبيه كوليّ للعهد، وتلفّت حوله ليتأكد من تمام عزلتهما وبأن أحداً لا يسمعهما، وقال:

 فماذا أفعل من بعدكم ، أطال الله في عمركم!

ونظر القبطان في عيني مساعده، وأحسّ في قرارة نفسه بأنه سيكون أول المُجهزين عليه، ومع ذلك قال:

 أعرف أني سأموت بين يديك، وقد تكون أنت قاتلي، إذ أني أرى بريق عيني الذئب في عينيك، افعلها، كي لا يفعلها غيرك وارفع رايتي من بعدي، لكني أطلب منك ألا ترسو بسفينتك ولا تنهي رحلتك، قل لهم أن الطريق ما يزال طويلاً، والمدينة الشاطئية رفضَتْ استقبالنا بسبب طاعوننا، وأنكم ستسافرون لبلد آخر، اجعل رحلتك لا تنتهي، حافظ على المملكة التي ورثتها، ضعها تهيم إلى الأبد في البحار، زوّج رجالها بنسائها وابق ملكاً على مجتمعك الصغير

 وإن نفذت مؤونتنا ووقودنا؟

 تحوّل عندها إلى قرصان غازٍ وعش على سفن الغير واسرق سفنهم أيضاً إن شاخت سفينتك، المهم أن تبق ملكاً

وتنهّد المساعد محاولاً سحب أكثر ما يمكن من دهاء معلمه وسيده، وقال:

 وإلى متى؟

 حتى تقع على جزيرة لا بشر فيها، وهناك تنزل وتبدأ بإنشاء مملكتك الأرضيّة، سمها قبيلة بني قبطان، أو عشيرة أو دويلة أو مملكة!

ليلتها، دقّت ساعة الصفر، ومات القبطان، مطعوناً، ليس بالطاعون كما أعلنوا، بل بخنجر مساعده وصديقه الصدوق، وفي الصباح كان الجميع مجتمعين لتأبين الفقيد المؤسّس للمملكة الجديدة، وتلا عليهم وليّ العهد مع شهقات دموعه، تلا عليهم البلاغ، رقم واحد!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى